عفيف إسماعيل - بَــقَــايَــا عِــطْــرِهَــا.. قصة قصيرة

إنّها لا تُشبِهُ غيرَها، جيناتها لم تَقْتَفِ أثراً وراثياً!. خَلَقَها صلصالٌ قُدسِيٌّ من خليط الأطياف النّادرة والأوجاع والفجيعة والعناد وبعض هزائم مُتوقَّعة. تَمنَّاها أن تكونَ حبيبتَهُ، وطفلتَهُ، وأُمَّهُ، وجدَّتَهُ وكلَّ نساء قبيلته. دائماً يُرَبِّي ذكرياته معها بين المسافات
!.! يا.. يا.. هِيَ
الـمَرأةُ، الهاربةُ بأُعجوبةٍ من أنفاسِ عطرٍ مَحلِّيٍّ، لم تَرَ في مراياها غيرَ أوتارها المشدودة على حدّ الصراخ، لم تَجِد من بين الظّلال المتشابهة ما يُشبِه أنفاسَها. تشابَكت في خاصرتها المحيطاتُ، والمطاراتُ، ومدنٌ لا تَعرف ساكنيها؛ مُغلقةٌ أبوابُها في وجه الضيوف، وشوارعُها تَنظر بعَدَاءٍ كَظيمٍ إلى الغُرَباء. الـمَرأةُ، التي تُشبِه بقايا نَدَىً على الرُّوح في لَظَى العُمر، دائماً تَرفو بنَوْل صبرها أفراحاً تَجود بها على غيرها وتَنسَى نفسها!. دائرتُها المغنطيسيّةُ قريبةٌ منه، بعد سنواتٍ طويلةٍ من الغياب بلا وعود. يُحِسُّ ذبذبتَها الخافتةَ تَحتلُّ الفضاء، يَلتقط عطرَ روحِها السرِّي؛ بوصلته إليها
! .!يا.. يا.. هِيَ
!.!هناااااك
تَسيرُ في آخرِ مَمرٍّ طويل، ظنَّه دربَ سِرَاطٍ أبدِيٍّ، صُنِعَ خُصُوصَاً كي يَذبحَهُ بانتظارٍ لم يَخْبُرْهُ كلّ أُمراء العشق قبله. يُتابع خطوَها المرتبك، تَفتعِل نظرةً لامُباليةً لاهيَة، تَقترب منه، يَكاد قلبُهُ يَقفز أمام رجليها، ليَصيَر سجّاداً لأصابعها الخَجلى، تَقترب، يَرتبك حين يَرَى، للحظةٍ، ذاك الأسَى الحارقَ بقلبها، برغم قُدرتها المتقَنة على التماسك، تَفضحُهُ عيناها، يَذبحُهُ ألف مرّةٍ أن يَرى داخلَها يَتعارك من أجلِه
يا لأسَاهَا الحارق!، كآباتها المباغتة، وضجر روحها، وحكاياته التي لا تَنتهي تَسجنُهُ بينَ نارين، وتَجعلُهُ يَتمنَّى لو أنّ له بصيرةُ أجدادِهِ الـمَيَامِين الفاعلين لِمَا يُريدون بأقدار البشر، ليَغسلَ سَهْوَها الـمُحتقنَ بعَرَق الفَرَاشات، ثم يُطلقها عاريةً من الهواجس، ويَخلق لها من صلصالِهِ القدسيِّ مَن يرافقها بين أنفاسِها حتى مَشرق روحها التي لا تَنام ولا تَغفو عند مَشرق شموعها التي لم تنطفئ بعد
يا لَهُ مِن أعمى البصيرة!، ويتفكَّر في حزنها!. يا لَهُ من أحمق مغرور لا يُحْسِن تقدير الأزمنة والأماكن، يختار مسرحاً شعبياً كي يَلتقيها بعد كلّ هذه السنوات، بدلاً من الشاطئ الذي تُحِبّ أن تَركضَ حافيةً على رمله حتى تَنتشِي حُبيباتُ الرَّمل والأمواج الـمُنسحِبة وهي تُدغدغ أصابعَها بقُبلاتٍ لا تنتهي
!.!يا.. يا
!.!يا.. يا.. هِيَ
الـمَرأة التي تمنَّاها أن تكون حبيبتَهُ وطفلتَهُ وأُمَّهُ وجدَّتَهُ وكلَّ نساء قبيلتِهِ، وأن تظلّ قربَهُ إلى أبد الآبدين، قادمةً تَسير بخطواتِ عصفورةٍ تتعلَّم المَشْيَ في مَمرٍّ بين صَفّين من جمهورٍ جاء ليتفرَّج على مسرحيّةٍ أكثر جاذبيّةً من التي سوف يُمثِّلانها أمام نفسيهما في الصفوف الخلفيّة بإتقانٍ، يَتبادلان فيها الأدوارَ بطاعةٍ عمياءَ لمشيئةِ مُخرجٍ عابثٍ لا يُحْسِن غير الإفراط في إرباكِ التفاصيل بأضدادِ الحياةِ اللّعينة
تَهيَّأ كي يَخطفها ويَدور بها بين ذراعيه، مثلما كانا يَفعلان قبل قرون. تَهيَّأ كي يُمسِك أصابعَ يَدِها اليُسرى بيُمناه، وأصابعَ يَدِها اليُمنى بيُسراه؛ أصابعها الرَّقيقة مثل أغصانِ وردةٍ طريّة، يَدور بها سبعَ دوراتٍ، في لعبةٍ كانت تُسمِّيها "الطائرة"! كان يُريد أن يَدور ثم يَدور بها حتى تَتعالى صرخاتُ خوفها وفرحها ونزقها الطفوليّ، ثم يَتركها تَسيرُ في مَمرِّ السِّراطِ حتى تَشغله عن اتِّزانه بخطواتها الثِّمِلة، وبأصداء ظلالها التي تَسكُن حيث تَعبُر؛ مثلَ لحنٍ أليف
!.!يا.. يا.. هِي
على مَرْمَى همسةٍ، كما يَتمنّاها دائماً، يَنطلق صوتُها الممزوجٌ بكسَلِ أوائلِ النعاس، وأرَقِ الحنين، وبقيةِ وُثُوقٍ مَوروثٍ من بذرتها التي لا تنتمي إلى أحد، ورنينِ ضحكةٍ طفوليّةٍ عَفِيَّةٍ خربَشَتها بلا رحمةٍ السنواتُ التي لم يلتقيا فيها. يَنطلقان في ثرثرةٍ حميمةٍ كأنّهما يُكمِلان حديثاً أوقفته تحيةٌ عابرة. فجأةً تتذكَّر أنها لا تريد أن تكونَ رهينةً إلا لسجن روحها. فتَجِدُ عُذراً كي تَفِرَّ منه بوداعٍ مُحايد، وتَترُكه يتيماً، خاوياً، مثل بالونٍ مثقوبٍ يُرَبِّي الذكريات
فقّاعةٌ كُبرَى هي روحُهُ المثقوبةُ التي تَحترف الحريقَ؛ مثل روحها!. تَمنَّى أن يَبقى طائرُها قربَ غَديرِهِ لرَشفتين، ثلاث رشفات فقط، بعد البليون، تَكفي أن يُبلِّل جفافَ شوقه لها. طارَت مثل يَمامةٍ مَذعورةٍ من أمامه قبل أن يَرتوي منها. دائماً شَرْطُها القاسِي هو الاستعجال والفرار النبيل الذي يَليق بمحارِبةٍ أمازونيّة، ما يُحبّه هو مُبادرتُها به حتى لا يَحتمل وِزْرَه اللعين، ويَصير عاقَّاً أمام روحِهِ المنعتقةِ من وحل الصلصالِ إلى تَوقِ الكائن الذي يَنْشُد تحطيم ثوابت عَصيَّة
مَضَت وتَركت بَقايَا عِطْرِها برئتيه، وأطيافَ روحها الشفّافة تَسكن الكرسيّ الفارغ قُربَه. اليتيم، لا يُريدُ منها شيئاً غير أن تظلّ قُربَهُ مدةً أطول بين حشود لا تَنتبِه إليهما وهما يَتقاسمان بلا توقُّف همساتٍ ساحرةً، ويُرتِّبان كلَّ مشكلات العالم حولَهما وهما مركز الدائرة المُثقَل بتعبِ تَوْقٍ لا شفاء منه: صارَ يُرتَّل شجنَهُ بمسبحةٍ جَدَلَها من نبضِهِ، يَتردَّد صَدَاها داخله
ــ أنا مُرَبِّي الذّكريات والهَلوَسات والحُمّى، وأنتِ لَكِ
لا.. لأحدٍ سواكِ
لَكِ أنت
لَكِ الشَّهِيقُ المُعافَى!، لكِ قلبي حذاء!، وما تَبقّى من عُمري تعويذةٌ تُسنِد أيّامَكِ بالفأل والطبول والأغنيات، وتُزيح من أمام عُمركِ عوسجَ الطُّرقاتِ الصَّدئة، أزلامَ السَّأم المَقيتة. ودوائرَ التكرار البليدة
أنتِ لكِ
لَكِ نَشِيدُكِ وَحدَكِ!، لكِ خَطْوُكِ المَعجونُ بصَهيلِ الابتعاد، لَكِ شَفقُ الصباحِ قبلَ يُلوِّثه ضجيجُ الكائناتِ بالصَّحوِ ورتابةِ اللُّهاثِ وراء الأرزاق، لَكِ رُوحُكِ الوارفةُ مثل شجرةِ جاكرندا بزَهْوِها المَوسميِّ الفاتن!. أنتِ وَردةُ عِشقٍ لم تَعرفها الحدائقُ بَعد، لَكِ خَطْوُكِ المَعجونُ بصَهِيلِ الابتعادِ والصَّدَى
أنتِ لَكِ
ولي أوجاعُ الذّكرياتِ والتّمَنِّي


الشارقة، مايو ٢٠١٣م
أعلى