سعد محمد رحيم - عن أدب اليوميات

إذا صنّفنا كتابة اليوميات من ضمن الأجناس الأدبية السردية ( وهي كذلك، في رأيي، على أن تتوافر على شروط فنية معينة ) فإنها تكون أكثرها بُعداً عن التخييل. وأجمل ما في أدب اليوميات تلقائيته لأنه ينتج عن فعل ووازع عفويين، ويتشكل في جمل واضحة، مباشرة، مفككة أحياناً لاسيما حين لا يتوقع الكاتب نشر ما يكتب، ولا يتهيب من قارئ يترصده، أو ناقد يحصي عليه هفواته. مثل هذه الكتابة تكون غالباً حارة طازجة، فيها الكثير من الحميمية والصدق لأنها تسجل، كما نتوقع،، وقائع حاصلة وانطباعات حقيقية. وحين تقع في يد قارئ ما ( حتى بعد مدة طويلة ) فإن هذا القارئ يشعر بقربه مما يتحدث عنه الكاتب؛ أو يعايش ما يقوله الكاتب. فكتابة اليوميات تأخذ منحى المناجاة الذاتية تارة، أو تفترض قارئاً متفهماً متعاطفاً تارة أخرى.

قد يكون دافع كتابة اليوميات هو الانهمام بالذات، أي تأكيد الطابع الأناني للمرء عبر جعله أناه مركزاً للعالم. وقد تغدو مثل هذه الكتابة أمراً أشبه ما يكون بالتحقيق الجنائي. وهذه المرة لفك بعض غوامض الوجود وملابساته، أو من أجل أن يفهم الإنسان نفسه أو الآخرين أو محيطه.. أكتب لأفهم في أثناء الكتابة؛ علّني أفهم. ولست أكتب لأنني كنت أفهم ( قبل الشروع بالكتابة ).. تماماً حسب وجهة نظر آلان روب غرييه، وهو يلخّص عملية وآلية كتابة الرواية الجديدة.

تكتب يومياتك لأنك في فضاء آخر، في غير وضعك المألوف، أو خارج بيتك أو بيئتك الصغيرة؛ في مواجهة الاستثنائي والمجهول والمدهش والغريب.

يكتب الثوري اللابد في الجبال يومياته. وكذلك تفعل العاشقة المسهدة في ليل الأسى. ومثلهما، ينغمس بهذا الطقس المسافر المفتون برؤية البلدان الغريبة، والرحّالة الذي يعبر مفازات الصحارى، والأنثربولوجي وهو يعايش قبيلة بدائية في غابات الأمازون، وعالم الآثار وهو يتوقع مفاجآت سارة في عملية تنقيبه عمّا خلّف الأقدمون. والحال عينه مع المستكشف الجغرافي، متسلق الجبال، الدبلوماسي الذي يقوم بزيارات مكوكية لحل قضية سياسية مستعصية، المراسلة الصحافية في منطقة ساخنة، المعلِّمة في قرية نائية، الطبيبة في مكان خطر ينعدم فيه الأمن، أو بلاد موبوءة، المنفي رغماً عنه، السجين، المعتقل ( إن وجد الأقلام والأوراق ). الجندي في حرب ضروس، المهندس المسؤول عن تشييد برج عالٍ في ظروف مناخية غير ميسّرة، المخرج الذي يواجه صعوبات في إخراج فيلمه، الكاتب الذي تعترضه مشكلات خلال محاولته إنهاء كتابه، الخ، الخ..

توفِّر كتابة اليوميات مادة أرشيفية غنية للدارسين في حقول معرفية متعددة ( التاريخ، السياسة، علم الاجتماع، الأدب، الفن، الأنثربولوجيا، علم النفس، الخ ) لأنها تلقي نظرة فاحصة على صورة الحدث الشخصي الجاري على خلفية الحدث التاريخي العام. وتفيد أحياناً في التحقيقات الجنائية أو الإدارية. وتصبح مادة أولية ممتازة لكتابة السيرة. وحين يكتب روائي ما يومياته في موازاة كتابة روايته نكون قد حصلنا على نص آخر، مناظَر للنص الأصلي. وربما لا نعثر على بعض مفاتيح نص الرواية إلا بين تضاعيف النص/ الظل ( اليوميات ).

لم تُكرّس كتابة اليوميات عندنا تقليداً أدبياً واجتماعياً، كما هو حاصل في الغرب. وحتّى معظم كتّابنا لا يلجأون إلى هذا النوع من الكتابة. وربما يعدّونها مضيعة للوقت والجهد. فيما حظ هذا النوع من الكتب في الترجمة عن الآداب الأخرى أقل من كتب السيرة والسيرة الذاتية. وقد يعود السبب في هذا إلى الطابع الشديد الخصوصية لليوميات، وما تحفل به من تفاصيل وإسهاب في سرد الأحداث ونقل المشاعر والانطباعات والتي يجدها القارئ مملّة، أو لا تعنيه من قريب أو بعيد. فضلاً عن افتقاد اليوميات إلى التماسك الدرامي. ذلك العنصر الذي يشدّ قارئ الرواية والسيرة. وأعتقد أن مخطوطات اليوميات لبعض الكتّاب العرب الشغوفين بتدوين يومياتهم تبقى منسية في الأدراج، وتتعرض للتلف المتعمد أو غير المتعمد، لاسيما أن عائلات الكتّاب المتوفين، بسبب المواضعات الاجتماعية الحادّة، لا يسمحون بعرض أسرارهم وأسرار موتاهم في النور.

يوميات الكتّاب:

معظم الذين يدوِّنون يومياتهم إنما يدوِّنونها لأنفسهم ولا يفكرون بنشرها على الملأ. غير أن الأمر لا يكون كذلك، غالباً، فيما يخص الكتّاب.

في يوميات تولستوي، المنطوية على بعد وعظي، تربوي، نلمس تلك المسحة الرقيقة من الروحانية التي طبعت حياته بطابعها. تلك النبرة الوقور المتقشفة التي تنقل لواعج النفس وخلجاتها الصافية، وتأنف من الإفصاح عن الجانب المحتدم الحسّي للجسد. فيما تكتسي يوميات فرجينيا وولف بغلالة كئيبة تعبّر عن روح معذّبة تحدّق في العدم، هي التي ستكتب قبل بضعة أيام من انتحارها غرقاً في مارس 1941؛ "لديّ إحساس هائل يشبه الإحساس بشاطئ البحر حيث كل واحد يحارب ضد الهواء، ويجد نفسه ممسوكاً من الفراغ، أو فارغاً من جسده".

أما في ( يوميات لص ) لجان جينيه فتألف نفسك مع روح ملعونة متمردة، مستوحشة، متوحدة، حزينة، تلتم على مزيج غريب من الوجد والقسوة والألم، ولكن مع كثير من الإباء والنبل والكبرياء على الرغم من أنه، في معظم الأحيان، يتحدث عمّا يعد موبقات في نظر المجتمع كالسرقة والشذوذ الجنسي. إن في تجلي روحه عارية عبر الكتابة تعبير عن صرخة احتجاج وإدانة للمجتمع البرجوازي الذي وجد نفسه، منذ طفولته، منبوذاً فيه.

تختلف الحال مع كافكا الذي أوصى صديقته (ميلينا ) بحرق يومياته على غرار وصيته لصديقه ماكس برود بحرق قصصه ورواياته. لكن تلك اليوميات وقعت أخيرا في يد برود الذي أخلّ بعهده ونشر أعمال الكاتب، ومنها اليوميات التي تغطي ثلاث عشرة سنة من حياته ( 1910 ـ 1923 ) ويصل فيها إلى درجة عالية من الصدق المشع مع الذات، كأنه في حالة تصفية حساب معها. أو أنه من خلال هذه الكتابة كان يمارس طقس تطهّر موجع؛ في محاولة يائسة لاستعادة طمأنينة مفقودة.

في يومياته يتحدث كافكا عن الأدب والحب والخوف والأمل والفشل والكوابيس.. نتعرف على أغوار نفسه القلقة وأفكاره التي تبدو وكأنها تدور في رأس إنسان يطل على الهاوية ويرى الهول. إن يومياته مثل أدبه السردي مطعّمة بالتهكم، بالسخرية المرّة من العالم وكائناته وأشيائه. كان يريد أن يتوارى، مع شعور مأساوي باللاجدوى، غير راغب بترك أي أثر وراءه. وقد بدا، تماماً مثلما هو في رواياته وقصصه، رؤيوياً يستشرف بغضب مكتوم صورة الكوارث الآتية.

في حين كانت يوميات أناييس نن ( 1903 ـ 1977 ) سبباً في شهرتها الواسعة.. تلك اليوميات التي أودعت في عدد كبير من الكراسات وصدرت منها مختارات في سبعة مجلدات. وقد شكّلت مادة ثرية تحكي عن جوانب من حياتها الشخصية المثيرة. وحيويتها المفرطة وقوة حضورها في باريس عاصمة الثقافة والفن خلال أغلب عقود القرن العشرين.

نقلت نن بأسلوب دافئ مشرق وشفاف في هذه اليوميات، رؤاها وحقيقة مشاعرها ووجهة نظرها في الأحداث المحيطة بها حيث مثّلت الصداقة قيمة عليا في حياتها. فطالما جذبت رقتها وعذوبتها وسخاء روحها الآخرين إلى دائرتها السحرية. ومارست دوراً أمومياً مع بعض منهم، لاسيما مع أولئك الذين يصغرونها بسنوات غير قليلة، فضلاً عن علاقاتها مع كبار كتّاب عصرها من أمثال هنري ميللر ولورنس داريل وأدموند ولسن.. كانت نن تكتب بحرية وفرح من غير تردد أو خوف، بصراحة جارحة، جاعلة حياتها مكشوفة تماماً خلل سطورها.

كذلك دأب جورج أورويل على كتابة اليوميات والمذكرات. وكتابه ( متشرداً بين باريس ولندن ) يحكي عن تفاصيل حياته البوهيمية الصعبة، بين المدينتين المتروبوليتين في الفترة ما بين الحربين العالميتين. أما في يومياته وهي تؤرخ في الغالب للمرحلة عينها فقد حاول تسجيل التفاصيل اليومية الاعتيادية من قبيل تقلبات الطقس ونمو الأشجار ومظاهر الطبيعة المتبدلة فضلاً عن همومه واهتماماته الصغيرة الخاصة.. نقرأ، في سبيل المثال، ما كتب يوم ( 16 آب 1938 )؛ " ثمرة الكستناء مكتملة لكنها لم تنضج بعد. آمل أن أراها بحجم البندق.. أمس ذهبت، مرة أخرى، إلى حديقة الحيوانات. كانت هناك أشبال صغيرة حجمها أكبر قليلا من حجم القطط، أجسامها مرقطة، أما تلك التي ولدت قبل سنة فقد صارت بحجم كلب برنارد...".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى