عبد الحسين رشيد العبيدي - نخلة واشنطن

*بابل
… ومادام لا يريد أن يقر بما تعارف عليه الناس من أراء مسبقة ،فليس أمامه ألا أن يمعن التفكير ليجد الإجابة . لم يكن ما أصابه من إحباط موضع استغرابه ومع ذلك يجد مشقة لأدراك ما يحصل
وهمس لنفسه :لقد هرمت .
أزاح الرجل ستارة النافذة ،وأنهد على الكرسي البلاستيكي المغمور بشمس الصباح . راح يتصفح الكتاب الذي بين يديه .أرغمته ضوضاء مفاجئة ليتطلع بالشارع .أرتطم بصره بكتل كونكريتية كالحة , فارعة الطول. نظر مندهشا دون أن ينتظر تفسيرا ، وقد لبث مشدوها .
تسأل : لم ذلك ؟
تطلع الى الرافعات في صريرها الخشن وهي تثبت الحيطان الكونكريتية .فأحس بالقنوط أزاء عدم الاكتراث بالآخرين .
عمل طائش : قال بلهجة يمتزج فيها الاشمئزاز بالاحتقار .
أقترب من النافذة ليؤكد رؤيته . أدرك أن التوجس أحتل مكان السكينة ،فراح يترقب .
قال بتوتر : حمقى .
فشل في شرح ما يدور في نفسه لنفسه .كان يمتلك تلك المشاعر العميقة التي لا تحتاج الى تفسير فأخذت تلوح له كامتهان فظيع لحرمة المكان الذي نشأ فيه منذ عقود . بدأ يرتاب بمثل هذه الأفعال. وأخذت قناعات جديده تختمر في داخله .فراح ينأى عن تبريرات كان يتداولها .وأدهشه عجزه عن معرفة نواياهم فأنب نفسه . لم يعد الآن يبالي. ووجد في ذلك الحقد الذي يخنقه نوع من اعتزازه بكرامته وتقديرا لنفسه .بحذر رفع بصره كأنه يخشى أن يتطلع بعورة المكان . عصره الألم .فأرتد متقهقرا .
عاد يتمتم لنفسه بشيء من التوتر: أنها جريمة قتل .
وتأكد له أنهم يحاولون أن يثبتوا خشيتهم من الآخرين .كان الرجل يذرع الغرفة بنفاذ صبر كأنه يحتج ,ويفكر بطريقة تخلصه من الوجه الأسمنتي الذي يواجهه متحديا ,وقد وصل الى درجة الإحساس بالإعياء .اعتراه الوهن .أدرك أنه غير قادر على الإتيان بأي حركة ,فراح يسعى ليصل الى الكرسي ,لكنه لم يلبث أن فقد السيطرة على أعصابه ,فتعالى صوته مستنكرا . هذا التهديد المبطن هو ما أكتنف كلام الرجل الذي حول غرفته في الطابق العلوي للقراءة والتطلع بالحياة التي يعج بها الشارع ,ليبدد الوقت الفائض ,بعد تقاعده من الو ظيفة .وأدرك أن تبجيل الأسوار والحصون خطل أوهمونا بعبقريته . كان هذا الإحساس ما يتألم بسبه
أنها اختراع الخائفين : قالها باستهانة .
في عزلته المختارة يكافح بصبر ,حيرة شديدة ,استحوذت عليه ,فلم يعد أمامه سوى أن يتصرف بحزم.
ثاب الى نفسه في اللحظة المناسبة ,لير زجاج النافذة قد تهشم ,وامتلأت الغرفة بفرقعة هائلة بغيضة .وهو يسعى نحو النافذة ,تماسك وقد تعثر بمحتويات الغرفة التي تناثرت رغم أن كل ما فيها يدل على تقشف مقصود .لقد كانت عيناه أقل كفاءة على رؤية الأشياء بوضوح , فلم تميز شيئا سوى عتمة الدخان .تراجع مسرعا وقد أستهلكه الضجيج الحقيقي للحرب . استولى على المكان ,كما يحدث بعد المعارك , صمت ثقيل ,وفاحت رائحة الخراب .
كان من اليسير أن يميز صيحات الغضب التي تعالت فجأة في مكان الحادث .وأدرك بسهولة ما يحصل في المدينة التي بلغت فيها الفظاعة حد يدنس الحاضر. دفعه هذا الإرث المحير من المتناقضات الى يقينية التواطؤ المستمر..ملعون الوالدين أبو ناجي .أصبحنا مأوى لجزاري الذبح على الطريقة الإسلامية…. ومرة أخرى ترنح ,وأرتج المكان. حاول انتزاع نفسه انتزاعا من الرعب الذي يشل المرء ويبعث على الحيرة . وكاد يهرول للنافذة ليستطلع ما حل بالحيطان الكالحة , ألاّ أن حركته تلك بدت أقرب الى العبث ….. أستجمع كل ألامه ,وما تبقى له من قوة وحشدها ضد عدو بدأت ملامحه تتشكل .وأدرك أنها الوسيلة الوحيدة لامتلاك ذاته .تزايد بغضه . ولما طغت هذه الأفكار برأسه بدأت تتسارع لتدفعه بكل جدية.,فلم يعد لعزلته من معنى ولا لقضاياه الشخصية أهمية ,وأنه بدأ ينتصر لوعيه الذي غيبه القسر . نزع عنه أحساسة البطولي جلباب الشيخوخة .وأدرك أنه لا ينبغي أن يفكر فقط . فلم يعد الركون لحصافته ممكن .أزاح الكتاب متجاوزا نعي نفسه .كان متواريا بوحدته ,التي تدفعه للتراجع عن نهمه في الارتواء من عالم مليء بالإمكانات . وتأكد له بأن العالم الذي صمم أن يلجه ثانية ,لم يعد يعرفه فيه أحد . لم يطفأ تقدمه بالعمر , أحساسة بالغضب , لقد مكنته القناعة الجديدة التي اعترته من أن يصارع فكرة الهوان التي طبعت حياته.كان بماله من وعي يشعر أنه يحاول أن يغادر شرنقته,وهذا ما حرضه للانعتاق من خيبتة .وكما لو أنه أستيقظ من نوم طويل ,فقد تأكد له أن شيئا في نفسه قد تغير .
قال : أن هذه الحجارة عبث لا طائل وراءه .كمن يزرع نخلة واشنطن ليجني التمر
وأحس أن شيئا ما عتيق , مزمن , هلع راكد بداخله , أخذ ينزاح . كان يبحث بشكل ما عن معنى لحياته . يحاول تلمس مواطن الضعف في نفسه ,لينجو من أغواءاتها . وجال في خاطره , أن المرء قد يخدع لفترة طويلة ولكن لاشيء يدوم الى ما لانهاية .
في مثل سني لا أستطيع الانتقام ألا بطريقة مختلفة .قال بإصرار .
شعر بالارتياح لهذه الفكرة المريحة التي أضفت على ضعفه نوع من القبول . كان في نظرة الرجل أرادة عارمة,وأحس برغبة طاغية تحفزه أن ينهض …و صمم على ممارسة ولعه القديم الذي غادره , حتى لا يرغم على رسم الرجل الذي قوض طموحاته .تحامل على نفسه .فتح درج مكتب الطاولة . أخرج فرشاة الرسم .أحتفظ بها في يده . أحس بحرارتها تسري في بدنه,وقد أبتهج في قرارة نفسه أذ أسترد ثانية ذلك الحب الذي أستحوذ عليه والذي ضل عنه سنوات طويلة. ظل ينظر اليها بشغف ,وقد خيل اليه أنه بهذه النظرات يؤكد تمسكه بها ,ويستعطفها أن تمد يد المساعدة إليه . فراحت تدغدغه ,كأنها يد حفيدته الناعمة .أبتسم , ثم أنفجر ضاحكا .شعر أن سنين شبابه التي ولت خائفة ,عادت تحرضه .فقرر أن يرسم على هذه الأسوار الخراسانية الكالحة ,عالم تلاشى منه الخوف .


* عن الناقد العراقي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى