لمسات عبد الوهاب وطاعة أم كلثوم / أمل الكردفاني

لمسات عبد الوهاب وطاعة أم كلثوم

✍ *_أمل الكردفاني_*

في الأغنية الثانية التي أبدع في تلحينها محمد عبد الوهاب ؛ ويبدو أن التاريخ يرسم لهذا الإسم طرقا متناقضة من محمد بن عبد الوهاب (المجدد الديني) ، ومحمد عبد الوهاب (المجدد الموسيقي).
في أغنية هذه ليلتي استطاع عبد الوهاب أن يفعل كل شيء يمكن أن يفعله موسيقار بالسلم السباعي ؛ فتلاعب ما شاء له التلاعب على مقام بيات ؛ وكقصة قصيرة -بل وككل عمل ابداعي- كان يهزم التوقعات الموسيقية ، النقلات المتغيرة من موسيقى سريعة لخفيفة لسعيدة وحزينة ، ويستمر عبد الوهاب بقلب التوقعات الذائقية ، في كل حركة موسيقية ، ليجبر المستمع على التركيز أكثر وأكثر ثم يغرق أكثر وأكثر في مقام بيات ، الذي حصل على مجده في هذه الأغنية الخالدة.
يمكننا أن نلاحظ اهتمام عبد الوهاب ليس فقط باللحن والأداء الطبيعي بل عمد - وفق تصوري- إلى توجيه أم كلثوم نفسها لتمارس بدورها قلبا لتوقعات الذائقة.
وهي بدورها التزمت التزاما عسكريا بتوجيهاته فدفعت بالأغنية لسلطانها الطربي إلى حده الأقصى.
سأورد هنا بعض ما أتصوره من توجيهات خاصة بكيفية نطق بعض الكلمات.

هذه ليلتي وحلم حياتي ...............
بين ماض من الزمان وآت

الهوى أنت كله والأماني ...............
فاملأ الكأس بالغرام وهاتِ

بعد حين يبدل الحب دارا ............... والعصافير تهجر الأوكارا

وديار كانت قديما ديارا ............... سترانا كما نراها قفارا

سوف تلهو بنا الحياة وتسخر ............... فتعالَ أحبك الآن أكثر...

أول ملاحظة هي أن أم كلثوم امتنعت تماما عن التمديد الصوتي خارج اللحن الرسمي ، فلن نسمع مدا بالتأوهات أو ارتجالا -إن جاز التعبير- الا في مواضع قليلة فمثلا (هل في ليلتي آه..) هذه الامتدادة الصغير وردت في البداية بدرجة محسوبة ثم اختفت عند ترديد الكوبليه بعد ذلك...
كانت الموسيقى بديلا لذلك والغرض هو أن يكسر عبد الوهاب النسق بشكل منظم وليس عشوائيا ولم يترك ذلك لمحض رغبة أم كلثوم أو انجذابها العاطفي. (تحولت أم كلثوم لعسكري ينفذ التعليمات) ويحسب لها أنها كانت واثقة تماما من عبد الوهاب وكانت ثقتها في محلها.
لو وضعنا هذه الموسيقى داخل إحداثيات فلن نر سوى منحيات متعددة متباعدة ومنخفضة وعالية .. وسيكون الشكل مجنونا ولا ينضبط إلا عند تكرار كوبليه (سوف تلهو بنا الحياة وتسخر).. ثم يحدث تشتيت لحني (داخل نسق ابداعي لا يؤدي إلى نشاز بل إلى تحقيق انتباه أقصى للمستمع).
نعود لتلك التوجيهات الوهابية ؛ لنلاحظ كيف كانت أم كلثوم تضغط على بعض الكلمات ولا تخرجها بارتياح. رغم أن أم كلثوم وهي مغنية نشأت في الموالد والتي تعتمد على الاندياح والمرونة والتمطي في نطق الجمل الغنائية ؛ غير أنها هنا خالفت ذلك واعتمدت (بأوامر عبد الوهاب) على الضغط وتجميد بعض الكلمات بشكل سريع ، ككلمة:
(وحلم حيات) فهي تكاد تخفي الياء لتكون (حيات).. وبالتالي تتزن مع (آت) .. ولكن الأهم من ذلك... نجد كلمة (العصافير) لا تضمها الا ضمة خفيفة لا تكاد تبين ، و (ديار كانت قديما) فسنجدها تعض على كلمة (قديما) لتعزز تنوين الكلمة (قديمن) فتختفي الألف...
وإن كنت لم أتبين السر في ذلك لكن لا شك أن للعبقري عبد الوهاب رؤيته الخاصة..وربما كانت رؤيته تلك هي التي دعتني للكتابة عن ذلك بعد كل تلك العقود من الزمن الخالد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى