لميس سعيدي - رحلة أبي إلى كوبا: الملصق والأسطوانة التي لم تُشرخ بعد

كان من الطّبيعي أن يحكي لي والدي تفاصيل رحلته إلى كوبا أكثر من مرّة، وكان من الطّبيعي أيضاَ أن لا أتذكّر تلك التّفاصيل لأعيد اكتشافها بالشّغف ذاته في المرّة القادمة؛ المرّة القادمة التي حلّ الموت محلّها، لتبقى ابتسامته عالقةً في الذّاكرة كزينة تتدلّى من السّقف، وعلبة السيجار الكوبي الفارغة ممدّدةً على مكتبه، كقبر الجندي المجهول.

في صيف 1978، زار المثقّف والمناضل والمسؤول في الدّولة الجزائرية محمد سعيدي(1934-2014) كوبا ضمن وفد رسمي، للمشاركة في الطّبعة الحادية عشر للمهرجان العالمي للشّباب والطّلبة بمدينة هافانا، تحت شعار: «من أجل التضامن ضدّ الامبريالية، السّلام والصّداقة»؛ لا أدري ما الذي يحمله اليوم مسؤول ما لدى عودته من زيارة دولة ما ضمن وفد رسمي، إلا أنّه في سبعينيات القرن الماضي، أي في تلك الحقبة التي تقع في الحدّ الأقصى من كلّ شيء، حيث يغيب أي منطق للحياد أو التفاوض بين الحالم بزمن تتحقّق فيه الثورة وبين الساخط على الديكتاتور، عاد والدي بكنز ثمين لم أكتشف وجوده إلاّ في صيف 2016.

كنز اكتشفته في «إلدورادو» بيتنا القديم بحي تيلملي، في مدينة الغبار الضّائعة، في مكتبته. أستطيع أن أخمّن الآن، سبب اختيار الشيوعيين للون الأحمر؛ فمهما كان انفصالك الوجداني عن ما يحدث في العالم، ومهما وصلت بك الكآبة إلى درجة قاتلة من اللامبالاة، إلاّ أنَك لا تستطيع أن تكبح فضولك أمام محفظة ورقية هائلة الحجم، لونها أحمر.

قبل تلك اللحظة، لم أكن أعرف شيئاً عن الملصق الكوبي؛ لم أكن أعرف إن كانت مجموعة الملصقات التي تحتويها المحفظة الحمراء التي تحمل صورة تشي جيفارا بالأسود مع عبارة «حتّى النصر دائما»، هي مجرّد تجميع عشوائي لأشياء مصوّرة من زمن انتهى، تماماً كتجميع الطوابع البريدية، أم أنّها مجموعة أعمال فنّية اختيرتْ بعناية لتمثِّل تيّاراً فنّياً خاصا وتوجّها إيديولوجيا لا يتنازل عن شرطه الجمالي.
ملصق كوبي
ملصق كوبي

لم تكن المحفظة الحمراء تضمّ ملصقات حمراء رُسمت عليها صور الزّعيم، أو وُضعت عليها تصاميم كليشيه لبروباغندا ركيكة، لكن بالإضافة إلى نصّ – نقدّم أسفله ترجمته إلى اللغة العربية – وضعته دار النّشر الشّهيرة بهافانا «لَتراس كوباناس» وتشرح فيه تاريخ الملصق في كويبا وتوجّهاته الإيديولوجية والجمالية، اكتشفتُ بفرح نادر ثمانية عشر ملصقا بتصاميم وأنماط ومحتويات مختلفة، تتنوّع بين الملصق السينمائي، والملصق ذي الطّابع البروباغندي البحت والملصق السّياسي أو الثّقافي.

ثمانية عشر ملصقا تخدش الصّورة الواحدة واللون الواحد والشّعار الواحد؛ نجد مثلاً ملصقا للفيلم الفرنسي «قبلات مسروقة» للمخرج فرنسوا تروفو وملصقا لفيلم وثائقي للمخرج الكوبي أوكتافيو كورتاثار.

ملصقات ثورية – كما يصفها تقديم «لَتراس كوباناس» – تقدّم صورة مبهجة ومتعدّدة الألوان عن الثورة الكوبية، هذا التعدّد الطّالع من عباءة حمراء واحدة لا يحيلنا بطبيعة الحال إلى تعدّد ديمقراطي وفكري كما نفهمه اليوم ونحلم به، لكنّه يحيلنا إلى ديكتاتورية تعرف كيف تستغل الفنّ والتطوّر التقني لتحافظ على صورة مثيرة لا يتجاوزها زمنها الحالي، ديكتاتورية تقمع وتجذب في الوقت ذاته، وحين تنتهي تترك جثّة جذّابة.

الغريب في الأمر أنّ والدي لم يحدّثني يوما عن هذه الملصقات، لكنّه احتفظ بها رفقة أسطوانات موسيقى كوبية في مكان آمن لمدّة تقارب الأربعين سنة؛ أسطوانات سليمة تماماً ويبدو أنّها استُعملت مرّات قليلة جداً، أسطوانات تدور بشكل سلسل في الغرامافون لتنبعث منها موسيقى حميمة، تلك الموسيقى التي تخبرنا عن أزمنة لن تعود وربما لم توجد أصلاً. احتفظ بها بعيداً عن عبث الأيدي والغبار والرّطوبة والزمن؛ ولكي أكون أكثر دقّة وانصافا فالفضل كلّه يعود إلى والدتي التي حافظت على كلّ حبّة غبار في المكتبة واعتبرتها جزءًا من الأرشيف الثّمين الذي لا يجوز التفريط فيه.

لم يكن والدي شيوعياً ولا مدخّنا، لكنه في مناسبات قليلة ورفقة بعض الأصدقاء، كان يروق له تناول سيجار كوبي ونفخ دخانه بتلك الطريقة التي توحي بأنه يتأفّف في وجه عالم لم يعد يشبهه.

" width=

الملصقات الكوبية

الملصق ليس أكثر من فكرة، صورة منتقاة، تتحوّل من خلال طباعتها إلى مادة مرئية مخصّصة للتوزيع على نطاق واسع. أهدافه، تحدّدها مصالح من يملكون وسائل الانتاج.

منذ انتصار الثّورة، بدأ الملصق الكوبي بالتخلّص من النّفايات التّجارية والسّياسية التي كانت تثقل كاهل مصيره، في الوقت ذاته الذي كان يستعيد فيه الإرث العظيم للأعمال السابقة ذات المحتوى الثوري أو الثقافي، والمطبوعة ضد تيّار الأفكار والآليات الرأسمالية السائدة في الجمهورية البرجوازية الوهمية، هذا بالإضافة إلى التّطور التقني الكبير الذي وصلت إليه البروباغندا التجارية السابقة.

بدأ فنّ الملصق في الثورة سنة 1959 – ثمّة أعمال مطبوعة تؤكّد ذلك – ليصل سنة 1962 إلى درجة عالية من تحقيق الهوية والفعّالية، ثم ليلحق في بداية سنة 1967 بازدهار كبير للتّيارات والتوجهات الأسلوبية، التي أضافت أصالة وثراء كبيرين إلى الملصق ذي الطابع السياسي. منذ تلك اللحظة وإلى يومنا هذا، سيتعمّق الملصق الكوبي في أهدافه التوسعية وتساؤلاته الجدّية، باتجاه بروباغندا موجَّهة علميا وقادرة على الارتقاء إلى المستوى الاقتصادي والاجتماعي للثّورة المستمرة. في كوبا كان الملصق ولا يزال، وسيلة تحريض رائعة، تنجز على نحو فعّال مهمّتها في التّربية السياسية، الأيديولوجية، الثقافية، التكنو علمية، الأخلاقية والاستطيقية، للشّعب.

إذا فحصنا بعناية هذه المجموعة الصّغيرة من الملصقات المرتّبة زمنياً، نستطيع أن نجد فيها، بالإضافة إلى قيمتها الجمالية التي لا تقبل الجدل، عينة من أكثر الثيمات والوقائع أهمية خلال هذه السنوات من الثورة المنتصرة: النداءات من أجل الدفاع عن الوطن، الحملات الشعبية، التنمية القوية في المجال الثقافي والتربوي…إلخ. هذا الوضع هو النتيجة المصوَّرة للصّلة الوثيقة بين الملصق والعملية الثورية في كل مراحلها ومظاهرها؛ وهي الميزة الأساسية التي تحدّد وتدفع بمساره.

»المفاجأة« – إثر المواجهة الأولى – التي يستطيع أن يتسبّب لنا فيها ازدهار الملصق الكوبي خلال الثورة، تزول حين نضع هذا الازدهار في السّياق الاجتماعي الذي احتضنه. الملصقات المؤثِّرة والمطبوعة من طرف ورشة التصميم والنصّ في قسم التوجيه الثوري في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الكوبي، ظهور الملصق السينمائي بجودة استثنائية، الأهداف والإنجازات الجديدة للملصق ذي الثيمة الثقافية، الملصق السياسي المميّز الذي تنجزه منظّمة التضامن مع شعوب آسيا، أفريقيا وأمريكا اللاتينية…إلخ، كلّ هذا هو النتيجة الرائعة للتغيير الشامل الذي حدث على مستوى الهياكل والمفاهيم، بالشّكل الذي لا تستطيع أن تحقّقه سوى الثورة.

في هذه القائمة الموجَزة للملصقات – التي ضمنّاها بعض «الكلاسيكيات»– سنلاحظ حضور الثورة بطريقة أو بأخرى. وهذا ما حقّقته التنمية القوية في المجالين الاقتصادي والاجتماعي التي أنجبتها الثورة الاشتراكية الأولى في القارة الأمريكية، والتي حرّرت كلّ الطّاقات الإبداعية والتوسعية لأداة الانتشار الشّامل المهمّة، والتي أصبحت من أبرز إنجازات تطوّرنا الفني، وهي: الملصق الكوبي.

دار نشر «لَتراس كوباناس»، هافانا، كوبا 1978


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى