حسن المسعود - خزائن الكتب القديمة في العراق

نشر هذا الكتاب عام 1948 يقع في 365 صفحة للكاتب كوركيس عواد ( 1908 ـ 1992 ) وهو من الشخصيات المعروفة في العراق واشتهر بتأليف الكتب وكتابة المقالات. وان نتكلم عنه اليوم فذلك يعود لأهمية هذا الكتاب الثقافية.
يتناول هذا الكتاب ملخص وجود الكتب لأكثر من الفين سنة. من فترة الحضارات القديمة وحتى القرن الرابع عشر ، فنرى ان الحضارة ما هي الا مجموع تراكمات من التجارب البشرية في بقعة على الأرض.
نتعرف في هذا الكتاب على دور الخطاط في نسخ الكتب. ودور خزائن الكتب في إعطاء الامكانية للقراءة الى اكبر عدد ممكن في زمن كانت فيه الكتب غالية الثمن. ويجعلنا الكاتب نقارن بين غلاء الكتب سابقا وتوفرها بأثمان زهيدة في عصرنا الحالي، او توفرها بشكل مجاني، اذ يمكن اليوم قراءة كل هذا الكتاب مجانا على رابط الكتاب في مكتبة جامعة في نيويورك:
http://dlib.nyu.edu/files/books/nyu_aco001607/nyu_aco001607_lo.pdf

يقول المؤلف ان حضارة وادي الرافدين وضعت حجر الأساس للثقافة والحضارة اللتين نرى ثمارهما قد بلغت في عصرنا من النضج والاكتمال مبلغا بعيدا. فيستعرض باختصار كتب العراق من العصر السومري حتى القرن الرابع عشر الميلادي.
في البداية كانت الكتابة تعمل على لوحات من الطين، ومن ثم على أوراق البردي، ثم الجلود والورق. وبتطور صناعة الورق ازداد نسخ الكتب، الذي كان غاليا ولم يستطيع الكل في الماضي اقتناء الكتب كما في عصرنا الحالي. وهكذا ولدت المكتبات العامة والتي سميت في البداية ـ خزائن الكتب ـ وكانت ملحقة بالقصور والمدارس والجوامع والكنائس وبيوت الشخصيات الكبرى.
الكتابات الأولى عملت في أماكن حفظ المدونات الرسمية للحضارات القديمة، ثم أضيفت اليها النصوص الدينية والقطع الأدبية والتاريخية. كل معبد في الحضارات القديمة فيه حجرة تضم مجموعة من الالواح الطينية فيها نسخ من الأوامر الملكية والمراسلات. وقد وجد علماء الاثار في ـ خزانة نفر ـ عام 1893 حوالي عشرين الف لوحة من الطين، وفي ـ خزانة كتب معبد انليل ـ 23 الف لوح، يرجع تاريخها الى 2700 سنة قبل الميلاد وتحتفظ جامعة بنسلفانيا الامريكية عدة الآف من هذه اللوحات. منها تآليف علمية كالالواح الرياضية والواح عن علم الفلك والطب والتاريخ واللغة. وقد درست هذه اللوحات من قبل علماء الاثار، ونشروا نصوصها القديمة في الادب والدين واللغة على عشرين مجلدا بين عام 1889 و1944.
في خزانة نينوى للملك اشور بانيبال الذي امتاز بحسن ذوقه الادبي في القرن السابع قبل الميلاد وجدت الواح كثيرة. نعلم انه ارسل نُسّاخ الى مدن عديدة لنسخ الكتب المهمة في الادب والشعر والقانون والتنجيم والفلك والجغرافية.
في عام 1851 نقلت من هذه المكتبة، ثلاثين الف لوح للمتحف البريطاني.
ويتطرق المؤلف بسرعة الى خزانات الكتب في الديارات. ولم تشتهر بلاد بكثرة دياراتها، اشتهار العراق بها. وكانت هذه الديارات في غاية السعة والازدهار، ونشأ في اكنافها جماعة من العلماء الكبار والمؤلفين الافذاذ. وكانت هذه الديارات معاهد علمية، يلتقي فيها الرهبان افانين العلم. وكانت لكل دير خزانة كتب يستنسخها الرهبان انفسهم.
اما في العصر العباسي فقد كان خلفاء بني العباس من اكبر المشجعين على ارتياد مناهل العلم. فأسسوا المدارس، واعمروا الخزائن بالاسفار النفيسة. ولم يكن قصر الخليفة الا منتدى يتبارى فيه الشعراء والادباء والعلماء. وقد انحل امر هذه الخزائن بانحلال الخلافة وتبعثرت كتبها. ولا شك ان مجيء المغول الى بغداد كان من اشد الضربات عليها. فبعضها نقل وبعضها غرق. وذكر ابن الساعي ان المغول (1258) بنوا اسطبلات الخيول وطوالات المعالف بكتب العلماء عوضا عن اللبن.
لاشك ان ـ خزانة الحكمة ـ ببغداد، كانت من اعظم خزائن الكتب في الإسلام، على اختلاف عصوره ودوله. لانها حوت من الاسفار العتيقة كل جليل ونفيس. علا شأنها وبلغت اوج عزها وازدهارها في خلافة المأمون. وقد امتاز المأمون بثقافته الواسعة، وبمحبته العظيمة للعلم وذويه.
وتذكر الكتب ان المأمون كان قد طلب من صاحب جزيرة قبرص ان يرسل اليه خزانة كتب اليونان. فأستشار صاحب قبرص ذوي الرأي، فكلهم أشاروا بعدم الموافقة، إلا مطرانا واحدا، فانه قال: الرأي ان تعجل بأنفاذها اليه، فما دخلت هذه العلوم العقلية على دولة شرعية الا افسدتها وأوقعت بين علمائها. فأرسلها للمأمون.
اقبل المترجمون في ذلك العصر على هذه الكنوز اليونانية الرائعة، فنهلوا من ينبوعها، ونقلوا منها الى لغة الضاد فنونا شتى: في الفلسفة والطب والموسيقى والرياضيات وغير ذلك فأغنوا بمنقولاتهم الرائعة الثقافة العربية أي اغناء. وكان كل خليفة يرث خزانة ما قبله. ويستمر بنشر العلم والادب.
كان في بغداد سوق للوراقين لنسخ وبيع الكتب وتجليدها، وكان النسخ في الماضي عملا مألوفا بين الناس. وكان لكل شخصية تملك مكتبة ورّاق خاص، ويقال ال القاضي أبا مطرف ( المتوفي عام 1011 ميلادية ) كان له ستة وراقين ينسخون له دائما. ومتى علم بكتاب حسن عند احد من الناس، فان قدر على ابتياعه و الا انتسخه منه ورده عليه.
وهناك الكثير ممن اشتهر بالوراقة في العراق، وكان العالم اذا قعد به الزمان ولم يجد ما يفي بأمور عيشه، يعمد الى الوراقة ونسخ الكتب.
أبو بكر الدقاق ( المتوفي 1095 م ) : لما كانت سنة الغرق، وقعت داري على قماشي وكتبي، ولم يبق لي شيء، وكانت لي عائلة، وكنت اورق للناس، فكتبت ـ صحيح مسلم ـ تلك السنة سبع مرات.
وكان الكثير م الوراقين يكره نسخ الكتب، كما يقول أبو حاتم الوراق: ان الوراقة حرفة مذمومة محرومة عيشي بها زمن، ان عشت عشت وليس لي اكل. او مت مت وليس لي كفن.
ابن الهيثم اعظم من اشتهر بعلوم الرياضيات والبصريات في عصره، يكتب في كل سنه اقليدس والمجسطي ويبيعهما ويقتات من ذلك الثمن.
ابن الحسن المكبراوي ( المتوفي عام 1036 م ) يقول: كسبت في الوراقة خمسة وعشرين الف درهم، وكنت اشتري كاغذ بخمس دراهم، فاكتب فيه ديوان المتنبي في ثلاث ليال وابيعه بمائتي درهم.
وكان بين هولاء النساخين طائفة اشتهرت بخفة اليد وسرعتها في الكتابة. فذكر عن ابن الاخوة العطار ( المتوفي عام 1153 م ) انه نسخ ما لا يدخل الحصر. وكان يكتب خطا مليحا. ويقول كتبت بخط يدي الف مجلد.
عبد الدائم المقدسي ( المتوفي عام 1269 م ) قال انه كتب بخطه المليح السريع ما لا يوصف. ويقال انه كان يكتب القدوري ( في الفقه ) في ليلة واحدة. ولذلك يوجد الغلط في ما كتبه كثيرا. ولازم النسخ خمسين سنة وخطه لا نقط ولا ضبط.
ومما اشتهر عن ابن المغوطي المؤرخ البغدادي (المتوفي عام 1313 م ) انه كان ذا قلم سريع وخط بديع، ويكتب وهو نائم على ظهره. قال الصفدي: اخبرني من رآه ينام ويضع ظهره على الأرض ويكتب ويداه الى جهة السقف.
وورد في ترجمة امين الدولة بن غزال: انه أراد مرة نسخة من تاريخ دمشق للحافظ بن عساكر، وهو بالخط الدقيق ثمانون مجلدا. ففرقه على عشرة نساخ على كل واحد منهم ثمان مجلدات. فكتبوه بنحو سنتين.
ونشأ بين النساخ جماعة فاقوا اقرانهم بجودة الخط وتحسينه والبلوغ به اعلى مراتب الاتقان. حتى صاروا لا يعدون بين النساخ محترفي الوراقة. وهولاء هم ـ الخطاطون ـ الذي كان يغالي الناس في احراز ما تسطره اناملهم من بدائع الخط المنسوب، وجميل القطع الفنية. ولبعض هؤلاء شهرة بعيدة في تاريخ الخط العربي كابن مقلة وابن البواب وياقوت المستعصمي وغيرهم.
وذكرت ادواة الكتابة فالدواة تصنع من بعض الاخشاب كالابنوس والصندل، او بعض المعادن كالنحاس الأصفر.
وذكر القلم منها البحري والفارسي والنبطي وغيرها. والمداد واصنافه ومزايا كل منهما وكيف صنعها.
بيع الورق كان تجارة رابحة جدا، وكان كلما كثر ما تنتجه المعامل من كاغد، كثرت الكتب تبعا لذلك، وازداد انتشارها.
اما تجليد الكتب فقد بلغ الذروة من الاتقان في عصور الإسلام، وادخلوا عليها الزخرفة والتزويق والتذهيب باساليب مختلفة.
عند سقوط بغداد عام 1258 كان اهل الحلة والكوفة يجلبون الى بغداد الأطعمة، ثم يبتاعون باثمانها الكتب النفيسة. وكانت الكتب تباع في سوق الوراقين بالمفرد او بالمزاد. ولم تعدم الكتب من أناس يروجون بيعها وشرائها، وقد عرف هؤلاء بدلالي الكتب. وكانت محلات الكتب ملتقى الادباء والشعراء والعلماء. ولا يشترون الكتاب الا بعد تفحصه وامعان النظر فيه، خشية ان يكون فيه نقص او تشويش.
حرق الكتب والكلام عنه طويل، ومن ذلك احتراق خزانة سابور ببغداد، والتي كانت تعرف بدار العلم. وكان أبو حيان التوحيدي قد حرق كتبه في اخر عمره لقلة جدواها، وضنا بها على من لا يعرف قدرها بعد موته. وكتب اليه القاضي أبو سهل، يعذله على صنيعته، ويعرفه قبح ما اعتمد من الفعل وشنيعه، فكتب اليه أبو حيان يعتذر من ذلك.
وقد منيت اللغة العربية بخسارة أخرى، بحرق كتاب ـ العين ـ المنسوب اصله الى الخليل بن احمد. فقد ورد في ترجمته انه اشترى جارية نفيسه، فغارت ابنة عمه وقالت: والله لأغيضه! وان عظته في المال لايبالي، ولكني اراه مكبا ليله ونهاره على هذا الكتاب. والله لأفجعنه به فأحرقته. فلما علم، اشتد اسفه، ولم يكن عند غيره من نسخة.
كما ضاع كثير من الكتب بسبب الاختلافات المذهبية. وليس في الاتلاف والافناء ما هو اقوى من الماء، فانها لاتبقي ولا تذر.
ومن اشهر الحوادث القديمة في غرق الكتب ما حصل في بغداد حين سقوطها بيد هولاكو 1258 فقد رموا كتب مدارس بغداد في النهر فكانت لكثرتها جسرا يمرون عليه ركابا ومشاة، وتغير لون الماء بمداد الكتابة الى السواد. المستعصم بالله آخر خلفاء بني العباس الذي قتله المغول اثناء سقوط بغداد. كان قد جمع من خزائن الكتب ما اشتهر ذكره في بطون التواريخ. وكانت مكتبته تقع في وسط بغداد متصلة بالدار التي يسكنها. ومن ورائها بستان كبير متسع وفيه خزانتان متقابلتان للكتب.
يقول الاصمعي: خرجت مع الرشيد الى الرقة، فالقيت اسحق الموصلي بها. فقلت له هل حملت شيئا من كتبك؟ فقال حملت ما خف. فقلت: كم مقداره؟ فقال ثمانية عشر صندوقا. فعجبت وقلت: ان كان هذا ما خف، فكم يكون ما ثقل؟ فقال اضعاف ذلك.
كتب الجاحظ ( المتوفي عام 868 م ) من اثمن ما وصل الينا من تراث الاقدمين، كان من محبي الكتب الولعين بمطالعتها، الدائبين على النظر فيها.
وحدث أبو هفان: لم ار قط ولا سمعت من احب الكتب والعلوم اكثر من الجاحظ. فانه لم يقع بيده كتاب قط الا استوفى قرائته كائنا ما كان، حتى انه كان يكتري دكاكين الوراقين ويبيت فيها للنظر.
ولم يكن الجاحظ يكتري الكتب ويطالعها حسب، بل كان يعني باقتنائها واستجماعها. حتى صار له منها خزانة، وروي ان موته كان بوقوع مجلدات عليه، وكان من عادته ان يصفها قائمة كالحائط محيطة به. وهو جالس اليها، وكان عليلا فسقطت عليه فقتلته.
ابن الدهان النحوي: ( 1100 ـ 1173 م ) وصفه مترجموه بانه كان سيبويه عصره، ترك بغداد وانتقل الى الموصل، وكانت كتبه قد تخلفت في بغداد. فاستولى الغرق تلك السنة على البلد. فسير من يحضرها اليه ان كانت سالمة. فوجدها قد غرقت. وكان خلف داره مدبغة فغرقت أيضا. وفاض منها الماء الى داره، فتلفت الكتب، وكان قد افنى في تحصيلها عمره. فلما حملت اليه على تلك الصورة، أشاروا عليه ان يطيبها بالبخور ويصلح منها ما يمكن. فبخرها باللاذن ولازم ذلك الى ان بخرها بأكثر من ثلاثين رطلا لاذنا. وطلع ذلك الى راسه وعينيه فاحدث له العمى وكف البصر.
ابن البرقطي ( 1171 ـ 1228 ) كان هذا الرجل مغاليا في جمع نفائس الخطوط المنسوبة، حتى اجتمع له منها ما لم يجتمع عند غيره. فذكر ياقوت الحموي في ترجمته انه خلف خمسة وعشرين قطعة بخط ابن البواب، لم تجتمع في زماننا عند كاتب. وكان يغالي في شرائها.
وكان هو نفسه من خطاطي عصره. ووصفه ياقوت: بانه اوحد عصرنا في حسن الخط ... كما كان يبالغ في اثمان خطوط ابن البواب، فحصل له منها ما لم يحصل لأحد غيره. وحدثني قال: بلغني عن رجل معلم في بعض محال بغداد، ان عنده جزازا كثيرا ورثه عن ابيه. فخيل الي انه لا يخلو من شيء من الخطوط المنسوبة، فمضيت اليه وقلت له: احب ان تريني ما خلف لك والدك، عسى ان اشتري منه شيئا. فصعد بي الى غرفة، وجلست افتش. حتى وقع بيدي ورقة بخط ابن البواب قلم الرقاع ارانيها أيضا. فضممت اليها شيء آخر لا حاجة بي اليه. وقلت له: بكم هذا؟ فقال ياسيدي ما صلح لك في هذا شيء آخر؟ فقلت له: انا الساعة مستعجل، ولعلي اعود الك مرة أخرى. فقال هذا الذي اخترته لاقيمة له، فخذه هبة مني، فقلت: لا افعل، واعطيته قطعة قراضة مقدارها نصف دانق فاستكثرها وقال: يا سيدي : ما اخذت شيئا يساوي هذا المقدار، فخذ شيئا آخر. فقلت لا حاجة لي في شيء آخر. ثم نزلت من غرفته، فاستحيت وقلت: هذه مخادعة، ولا شك انه باعني ما جهله، والله لا جعلت خط ابن البواب ان يشترى بالمخادعة.
فعدت اليه وقلت له: يا اخي، هذه الورقة بخط ابن البواب. فقال واذا كانت بخط ابن البواب أي شيء اصنع؟ قلت له: قيمتها ثلاثة دنانير امامية. فقال يا سيدي لا تسخر بي، ولعلك عزمت على ردها فخذها وحط الذهب. فقلت: بل احضر ميزانا للذهب. فاحضرها فوزنت له ثلاثة دنانير، وقلت له بعتني بهذا؟ فقال بعتك فاخذها وانصرفت.
وأخيرا اذكر سطور عن خزانة المشهد الشريف في النجف، فقد عني بامر هذه الخزانة واغناها بالكتب الثمينة غير واحد من السلاطين والامراء والوزراء والعلماء. كان في هذه الخزانة من الكتب الثمينة النادرة الوجود ما لم يوجد في غيرها، واغلبها بخط مصنفيها او عليها خطوطهم بخط جيد متقن على ورق ثمين، وفيها مصاحف ثمينة لاشهر الخطاطين محلاة بالذهب، ففيها الكوفي والاندلسي واليماني. ومنها مكتوب على رق بخط كوفي وفي اخره: تم سنة اربعين للهجرة كتبه علي بن ابي طالب. وفيها ما يقارب اربعمائة صفحة.
وبالرغم مما حل بهذه الخزانة العظيمة الشأن من رزايا وملمات في خلال مئات السنين، فانها ما زالت الى يومنا هذا تحوي كتبا عديدة. واغلب المصاحف التي تضمها هذه الخزانة من احسن ما كتبه الكاتبون، واجود ما جلده المجلدون، وذهبه المذهبون وزخرفه المزخرفون. فيها تتجلى فنون النسخ والتزويق باجلى مظاهرها.

حسن المسعود
www.massoudy.net

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى