كتاب فلسطينيون عزت الغزاوي - يشهدون على الانتفاضة الجديدة من الداخل والمنفى2 : على هامش المَظلة

1 - عين ورصاصة
رصاصة واحدة في العين. في العين تتجمع صخور الدنيا، خشبها، حطبها الملتهب، تراب وأعمدة من الدوار، وصرخات مذعورة جاءت من أطراف الأحبة: لا بد من ان ذلك صوت أمي المفجوع، وذاك صوت الصغيرة "جنان" التي هجرت الحضانة منذ جاء الرصاص.
في الصباح الأول، ظلمة هادئة على الزوايا القريبة من عيني. تبددت الصخور والأتربة، ومضى الصُداع الى حال من دوار خفيف. ما شأن العين الثانية التي لم تصبها الرصاصة؟ انها تتوكأ على خفوت عظيم في جوف الحركة. الناس يذهبون ويعودون. ممرات المستشفى مكتظة بالزعيق والبكاء والدعاء والهمس والأقدام والموت. كل شيء هذا بالإحساس يمر عبر بوابة مشرعة على رصاصة واحدة جاءت من البعيد واختارت العين.
"وعلى العين ملاك" كانت أمي تقول دائماً. الملاك يحرس العين. الملاك يحرس الدمعة، يحرس ملحها.
وسقوطها الجميل الى عطش الوجه. والعين نور الدنيا: منها تبدأ المساحات الى لمسة الأحباب، ومنها تبدأ المعرفة بالوطن الأول والبيت الأول وحتى آخر الوداع للذين يمضون الى شهوة التراب، إذاً سأفتح هذي العين بعد قليل: ساعات أو بضع يوم.
ماذا كانت تقول الخنساء عن عينيها؟ كان ذلك في المدرسة، وكانت تبكي حبيباً لها... بل أخاها. "عود بعينك أم بالعين عوّار"؟ نعم. شيء من ذلك القبيل. العود الذي كان زمن الجاهلية يصبح اليوم رصاصة في نهاية القرن العشرين. لماذا العين من دون أجزاء الجسد؟ لكن العين ليست جزءاً تابعاً للجسد. ليتها كانت كذلك. للعين روح ونور وبهاء وألفة!
في المرآة الآن: حفرة دامية، جرف كبير. تعود الضمادة الخاوية الى حالها تغطي الخراب الذي فجرته رصاصة واحدة. كيف الحال؟ وللابتسامة زيف. للابتسامة خرافة التزوير الرهيب. المرآة وحدها ستقول كل شيء لي أنا وحدي. أي امرأة ستقبل هذا الجُرف العميق داخل الوجه، وأي نور سيأتي الى القلب حين ينهض الصُبح الى أرض مظلومة بحجارتها؟
في البعيد يصطاد الرصاص ما يشاء.
في القلب نورٌ يُطفئه جنديّ يحمل بندقية يتسلّى بحزن الناس.

2 - حال
حتى وقت قريب كان "وصف الحال" من أسهل الأمور على الكاتب... وقد جاء وقت صار فيه "وصف الحال" إمكاناً لا يتحقق لأن المشهد أكثر فظاعة من الاستيعاب الإنساني. بالأمس فقط قامت قيامة الناصرة ولم ينهض المسيح كي يتفقد عدل الدنيا، وانما شوهدت ولادة وحش من صناعة الكابوس على أطراف المدينة يزاحم كل ما تخيله الفنانون والمبدعون من عدل ممكن وسلام يكون هبة الإنسان المعاصر لشعب لم يتوقف عنه الظلم. وبالأمس فقط دخل الشهيد عصام جودة غرفة خاصة من غرف أوشفتس مجهزة بأفرانها ورعبها. ولم يتقدم أحد ليدفع عنه العذاب لولا رحمة الموت. وقبل ذلك، ومنذ بدأت مظلمة الصبية في الشوارع قاد محمد الدرة موكب المذبوحين عمداً وعن سبق اصرار الى مهرجان العار الذي أقامه جيش الاحتلال الإسرائيلي. وفي ميزان المقارنة خرج الناس هنا يفتشون عن ذبالة الشمعة في دهاليز النفق لا يحملون معهم سوى ارادة الكرامة ورغبة في الحرية وطيّ صفحة الاحتلال الطويل، وينتصفون لقرارات دولية شرعية تعطيهم حق الوطن المستقل والعيش بكرامة مثل شعوب الدنيا وممارسة الحرية الفكرية والدينية كما ينبغي للإنسان. وفي الميزان أيضاً يخسر الرعاة شرف النزاهة والموضوعية فيتساوى لديهم قهر الاحتلال وترسانته الرهيبة مع جموع الناس المقهورين الذين تغلق أمامهم الحدود والمطارات والمستشفيات والأدوية وحبة القمح وحتى دور العبادة.
كيف إذاً يكون "وصف الحال" وكل الشعب محاصر في زنزانة مطلوب منه أن يوقّع على هزيمته أمام غطرسة القوة والجشع؟ وقد يصح القول اننا نعجز اليوم عن وصف الحال في آخر أيام هذا القرن الرهيب الذي شهد تطرفاً لم تشهده القرون الوسطى...
على ان كل ذلك لا يستطيع أن يفقدنا البوصلة وأن يبعدنا عن أعظم مصادرنا قرباً من الحياة والالتزام بها لأنها هبة الله للبشر. ليست الحرب بديلاً للسلام، وليس التحرر دعوة للانتحار والعدمية وليس الجشع مدعاة لاسقاط التسامح... ان هذه الانتفاضة الفلسطينية متلازمة تماماً مع الدعوة العميقة للسلام العادل.
انها متلازمة مع الحرص على مزايا الإنسان النبيل الذي لا يدفعه الدم الى مزيد من الدم، وانما الى مزيد من الصمود أمام الظلم والقهر. انني على ثقة من اننا سوف ننتصر بإنسانيتنا وحكمتنا. سننتصر بإضاءة روح العالم بكل هؤلاء الشهداء الذين وسعوا جغرافية فلسطين بأجسادهم وجعلوها أكبر من خيمة لاجئة أو حقيبة على ميناء.

3 - تحولات محمد
1 - ما شأنك أنت بالموت أيها الصغير؟ من ذا الذي دفع بك الى اللحاق بأبيك، كأن المشوار الى آخر العالم يبدأ بالخروج من البيت والتعلق بأذيال أبٍ هو الدنيا بحالها بالنسبة اليك؟
2 - للقدس مسافات لا تعرفها أنت بالأرقام والجغرافيا والتلال... لكنك منذور لساحة من ساحاتها أو لظلّ من ظلالها. من دمك بدأت الخطوة الأولى نحو المدينة، فهل نادتك أم ناديتها؟ أيعقل ألاّ تكون صاحب الصوت الذي يؤذن بعروبة المدينة الحزينة، وأنت بهذا البهاء الطري، وأنت بتلك الطهارة التي تنادي القلوب؟
3 - من وراء الحجر يناديك صوت الرصاص، والأب يدفع الموت عن الموت: هنا اثنان في براءة المشوار الى لعبة صغيرة وخطوات ناقصة الى البيت. هنا اثنان في حضرة الغياب الكبير لرحمة من أي نوع كأنهما قتلا العالم بأسره وما عادا يستحقان الحياة. ألم تكن تكفي رصاصة واحدة لينتصر الموت؟ وما الحد الفاصل بين الإعدام والجريمة!

4 - اليد الممدودة كي تضم الجسد الصغير تبكي عجزها. لماذا لم تدخل في أحشاء أبيك كي يقتلك الرصاص هناك؟ لماذا لم تتحول الى ذرة من هباء كي تصرخ في قلب العتمة: أنا لم أر من الحياة سوى هذا الموت.
5 - ونسأل، لماذا إذاً يقتلون الطفولة؟ والجواب جواب. انكم تقفزون الى وحشية العالم محصنين ببراءة الحماية. تظنون ان يداً لا يمكن لها أن تضغط الزناد لتقتل طفلاً من حقه العبث بجدائل أمه. لكن حصانة الأمان الواهم لا تكفي كي تمنع رصاص الخائف الذي سرق الحديقة وقتل حارسها.
6 - تحوّل كيف شئت في المدار النهائي ما بين الذاكرة التي لا تموت وما بين ساحة الإعدام الكبيرة. كم بكيناك لأنك أخرجت لنا وجوه الشهداء من حمرة الدم ونقاء الدمعة... كم ستبقى لأنك مظلوم. كم من الشجاعة وهبتنا لأنك أقسى ما تستطيع الجريمة أن تصل، ولتفتح لك المدينة أبوابها.


أعلى