مكاوي سعيد - لمبة الست نفيسة!

يقول الكاتب «يحيى حقى» فى كتابه البديع (كناسة الدكان): إن إرضاء الناس جميعا من رابع المستحيلات، يأتى قبل الغول والعنقاء والخِل الوفى. ويدلل على ذلك بحكايته ككاتب مع القراء والأصدقاء الذين قرأوا أو ادعوا متابعة ما يكتبه. وأول المتاعب فى رأيه هى الحيرة الشديدة إزاء ملاحقة الناس له- أصدقاء وغرباء- بآراء شديدة التناقض. يقول له واحد عن قصة نشرها: «إياك أن تعدل عن هذا النوع، شىء بديع وحاجة عظيمة».. وآخر يقول له عنها: «لم أفهم كلمة واحدة.. ماذا تريد أن تقول؟ ينبغى أن تعدل عن هذا النوع إلى غيره، وتكتب كبقية زملائك الناجحين عن الحب والمراهقات، هذه هى بضاعة اليوم». وأظل بعد ذلك أياما تسمع أذنى اليمنى وسوسة من اليسار تقول: «اعدل عن هذا اللون»، وتسمع أذنى اليسرى وشوشة من اليمين تقول: «إياك أن تعدل عن هذا اللون»، فإذا أمسكت بالقلم تلجلجت طويلا ولا أفلح فى خط كلمة واحدة إلا إذا نسيت الاثنتين معا.

وتتوالى المتاعب لتصل إلى الأدهى من ذلك، حينما يجد أغلب الناس الذين يعاشرهم عن مودة قديمة أو حديثة قد انقلبوا فجأة إلى «متعهدى توريد مواضيع قصص بالمجان ولوجه الله». كل واحد منهم إذا قابله روى له من الباب للطاق حكاية سخيفة أنهاها هكذا: ألا تصلح بذمتك موضوع قصة هائلة؟ لماذا لا تكتبها؟ وطبعا هذا الصديق المتطوع يخفى العزم على التنديد به إذا كتب القصة ويشيع أن يحيى سرقها خلسة من حضرته. وهذا التطوع شائع بين كثير من الناس، يظنون فى أنفسهم خفة الدم وهم ثقلاء جدا، بل هم من الغرور بحيث يؤمنون بأن كتابة القصة عبث لا يليق بكرامتهم، فيخلعونه على الحمقى من الكتاب أمثالى مدا لهم فى غيهم السخيف.

ويضيف الكاتب «يحيى حقى» بخفة دمه المشهور بها: «تصور أننى اضطررت أخيراً لأن أهرب من الحلاق الذى أتزين عنده منذ صغرى، رغم أننى كنت أستريح لرقة لمسته وهو يلكز رأسى ليجعلنى أطأطئ البصلة لينكشف له قفاى عن آخره. أتدرى لماذا هربت؟ لأنه بدأ أيضاً يقترح علىَّ موضوعات لقصصى. حتى جاء علىّ زمن أصبحت فيه لا أقوى على دخول دارى إذا رجعت آخر الليل بعد أن أحك على بلاط السلم كل ما علق بجعبتى من هذه الحكايات كما يحك العائد من ليلة مطيرة حذاءه على الممسحة الليف أمام الباب. (على فكرة: لماذا اختفت هذه الممسحة فى أيامنا هذه؟).

ويأتى يحيى حقى للطامة الكبرى فى اعتقاده قائلا: والألعن من هذا كله.. رجل لا أعرفه، أقابله فى مكتب حكومى فى شغلة، ويكون قد سمع باسمى ولا أدرى أين. فأراه يترك المسألة التى جئته من أجلها ويُقبل علىّ متعطفا ودودا وهو يقول: «أنا مبسوط يا أستاذ من قصتك المسلسلة». رغم أنى لم أكتب فى عمرى قصة مسلسلة، أو يقول إنه معجب بكتابى الأخير، فإذا نكشته تبين لى أنه لم يقرأه. وآخر الدواهى رجل قال لى أخيراً وهو يمدحنى بلا سبب ولا غنم: إنك رجل تقدمى، ولكن هل كتبت شيئا بعد «لمبة الست نفيسة»؟

يشير إلى قصة كتبتها منذ أكثر من عشرين عاماً باسم «قنديل أم هاشم».

خرجت من عنده وأنا أكاد ألطم الخدين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى