فنون بصرية حسن المسعود - الهندسية في الخط العربي

التشكيل في الخط العربي هو بناء صغير كالمنحوته، من ابتكار الخطاط، يعكس فيه بوعي ذهني او بالاحساس نظرته للعالم المعاش واحساساته تجاه الطبيعة.

أمام هذا العمل الفني يقف المشاهد متأملا جمال الحروف الذي سوف يوقظ احساساته ويقودها نحو التمتع. تمتع وجداني قبل ان يكون عقلاني. اذ يقترب الخط العربي في تكويناته من عالم الاشكال الطبيعية .
ويأتي هذا الجمال عندما تتحد عوامل متعددة، كما نرى مثلا في الزهرة وشكلها الدائري، اذ تتقاطع في الوسط بأشكال هندسية متقاربة تخضع لعلاقات رياضية، ثم تأتي الالوان تنسيقها ورائحة العطر ومدى رهافة المنظر.

عند النظر الى بعض تكوينات الخط العربي، يحدث إحساس يشابه النظر للزهرة، اذ تجلب عيوننا اولاً تشابكات الحروف، وكأنها لغز يطرح تساؤلات لا نلبث ان نبحث في داخلنا عن الجواب.

اللحظة الاولى هي لحظة خاطفة، تماما كما لو نشم عطر الزهور، فتخترقنا نشوة تذهب الى أعماق وجودنا. وتربطنا هذه النظرة الاولية البسيطة مع اماكن اخرى في وعينا. تربطنا مع الوعي القديم الذي ينام عندنا منذ ازمنة بعيدة.

وكلما استمرت الرغبة للمشاهد بمواصلة النظر لتكوينات خطية، كلما اصبحت تأثيرات الخط عنده ناضجة نحو يقظة عميقة في الوعي الجمالي. وهكذا نبدأ في تحسس الطاقات الفنية في الخط ومنها التعرف على الهندسية الكامنة خلف الحروف.

الهندسية الكامنة خلف الخطوط تشابه هياكل الدار التي تحمينا من كل ما هو مجهول. وبدون هذه الهندسية المعمارية نكون في العراء وبدون حدود. وان كانت الدار تحمي الجسم فأن الفن يحمي الروح ويغذيها.

هياكل الخطوط ووجودها على الورق تساعدنا على تخيل آفاق الفضاء والمساحات المحيطة بالحروف. احساسات لا يمكن قولها بالكلمات، انما هي ضرورية لمحبي الفن. فهي لحظات مكثفة لرؤى في الوعي البشري.

هنالك ثنائية في الوعي الإنساني، امام لوحة فن الخط، ما بين رؤية ما هو مخطوط على الرقعة الصغيرة، وما هو متخيل في الذهن لحجوم كبيرة في الفضاء. حركة الصغر والكبر تعود على نفسها مكررة باستمرار، وفي ذهاب واياب. كحلقة مستديرة تبحث عن الكمال. كالماء الذي يبدو اولا لاشكل له ثم ياخذ شكل الاناء الذي يحتويه.

ان هياكل تكوينات الخطوط العربية ماهي الا نظام يوضع للسيطرة على الاشكال المختلفة للحروف. وهي هياكل متجددة وتختلف من عبارة لأخرى. ولكن وبا الاستمرار يكون الخط الناجح هو الذي يجعلنا نتخيل الشكل الصغير على الورقة وكانه خط كبير وعالي.
ويعود ادراك الخطاط في البداية الى ضرورة وضع نظام للحروف والكلمات بمظهر جديد، فيغذي التأليف المتجدد للخط ثقافة الخطاط وبالتالي المشاهد أيضا، وهنا يكمن نظام مدار العالم ووجود الاشياء فيه.
يتصور البعض ان الخط هو عملية سريعة آتية من احساسات داخلية لا معروفة. توضع على الورق دون تحضير مسبق وعلى انها موهبة عفوية. بينما ان حقيقة التكوينات الخطية العربية التي دخلت المتاحف، تطلبت دراسة وممارسة طويلة مسبقة، ومعرفة واحساس بالفضاء والمساحة والثقل التي سوف تشغلها الكتلة الخطية، وكذلك الفراغ حول الحروف.

ولكن في لحظة الخط نفسها تتداخل المعرفة والفطرة. كما وصف هذه الحالة قديما ابراهيم الصولي: وربما طغى القلم فوصل منفصلا وفصل متصلا.

بعد الممارسة الطويلة للخط، وخوض تجارب كثيرة، هنالك ابتكارات آنية ممكنة في لحظة الخط، وتكون ضرورية لاعطائه الحيوية. ففي لحظة الخط يتدخل الخطاط لتحوير اشكال بعض الحروف ولتغيير الفراغ ـ الفضاء ـ حولها. هذا الفضاء الذي يقدر في الفكر، والذي يتناغم مع الحروف.

منذ ما يقارب الالف سنة اتخذت الخطوط العربية هياكل تجددت في كل زمن. ففي المتاحف وعلى جدران المعالم المعمارية، نرى تجارب اجيال عديدة من الخطاطين في هيكلة الحروف. عبر هندسة فطرية بهدف الوعي بالنظام والجمال، لقدرتهما على اعلاء النفس البشرية وايضاح الطريق للمحبين لهذا الفن .

فمثلا ان تكوين ( المرآة ) في الخط العربي والمستعمل بكثرة عند المتصوفة، يكون في البداية من كلمة غير متعادلة ومتحركة، ولكن بمجرد مقابلتها بنفس الكلمة مقلوبة، تتحول الكلمتين الى تكوين ثابت ومتعادل.
فنرى نظام جديد ولكن ماذا يمثل هذا النظام للمشاهد؟ حتما ان كل مشاهد سيجد فيه شيء يختلف عن الآخر، وهذا هو دور الفن بالسماح للمشاهد بتحرير احاسيسه وامتلاك تجربة الخطاط وكأنها تجربته هو نفسه، اذ يدخل في العالم المعقد للفن ولغته الغامضة.
وفي التكوينات المختلفة التي نراها اليوم بسهولة عبر الانترنت، تتحالف وتتآلف كلمات العبارة فيما بينها بهدف اعطاء شكل واحد عبر التصاقها بالهيكل الهندسي، وعبر تحركها من المركز الى لولبية ملتوية في الفضاء. فتتبعها عيون المشاهد في الولوج داخل الشبكة الهندسية.

المربع والمثلث والدائرة استقبلت الحروف العربية، وعلى هياكل أخرى مختلفة. فنرى لغة جمالية جديدة، غير لغة ومعنى الكتابة العربية. انما لغة فنية تسمح لكل فرد حتى لو انه لا يقرأ العربية، ان يتمكن من التجاوب معها قبل قراءة النص المكتوب. تجاوب حسي عبر الرؤى والحدس.

وهكذا ان الهياكل الصغيرة للخطوط، انما هي ايضا صور لعالم اكبر، ولا تبدو هذه الصور واضحة الا عبر التأمل والصفاء. حيث نراها متحركة رغم كونها ساكنة. فيشارك المشاهد هذه الحركة في ذهنه. وتعلم شيء آت من فن الخط، انما يعطي للمشاهد معرفة عن نفسه، وتكون كنور يضيء له ذاته.

عندما يريد الخطاط عمل تكوين خطي جديد يرى في البداية الحروف المتناثرة التائهة للكلمات والتي تبحث عن مركز ومحور، تبحث عن ما يربطها البعض بالبعض الآخر، تريد ان تتلاصق في كتلة تعوم في الفضاء، توحي طاقتها بقدرتها على عدم السقوط، كالشجرة التي ترسل اغصانها حرة في الفضاء، وتحت دفع الرياح والاعاصير يتغير شكلها. ولكنها تبقى مرتبطة بجذورها كمركز وبالجذع كمحور.
زمن نمو الشجرة، هو ايضا من العناصر الملهمة للخطاط في تخيلاته من أجل هيكل متحرك، هيكل في صعود لولبي، ولكنه ليس في طريق مغلق، انما حركية في الخطوط تعكس جوهر حركة عناصر الطبيعة المحيطة بنا، والتي هي دائما في ذهاب و آياب. حركة بين نقطتين، نقطة ثبات في مكان ما من التكوين ونقطة انفلات وهروب في مكان اخر.
الهندسية اللولبية هي رمز للقوة كما نلاحظ ذلك في العواصف والاعاصير مثلا عندما تصورها عدسات الانواء الجوية.
ان اللقاء الذي يحدث بين شكل تكوين خطي، وعالمنا الداخلي انما هو رغبة غامضة، آتية من كل ما سبق وان نقشنا في الوعي منذ الصغر، لكل ما هو في صعود وهبوط عند الطبيعة. ودائما نبحث عبر الشكل الصغير عن شكل كبير من اجل الارتقاء والكمال.
فكل هيكل خطي وهو في حركتة اللولبية، يعبر عن رؤى الخطاط. فيمكن للخطاط ان يخط بداية العبارة من الأعلى الى الأسفل، او من اليمين او من اليسار، وحتى من الاسفل نحو الاعلى. وهكذا ان القراءة في التكوين الخطي ممكنة من كل الاتجاهات. وليست كما في الكتابة الاعتيادية من اليمين الى اليسار. وان القراءة هنا ليست هي الهدف، و تكون دائما عبارة حكمة او تخيلات شاعر. ونفس العبارة قد تأخذ اشكالا متعددة عند عدة خطاطين.

الهيكل الهندسي المخفي خلف الخطوط يكون دائما بشكل مبسط جدا. ولكن الكلمات التي تخط عليه تكون لها اشكال اكثر تعقيدا. وهنا تكون مهارة الخطاط امام امتحان صعب. فهنالك علاقة غير مرئية بين ترتيب الحروف وبين جوهر الشكل الهندسي خلف هذه الحروف.

عندما نرى لوحة الخط العربي، فالنظرة الاولى للتكوين الخطي تجعل المشاهد في تياه ما بين كتابة في اكثر الأحيان لاتقرا، وبين عدم تصور ومعرفة الجوهر الهندسي خلف الحروف. ولكن بالتأمل المستمر يتوصل المشاهد الى ايجاد اول كلمة ثم الثانية والثالثة، وهكذا حتى التعرف على آخر العبارة. ومن ثم يتخيل الشكل الهندسي خلف الحروف فيتكامل المنظر الفني عند المشاهد. اللوحة الخطية لا تعطي معناها ونكهتها لمن هو مسرع.
ان عملية الولوج في التكوينات الخطية تشابه رؤية الرقص الصوفي، حيث يدور الانسان حول نفسه، ولكنه يغير باستمرار حركات الذراع والرأس. حركات مختلفة ولكن الجسم واحد. حتى الوصول الى النشوة التي تقود للوحدة مع الكون والفناء فيه، فترتبط الارض بالسماء.
كل هذه التجارب الفنية هي من رغبات الانسان في الوصول الى الكمال. وبضمنها تساؤلات واعية او لا واعية عند البشرعن الكون والوجود. ولغة الفن هي وحدها القادرة على الحوار مع عالم اللاوعي.

مع التعدد المتنوع للخط الكوفي منذ القرن التاسع الميلادي وحتى يومنا الحاضر أي حوالي مدة الف عام. حيث بدأ التفنن في رسم الحرف العربي. فكانت صفحات الكتب الاولى للخط الكوفي تحتوي على سطور قليلة، وتحتل دائماً مكانا متعادلا ومتوازناً في وسط الصفحة. كل سطر يقف على السطر الذي يليه. سطر على سطر يبدو للعين وكأنه طابق يقف على طابق آخر، هيئات هياكل ترتفع في الفضاء. وسطور غامقة على الرق بألوان رمال الصحراء.
وعند النظر بتأمل لهذه الصفحات، وللخط الغامق الذي كتب على الرق الفاتح، نظرة من الناحية الجمالية. وثم تحسس المجسمات التي توحي بها هياكل السطور، وارتفاعها في الفضاء، فسوف يترآى العمق البعيد خلف الكلمات.

أكثر صفحات الخط الكوفي الاول، كانت تكتب على الشكل الافقي. حيث يكون عرض الورقة تقريبا مرة ونصف بالنسبة لارتفاعها. وناسبت هذه الطريقة الخط الكوفي المتمدد، حيث ان الكثير من الحروف كانت تستلقي على السطر. تعارضها الالفات واللامات العمودية. فكانت هذه الصفحات واشكال الخطوط فيها تعطي لعين المشاهد هدوء وصفاء يعكس صور المناظر الصحراوية الافقية. ولكن هذه الطريقة استبدلت في العصر العباسي عصر الترف، بشكل الصفحة العمودية، أي كأكثر اشكال الكتب الحالية. فأضطر الخطاط لابتكار اساليب جديدة من الخط الكوفي تناسب هذا الشكل العمودي للصفحة، واخذت الحروف تتمدد وتتمطى الى الاعلى. تعكس هذه المرة اجواء المدينة وأشكالها المرتفعة. وكمثال على هذا النوع من الخطوط كتاب الترياق للعالم الاغريقي جالينوس والمترجم للعربية، والمخطوط من قبل محمد بن سعيد في القرن الثاني عشر ببغداد، فنرى الخط الكوفي اصبح رشيقا وسحبت الالفات واللامات الى الاعلى بشكل مبالغ فيه. ( كتاب يمكن الاطلاع علية في موقع المكتبة الوطنية بباريس.)

مع تحول الخط الكوفي الى الجدار، بدأ عهد جديد لفن الخط العربي، حيث ولدت اساليب كثيرة تنتمي كلها الى عائلة الخط الكوفي. لكل مادة ولكل مساحة ابتكار جديد للحروف. وأن كانت البدايات بسيطة ودون ابتكارات مدهشة، الا ان الخطاط في عمله مع المهندس المعماري لتزيين معالم المدينة، وبمرور الزمن، استطاع التوصل الى ابتكار اساليب ومظاهر كثيرة جديدة تلبية لحاجة جمالية بحتة. وهكذا ان الخطاط بعد ان يكون قد تعلم قواعد الخط، يبتعد عنها ليكون على طريق الابداع بهدف اضافة شيئا جديدا للخط.
ولازالت الكثير من هذه المعالم التاريخية باقية لحد اليوم تحوي على خطوط رائعة في بلدان متعددة. وكمثال على هذه الخطوط التكوينات الكوفية الرائعة في قصر الحمراء بالاندلس.

هياكل الخطوط الكوفية على جدران قصر الحمراء في غرناطة بالاندلس تبدو رهيفة كرهافة الاعمدة الرخامية في القصر. وهذه الاعمدة نحيفة وخفيفة المظهر بالمقارنة مع غيرها كثقل الاعمدة السائدة في بنايات القرن الرابع عشر، ولكن هذه الرهافة لا تعني الضعف، انما رشاقة وقوة من الناحية الجمالية.
عملت الحروف الكوفية في قصر الحمراء رفيعة، ترتفع عاليا لتعانق حروف اخرى، ثم يتجه كل حرف لمكان آخر. حركات الحروف توحي بالرقص عبر استقامات حادة لا تلبث ان تتغير وتبدو لينة في اللقاءات المتكررة للحروف.

ولتخفيف قسوة الاستقامات ينهي الخطاط حروفه أحيانا باشكال نباتية. كذلك انه رسم على الجدار خلفيات للكلمات تشابه حديقة من الاغصان الملتوية، حديقة متخيلة محفورة على الحجر، وليست بأشكال طبيعية فوتوغرافية.

هنالك نوعان من الزخارف التي تحيط الكلمات في الخط العربي، النوع الأول هو الخطوط الزخرفية المستقيمة المتشابكة والتي ترسم النجوم عند تلاقيها لتربط المكان بالقبة السماوية.
بينما النوع الثاني يفضل الاستدارات الزخرفية من الاغصان والزهور، فانها ترسم الحديقة، كتخيل لحديقة الجنة. ومهما تعددت الاشكال فانها تخضع بشكل عام لهياكل هندسية مبسطة ولكن الجوهر يعود لهذين النوعين من الزخارف.

تجاور الزخارف المستقيمة الخطوط الكوفية للايحاء بالثبات، بينما تجاور زخرفة الاغصان خطوط لينة لتجنب الثقل والجمود. زواج الشكل الجاف للخط مع ما يقترب منه زخرفيا، وزواج الخطوط اللينة مع اشكال الاغصان، اراد فيه الخطاط تحقيق رغبة جمالية لعكس ثنائيات العالم.

ودائما في قصر الحمراء وفي بعض التكوينات الكوفية نرى هياكل الخط تشابه تماما هياكل المعمار نفسه. فتعكس الخطوط مشهد الاقواس والمقرنصات التي تتسابق للصعود عاليا نحو مركز السقف المحدب. حيث تلتحم في هذا المركز الاشكال المستقيمة مع الاشكال المدورة. في تكرار يمثل سيمفونية من النغمات المتوالية.

كل كلمة مخطوطة لها جسم يعوم في الفضاء، وهدف الخطاط من بناء الكلمات على الهياكل الهندسية هو اعطائها شكلا عاليا كي لا تبدو كتزويقة صغيرة. كما اراد الخطاط كذلك ان توحي الخطوط للمشاهد بالعلو والارتفاع داخل مساحات فسيحة. من اجل ان تدفع الخطوط المشاهد للحلم والتأمل. في لحظة التمتع بقراءة الشعر المحفور هنا وهناك.
وكانت رغبة الخطاط دائما هي الوصول الى الكمال، كي يلتقي الفن مع رؤى المشاهد وكي يحفزه الى التفاعل مع هذه الخطوط من اجل ان يرى لها صدى في اعماقه.

لايمكن تصور مدى الفائدة التي حصل عليها الخط العربي في اقترابه من المعمار. وذلك في الاستفادة من طرق البناء. فكل تكوين خطي هو بناء ايضا، ولكنه ليس البناء المعماري وشروطه الصعبة والثقيلة. الخطاط يملك حرية اوسع لبناء اشكال حروفه وكلماته. بينما ان المهندس المعماري يواجة المواد وصلابتها، من اجل التوصل لفضاء مسكون، بالاضافة لجمال الكتلة المعمارية، أي مظهر البناية، وكذلك على المعماري ضرورة المعرفة للتقاليد الاجتماعية والثقافية السائدة.

ومن التكوينات الخطية التي استلهمت المعمار، أذكر هنا خط توقيع السلطان المملوكي حسين بن شعبان ـ القرن الرابع عشر ـ فقد امضيت زمنا طويلا لمحاولة معرفة سر هذا التكوين. ففي البداية حاولت تقليده لغرض التمرين، كما هي العادة عند الخطاطين المبتدئين في تقليد الخطوط القديمة للتعلم. ولكن الحروف في خطوطي كانت تبدو غير متماسكة ومتفككة، بينما ان الخط القديم امامي يبدو قويا والحروف فيه ثابتة.
ومن خلال دراستي لفن المنظور في العمل الفني، استطعت التوصل لسر هذا الخط وعرفت كيف توصل الخطاط القديم الى تماسك الالفات واللامات في تكوينه، فقد جعل الخطاط المملوكي في وسط التكوين عمودا مستقيما مكونا من الف ولام، وجعل كل الالفات واللامات مائلة من اعلى جهة اليمين الى الوسط. كذلك كل الالفات واللامات من جهة اليسار تميل ايضا في الاعلى الى الوسط.

وتسمى هذه الطريقة في علم المنظور المعماري، بالخطوط الهاربة نحو نقطة الالتقاء. اي لو نسحب كثيرا الخط الاول على اليمين وهو الالف والخط الاخير على جهة اليسار وندفعهم للصعود لعدة امتار. فانهما سوف يلتقيان في نقطة بعيدة جدا عن التكوين الخطي. وأن هذه الطريقة الآتية من عالم الهندسة المعمارية تتيح للمشاهد تخيل الشكل الخطي باكبر مما هو.

وهكذا ان اقتراب الخطاط من المهندس المعماري جعله يتعرف على اسرار رسم البنايات، ويستفاد منها في خطوطه. (يمكن رؤية هذ التوقيع في كتابي عن الخط العربي عند دار نشر فلاماريون في باريس )
البناء المعماري أكبر من الانسان، والارتفاع العالي للجدران أجبر الخطاط لابتكار علاقات جديدة ما بين الخطوط من جهة، وعين المشاهد الواقف على الارض من جهة اخرى. فتأخذ الحروف قياسات مختلفة. مثلا ان بعض الخطاطين يجعل الالف في خط الثلث على الورقة بارتفاع سبع نقاط من نفس القلم، مخطوطة الواحدة فوق الاخرى. بينما يخط نفس الحرف على الجدار بارتفاع اثنا عشر نقطة أو اكثر. وهكذا يطبق الخطاط على عمله الفني العلاقة النسبية للفن مع عين الانسان ومدى البعد والقرب او الارتفاع للخط.
عندما استعمل هنا كلمة هندسة وكلمة قياسات بجانب كلمة الخط، فأن المقصود منها هندسة الفنان الفطرية والتي تعتمد على الحدس الفني. أكثر منها على القياسات المعقدة والاعداد الجامدة للقوانين الهندسية في مدارس المعمار. ودائما ما تكون معلومات الخطاط آتية من رؤيته لما يحوطه من اشكال تخضع لخلفية هندسية كالاشجار والاغصان والاوراق والازهار او القواقع البحرية. وكان هدف الخطاط في استعمال هياكل هندسية خلف خطوطه انما لاعطاء مظهر بناء متين لتشابك الحروف في التكوين. وهذه الهندسة هي التي تكلم عنها اخوان الصفا:

أعلم أخي، ان دراسة المنطق من وراء الهندسة يقود للدراية والخبرة بجميع الفنون التطبيقية.

ولا تعني المتانة في بناء التكوين الخطي كل شيء في الخط، انما هي أحد العناصر الضرورية لجودة الخط ولكي يحتوي على قيمة فنية عالية. من أجل ان يتوفر الجمال في العلاقة السليمة بين الحروف نفسها من جهة، ومن جهة اخرى مع الفراغ المحيط بها.
يعيد الخطاط باستمرار رسم شكل الحروف، من اجل ان تتلائم والهيكل الهندسي الذي تخيله. في أسلوب خط الثلث مثلا يملك الخطاط اشكال متعددة لكل حرف، فيختار الشكل الأقرب الى المكان المتوفر. كما يمكنه ان يطيل حرف هنا ويقلص حرفا هناك. أو يبتكر مظاهر للحروف لم ترى من قبل. خصوصا عندما يفرض المعماري مساحات معينة على الجدار. ويطلب من الخطاط اشغالها بالحروف. مما يتطلب ذلك من الخطاط أعادة النظر في اشكال الحروف التي تعلمها وتعلم طريقة خطها من اساتذته. وكما نرى مثلا في بعض المنائر الزرقاء في آسيا الوسطى ذات الخطوط المعمولة من الطابوق المزجج، اذ تكون الكلمات مائلة وفي صعود لولبي، لتأكيد صعود العين في النظر نحو الاعلى. وبهدف تكثيف الطاقة الآتية من الخط. وغالبا ما تدخل الكلمات ضمن مربع او مربعين وتتكرر على طول المنارة.

وهنالك تأثيرات اخرى، فتحت الباب واسعا أمام بحوث الخطاط لاستلهام جماليات جديدة. تأثيرات آتية من فنون كالموسيقى والشعر، فالعلاقات الجمالية النسبية هي نفسها في جوهر اكثر الفنون. وهذه الفنون اكتسبت علاقاتها الجمالية من خلاصة تجارب اجيال واجيال، وبكل بلد سنرى نكهة فنية لهذه القياسات تختلف عن البلد الآخر، مما استفاد الخطاط منها في ابتكاراته.

كانت الاطارات التي تحدد الخطوط هي المستطيل والمربع والدائرة. ودائما ما احتوت هذه الاطارات تشكيلات هادئة وثابتة، ولكنها تطورت تدريجيا لتعكس التعبير الفردي. كخط الواوات للخطاط محمد شفيق. الجامع الكبير ـ بورصة ـ القرن التاسع عشر. حيث التضادد والتعانق في الحروف بآن واحد. وقد اعتمد محمد شفيق شكل التناظر، أو ما يسمى بالمرآة، هذا التكوين المحبب لدى المتصوفة.
وقد خضعت هذه الاشكال المتناظرة الى التأثر بالطبيعة. وفي مقدمة هذه الاشكال مظهر جسم الانسان المتشابه الشكل في اليمين واليسار، ومظاهر الاشجار حيث تتفرع الاغصان على الجهتين بشكل متشابه، ثم الاوراق في هذه الاغصان التي تأخذ نمط هندسي في نموها ورسم اشكالها.
وتنظم الشجرة تباعد الاوراق على الاغصان بشكل يتيح لها الاستفادة من ضوء الشمس بأكثر ما يمكن. اي عندما تنمو على الغصن ورقة في الأعلى واخى في الأسفل فان الورقتين القادمة ستكون على جهة اليمين واليسار.

الشجرة تنمو بشكل متعادل بالنسبة للجذع، ولكنها تبقى في كفاح مستمر مع ضغط الهواء، وسحب الجاذبية الارضية، ودفع الرياح والكفاح لاستلام ما تحتاجه من نور الشمس. وبمجرد ازدياد الثقل في الاغصان لجهة ما، وعندما تشعر الشجرة بأنها مهددة بالسقوط، فأنها تلجأ الى تناسب الثقل ومعادلته من كل الجهات، تماما كالميزان في معادلة الاثقال.

وكذلك هو الخطاط، فعندما يرى ما يشير الى اختلاف الثقل من احدى الجهات في التشكيلة الخطية، فانه سيضيف بعض الحركات للمعادلة ولتجاوز الاختلال، وان لا توجد اية حركة ممكنة او اشارة ضرورية للحرف. فأنه سوف يكبر الفتحة مثلا بشكل غير اعتيادي أو يبتكر علامات لا معنى لها، كما العلامة التي تسمى ـ الميزان ـ والمستعملة بكثرة في خط الثلث. وذلك لمجرد عودة التوازن الهندسي لبناء التكوين. كما يمكن ان يغير الخطاط أحيانا مكان النقاط ويبعدها عن مكانها او يخطها مدورة. يصغر حرف هنا ويبتكر حرف هناك، من أجل تحقيق التوازن في الخط.

في خط محمد شفيق للواوات، والتي هي بقياس حوالي أربعة امتار للعرض (الصورة في كتاب الخط العربي ـ نشر فلاماريون ـ باريس) نرى انه كسر الاطار التقليدي الثابت والهاديء. نحو تكوين يتميز بالحيوية والقوة، وأعطى كل القيمة الفنية لحرف الواو. وهذا الحرف مكررا داخل هذه اللوحة الجدارية اربع مرات، بينما أدخل الخطاط كل العبارة في قلب التكوين وبشكل صغير لايقرأ.
حرف الواو يخضع الى الكثير من الصفات الرمزية والترجمات الفلسفية، كذلك انه الحرف الوحيد في الالفباء العربية الذي يمكن له وحده ان يعني شيئا دون مشاركة حرف آخر. حرف وحيد، وبنفس الوقت حرف جامع لانه حرف الربط.

وهنالك نظرتان ممكنة لتكوين محمد شفيق في الجامع الكبير بمدينة بورصة في تركيا، النظرة الاولى هي التوازن التام والثبات على الجهتين، في الخط الاصلي كما خطه محمد شفيق بطول اربع امتار تقريبا. والنظرة الثانية هي الحركية في الشكل لمن يراه وهو واقفا على الارض. فأن مجرد كونه قد خط عاليا على الجدار، تكون قد تغيرت هيئته وقياساته لعين المشاهد الواقف او المتحرك على الارض، وبحسب الجهة التي ينظر منها للخط. وهذا ما أعطاه جمالا لا يوصف. ان هذ التكوين يمكن ان يكون احد الخطوط التي نقتفي اثرها من اجل خط حديث.

وهيكل هذا الخط هو التناظر ـ المرآة ـ، والذي استعمله نفس الخطاط وبنفس الجامع في لوحات كثيرة. كما استعمله الكثير من الخطاطين الاخرين. وهو هيكل بسيط، يمكن للخطاط تغطيته بما يريد من الحروف.
وهكذا ان الهيكل الهندسي هو دائما خلف الحروف ولكنه ليس منها. انه هنا كجوهر للتكوين لزيادة متانة التشابكات الخطية. التكوين يسكن داخل الهيكل المعد له. ونرى في هذا التكوين ان الخط هنا هو اناء الخلق الفني يتجاوز النص نحو تعبير جمالي، ومن الممكن ان تبقى له علاقة بجوهر النص. تكوين يعكس الحالات الروحية في القبض والبسط، والجمع والتفريق، عبر الظاهر والباطن.

ونرى هذا الشكل في بعض واجهات الجوامع ايضا، منارتين تتوسطهما قبة دائما.
ان الهيكل الهندسي خلف الحروف هو كما الهيكل العظمي داخل الانسان وبدونه لا نستطيع الوقوف. وهكذا ان الهيكل الهندسي هو اللغة الجمالية التي تخاطب اي انسان حتى لو لم يكن يعرف حرف واحد من الكتابة العربية.

هنالك هندسية اخرى في بناء الحروف، يتعلمها الخطاط منذ البداية. الا وهي بناء الحرف من الداخل، ففي داخل أصغر حرف هنالك حركات رهيفة مخفية لا ترى بالعين احيانا. وهذه الحركات هي اهم ما في الخط العربي. انحناءات و استقامات تتوالى داخل كل حرف. أحيانا تكون بسمك الشعرة الواحدة. ولكن التضحية بها تجعل الخط ضعيفا.
حركات تتطلب تغيير زاوية ارتكازـ القلم ـ على الورقة، وحتى ان الخطاط المتمرس لا يستطيع ان يخطها في اي وقت وبأي مكان. ولهذا يتمرن الخطاط كثيرا قبل بدء الخط. يتمرن من اجل الوصول الى حالة عالية من التركيز الذهني وبالتالي الى طاقة عالية. ويمكن للخطاط ان يتوقف بعد ساعات من التمرين قائلا: لا اجد الحاء او الواو في هذا اليوم. ويعود في اليوم التالي ليكرر التمرين من اجل ان يتوصل الى خط كل الحروف كما يعرفها وكما تعلمها من استاذه الشيخ. وهذا ما تكلم عنه ابن البواب في القرن الحادي عشر بقوله:
ان من تعاطى هذه الصناعة يحتاج الى فرط التوفر عليها، والانصراف بجملة العناية بها، فانها شديدة النفار بطيئة الاستقرار، مطمعة الخداع، وشيكة النزاع، عزيزة الوفاء، سريعة الغدر والجفاء.

ومن الاساليب التي لا تقبل التضحية بهذه الفوارق الدقيقة. وكمثال هي خط الثلث وخط التعليق الايراني.

في خطوط القباب، وأعالي الجدران. يمكن ان توحي الخطوط ايضا بأشياء كثيرة. وقد لا تكون في علاقة مباشرة مع النص المخطوط. فالنغم الهندسي للألفات واللامات في قباب المعالم المملوكية في القاهرة. نراه طاغيا على بقية الحروف.

وحركة الحروف المخطوطة على بعض معالم اسطنبول توحي بمسيرة هذه الحروف وحركتها. وعناوين الفرمان العثماني بخط الجلي ديواني، تبدو كموكب مرح، والخطوط على قبر عمر خيام بخط الشكسته تبدو فيها الحروف كالطيور الهاربة لكل الاتجاهات. الخطوط الكوفية وعلى أكثر اشكالها المتعددة توحي على العكس بثبات البناء المعماري.

وكانت هنالك قواعد يتفق عليها المعمار والخطاط، لنوعية الخطوط، فأن كان المفروض اعطاء الهيبة والفخامة والكبر للبناء، يستعمل الخطاط حروفا صغيرة، ولكن خط كبير وعريض يجعل مظهر البناء صغيرا.

وأكثر التصاق للخطاط بالعمارة، كان قد تم في ولادة الخط الكوفي الهندسي، المعمول من الطابوق. وقد فرضته في ذلك الزمن اشكال الطابوق على الخطاط. وتوجد لحد اليوم معالم زينت بهذا الاسلوب في بلدان عديدة وخصوصا في بلدان اسيا الوسطى والعراق وايران،. ورغم كونها قد عملت منذ قرون عديدة. الا ان ما تتميز به من القيم الجمالية يبقى لحد اليوم يغذي تطلعاتنا الجمالية.

لم يعد الخط العربي في هذا الاسلوب الكوفي الهندسي يمتلك ميزته الجوهرية. الا وهي ما تعطيه زاوية حركة القصبة. من رفع وسمك، وغلبة الاستدارات والانحناءات. انما ابتدع الخطاط للبناء الذي عمل من الطابوق اسلوب جديد فرضته المادة الاساسية في البناء، وهي الطابوق، والوحدة الاساسية للخط هو المربع. كل الحروف لها نفس السمك، وكل الفراغات حول الحروف تملك نفس سمك الحروف.
ولأول مرة استطاع الخطاط في هذا الاسلوب عمل خطوط مائلة كما في الكثير من المنائر في صعود لولبي على الاسطوانة نحو الاعلى. ويرى المشاهد خطوط مائلة صاعدة تعارض خطوط الاشرطة الافقية الساكنة.

عند التطلع مليا لخطوط معالم سمرقند مثلا نرى منظر بهيج متحرك. توصل اليه الخطاط بعد الف صعوبة وصعوبة، فكان عليه ان يلوي بعض الحروف ويدمج اخرى. يستعيض في مكان بحروف مشابهة او يكتب الكلمة بالعكس في مكان آخر. وهذا الاسلوب في الخط يعطينا الاتحاد التام والتساوي ما بين جسم الحرف واللاجسم المحيط به. كما انه التحام كامل بين الخط والمعمار.

وحتما ان الخطاط في التصرف هنا، والتجاوز هناك، كان يعرف انه فنان مبتكر مما يملئ قلبه بالسعادة.
عرض وطول التشكيلة الخطية، والمساحة التي تستقبل الخط، خضعت كلها بوعي او بلا وعي الى ما يسمى ـ الاعداد الذهبية ـ وهي نسب سليمة ما بين القياسات. اتفقت عليها الانسانية منذ العصور القديمة. وتهرب هذه الاعداد الذهبية عن التعريف البسيط والسريع، لكنها تكون حاضرة ازاء الكثير من نشاطات الانسان في ممارسة الحياة اليومية وعلى اكثر الفنون. وقد استلهمها البشر وتعرفوا عليها سابقا من البحث عن اسرار الكون، والتمعن في رؤية الاشكال الطبيعية على الارض. فظهرت بعض العلاقات السليمة في الطول والعرض، تتكرر في اشياء كثيرة مختلفة عند الانسان والحيوان والنبات. ادخلها الانسان بعد ذلك في شتى المجالات وخصوصا في الفنون. فنراها تساهم في تناسب النغمات الموسيقية. او الحجوم والسطوح المعمارية، وتوزيع الاشكال على سطح اللوحة التشكيلية. وفي الخط كان اول من استعمل هذه العلاقات السليمة هو الخطاط ابن مقلة في القرن العاشر، اذ انه تكلم عن العلاقات النسبية للحروف في ما بينها.

ولا يعني هذا ان كل الخطاطين درسوا هذه العلاقات النسبية. انما يكفي للخطاط في مشاهداته الكثيرة للخطوط القديمة. امتلاك هذه العلاقات السليمة عبر الحدس والاحساس. ويطبقها فيما بعد على حروفه ومساحات تكويناته. ان مساحة الاوراق التي نكتب بها كل يوم في الزمن الحالي، ماهي الا اختيار للنسب الاكثر توافقا في الطول والعرض مع حاجاتنا اليومية. واتفقت المصانع في دول عديدة لانتاج مساحات من الورق تخضع لقياسات الاعداد الذهبية. كما اتفق المعماريين على مساحات للغرف والجدران والنوافذ تعتمد هذه الاعداد الذهبية. و كمثال على هذا ما يسمى المستطيل الذهبي، وهو يتكون من مربع يلتصق بجانبه مستطيل صغير، وكلاهما يكونان مستطيلا كبيرا. ولكن المستطيل الصغير والكبير متماثلان، أي النسبة بين اضلاعهما متشابهة. وهي نسبة مريحة بصريا.
وقد ساعدت هذه النسب في مساحة الورق ومساحات الخط، الى التوصل لتكوينات خطية متناغمة للحروف والفراغات بجانبها. ولتجنب الازدحام للحروف هنا والتباعد هناك. وبالتالي ان النسب السليمة هي أحد أهم معايير الجمال.

التكوين الخطي هو قبل كل شيء اتحاد عدة كلمات فيما بينها داخل شكل واحد. وبما ان الحروف العربية متعددة الاشكال، فمنها الواقفة ومنها المستلقية ومنها المعلقة. فأن ادخالها ضمن تكوين سليم يتطلب مهارة من الخطاط وذكاء لجعلها متعاطفة، ودون اي اختلاف ظاهر في ما بينها من اجل الوصول الى نتيجة تعكس التكامل والتآخي بين الحروف.
ويبذل الخطاط جهود واسعة من اجل اقناع كل الحروف بالدخول في الاتحاد الجديد الذي يريده. ونرى بعض التكوينات عجز فيها الخطاط عن اقناع كل الحروف، فقلص حجم الحرف الذي لا يساهم في العملية الجماعية، كما يكبر ويطيل احيانا حرفا متطاوعا معه. هنالك حروف تبدو ثقيلة واخرى تبدو خفيفة. ولابد من ايجاد المساحة التي تناسب كل منهما، كي لا يهيمن حرف على حرف آخر.
وفي المعالم المعمارية ساهمت الالوان بالمشاركة في اعطاء التعادل. فاللون الفاتح يوحي بالبعد بجانب لون غامق يوحي بالقرب.

لابد من حسن ادارة كل هذه الامور، وهذا هو المقصود بهندسية الخط. ونرى في تشكيلات خط الثلث استعمال قلمين دائما: الاول لخط الحروف، والثاني يكون بقياس ثلث الاول يخصص للحركات. مما يحول شكل اللوحة الخطية الى منظر تجريدي تقترب فيه الحروف الكبيرة وتبتعد فيه الحروف والحركات الصغيرة. يتأمل فيه المشاهد الذي يقرأ الكتابة العربية وكذلك الذي لا يقرأها. فيتيه بتخيلات وتأمل ممتع.
وأول اشارات للهندسة الخطية تركها لنا الخطاط ابن مقلة في القرن العاشر. كان يبتديء في التكلم عن المداد، ووصفة تحضيره حسب اوزان المواد للتوصل الى الاسود القاتم. ويتكلم عن بري القلم، فيعطي علاقات متناسبة ما بين الفتح والنحت والشق والقط. فالشق لمنقار القلم يكون سُــبع طول الجلفة. وان كان رخوا نصف طول الجلفة. ثم يتكلم عن الحروف، فيقول ان الالف يجب ان يكون مستقيما غير مائل الى استلقاء او انكباب. حرف الراء يكون من خط مقوس، وهو ربع محيط دائرة قطرها الالف. في نسبة مقدرة في الفكر.
وهنا يترك ابن مقلة للخطاط التصرف والتخيل. بقوله نسبة مقدرة في الفكر. ويستمر بعد ذلك في اعطاء نسب بقية الحروف. ويعلق على اتصال حرف الالف بالكاف فيقول انه يكوّن مثلث قائم الزاوية. وحرف النون شكل مركب من خط مقوس، وهو نصف الدائرة، واعتبار صحتها ان يوصل بها مثلها فتكون دائرة. وهكذا نرى منذ الف عام التصق الخط بالقياسات للنسب السليمة.
وقد وصف احد النصوص خطوط ابن مقلة في رسالة علم الكتابة للتوحيدي:

... في خط ابن مقلة، قال: ذاك نبي فيه، أفرغ الخط في يده كما أوحي الى النحل في تسديس بيوته...

واستعمال كلمة تسديس بيوت النحل للمقارنه مع خطوط ابن مقلة، انها فعلا في مكانها لان نصوص كثيرة تذكر انه اول من كتب عن هندسة الحروف العربية.
ومن نص لاخوان الصفا في زمن ابن مقلة اي القرن العاشر يقول:

ان اصل الكتابة كلها في اي لغة وضعت، ولاي امة كانت، وباي اقلام كتبت، وباي نقش صورت وان كثرت، فان اصلها كلها هو الخط المستقيم الذي هو قطر الدائرة، والخط المقوس الذي هو محيط الدائرة، فاما سائر الحروف فمركبة منها ومؤلفة.
ولا نجد تعبير عن هندسة رسم الحروف اكثر بساطة من هذا النص، والذي يذهب راسا الى ما هو جوهري في مظهر الحروف.

ثم جاءت قياسات الحروف بالنقاط، ولحد الان لم يتاكد المؤرخون على زمن ولادتها. حيث تحدد أعداد النقاط المخطوطة بنفس القلم ارتفاع وعرض وانحناء كل حرف. ولادة هذه القياسات غير واضحة. ونراها قليلة ولبعض الحروف منذ القرن السادس عشر. ثم صقلتها اجيال الخطاطين فيما بعد ولحد يومنا الحالي.
وهذه القياسات هي التي نسميها اليوم قواعد الخط. يكررها التلميذ للتعلم، وكذلك الاستاذ يكررها أيضا باستمرار، من اجل التركيز على النفس قبل الخط. وهذه الحالة من التركيز تتطلب الوصول الى درجة عالية من اليقظة والتأهب والحذرعند التوجه للخط، من اجل انجاز اجمل الخطوط وأكثرها قوة. مما يتطلب ذلك من الخطاط تكثيف أعلى الطاقات الممكنة، وايقاظ كل خلايا الجسم والذهن لتشارك في عملية الخط.

القياسات للحروف بالنقاط تختلف من اسلوب لآخر، فمثلا لو نأخذ حرف الالف في خط الثلث فأنه سيكون بارتفاع يعادل ارتفاع سبع نقاط ، خطت الواحدة فوق الاخرى، ونفس الحرف في خط النسخ يكون بارتفاع خمس نقاط، وفي خط التعليق اربع نقاط، وفي خط الرقعة ثلاث نقاط.

ان هذه القياسات انما تعمل بهدف الدقة والتعادل في الخط، ومن اجل بناء الحرف بأجمل شكل ممكن. وهي علاقات تعارف عليها الخطاطين. وكانت في القرون الاخيرة للدولة العثمانية، تعتبر القواعد الرسمية لفن الدولة. وعلى اساسها يحكم المجتمع على درجة ومكانة الخطاط. وان الخطاط الذي يتقن هذه القياسات هو وحده الذي سوف يستلم طلبات الدولة لعمل الخطوط الرسمية، ويحق له تعليم الخط، والتوقيع تحت خطوطه. ولابد من ذكر كون القواعد في الخط هي هدف الخطاط لبناء تكوينه بشكل مريح للنظر ومنشط للاحاسيس.

عند النظر الى شريط مخطوط في أعلى الجدران للمعالم المعمارية، يبدو لأول وهلة كتشابك للحروف وغير مقروء. ولكن عند التأمل في الخطوط وحركاتها، لا نلبث ان نكتشف النغم المخفي. والتوزيع الموسيقي المتناسب للحروف. وهكذا يبيح النص نفسه للقارئ الصبور المتأمل.
في بعض التكوينات الخطية هنالك طاقة تبتديء من نقطة في وسط التكوين لتجذب حولها كل بقية الحروف. وان يفتقد التكوين لهذه الطاقة فأنه سيبدو متفككا ولا يثير المشاعر. وتشابه هذه التشكيلات الاستدارات الحركة اللولبية في القواقع البحرية.
عندما يبدا الخطاط من نقطة الثبات ويستمر بالخط نحو نقطة هروب انما يعكس بهذه الثنائية الحركة، حركة تعكس زمن ابدي، لان الخط مهما كان ساكنا فانه يعطي مظهر الحركة.

تعادل الحروف في الشبكة المخطوطة، يكون في ذهن الخطاط كتعادل الانسان الذي يمشي على حبل في الفضاء. فكلما شعر الانسان بخطر السقوط لجهة ما، فأنه يميل بذراعيه وجسمه للطرف الآخر، كي يجد تعادله من جديد. وهكذا ان الخطاط يغير الحروف أو يغير مكانها، يتلاعب بالحركات، لتؤدي دورا في تعادل التكوين. من اجل اعطاء تعبير آخر للحروف. تعبير آخر غير معنى الكلمات. وهنا يكمن المجال الفني الرائع للخط العربي.

لعمل تكوينات خطية، يقلد المبتديء أولا تكوينات كبار الخطاطين. لذلك نشاهد تكوينات متعددة كررت من قبل عدة خطاطين وقد تختلف قليلا. رغم وجود زمن طويل ما بين وقت خطها. ويضع المبتديء اسمه بجانب اسم الخطاط الذي ابتكر التكوين.
ولكن مع تطور تجربة الخطاط المبتديء وتكاثف الخصوبة في عمله الفني يتوصل هو الآخر لابتكارات جديدة.

ومن التكوينات المهمة في الخط العربي، لوحة الخطاط مصطفى راقم في متحف طوب كبي باسطنبول. ( لا حول ولا قوة الا بالله ) وكنت قد وقفت طويلا امام هذه اللوحة أتأمل ما ترسله لعين المشاهد. الرهافة والقوة التي تبعثها تشكيلة راقم بآن واحد. كذلك حجم الحروف الكبير نسبيا لخط مثل هذه التكوينات. تدهش المشاهد ايضا الاناقة في الخط، ونوعية الحبر الاسود، والالوان الباهتة لرسوم الأغصان الاربعة. وعندما نرى كيف انه فكك العبارة، وثم أعاد بنائها من جديد بشكل متناسب وبايقاعات منغمة. فأنه ينال الاعجاب والتقدير.
أستعمل الخطاط راقم الثلث الجلي وهي القياسات المعمارية للخط وذلك بتطويل الحروف. وأعاد ترتيبها بشكل يبتعد كثيرا عن الشكل الاعتيادي للقراءة. وبهذا نكتشف انه اراد انتاج لوحة فنية قبل كل شيء. لوحة مدروسة بوعي للهندسة قبل بدء الخط. ( يمكن رؤية هذه اللوحة في الكتاب المذكور أعلاه )
ان مثل هذه اللوحة يمكن ان تكون مثالا يـُدرس بعمق، فانها يمكن ان تكون طريقا للامتثال بها نحو خط مستقبلي.

لم يكتمل التكوين عند راقم من الحروف الموجودة في العبارة، وينقص حرف الف، فأضاف راقم كلمتي ( العلي العظيم ) في الاعلى، واستعار منها حرف الالف ليكبره مع بقية الحروف للتكوين. فأعطانا شكل هندسي متوازن من الجهتين، ثم قرب كل الثلاث ( لام الف )، وجعل الحروف المدورة الواحدة في بطن الاخرى، أما الحروف التي لا يمكنها الدخول في التكوين قلص شكلها لكي تجد المكان الملائم لها. ووضع كل النقاط في الاعلى متحدة كي لا تدخل الخلل في بناء التكوين الهندسي.
وكم هو ضروري وضع الفتحات الثلاث في الاعلى مع الشدة والسكون والهاء، كذلك ان كل الحركات الاخرى تؤدي دورا ضروريا في تعادل الفراغ، وان نحذف احدها لتخلخل التكوين. وتوج كل حروفه في الاعلى بلفظ الجلالة. ولغرض جمالي ادخل بقية النص في ثلاث سطور ناعمة في الاسفل وعلى الجانبين من التكوين.

ان كل هذا التصرف في اعادة رسم الحروف، والابتكار المتعدد في توزيعها على سطح الورقة، انما هو الفن بحد ذاته، فن يمكنه ان يغذي جماليا اي شخص يهتم بالفن حتى لوكان بعيدا عن الفهم للنص المكتوب. وجاءت رطوبة خفيفة دخلت الورق كالغيوم الرهيفة لتزيد الجو الشاعري جمالا، ولكنها لا تؤذي الخط ولتقول لنا ان هذا الخط مضى عليه زمن طويل. ولتعطي اللوحة نوع من الابدية والمقاومة لضغوط الزمن.

ونرى في هذه اللوحة ان امكانية الخطاط على تطويع الحروف، ما هي الا نتيجة زمن طويل من ممارسة الخط، ومن الانفتاح على الفنون الاخرى. ففي هذا التكوين للخطاط راقم نستلم أولا الطاقة الجمالية، ومن بعد ذلك نبحث عن الكلمات للقراءة. وان التعبير للشكل والبناء الهندسي واناقة الحروف هي الفن الحقيقي للخطاط راقم.
ان الهندسية المخفية خلف الحروف هي لغة عالمية. وهي التي تجذب عين المشاهد أزاء الخط العربي، وحتى الذي لا يقرأ العربية. لانه يشعر بوجود شيء في الخط امامه يعرفه وسبق وأن التقى معه، وهذا الشيء هو الهندسة البسيطة التي يتعرف عليها كل من دخل المدرسة أو تأمل الطبيعة والمعمار. فيبحث في احساساته عن الذي يجذبه في هذه اللوحة. وهذا البحث في داخله يقوده الى حالة تأمل كمن يحاول تذكر شيء منسيا.
ودفع الانسان للتأمل هو دور وواجب الفن في الحياة. البحث في داخل الانسان صعب جدا، ومن غير الممكن احيانا الولوج الى اعماقنا والحوار مع النفس.

يقول الحكيم كونفسيوس ان هنالك من البشر من يمكنهم عمل رحلات بعيدة حول العالم، ولكنهم لا يستطيعون عمل خطوة واحدة باتجاه انفسهم. ولكن الفنون ومنها الخط العربي، هي التي تعطي الامكانية للمشاهد للتأمل وللولوج في أعماقه وبأكثر من خطوة واحدة.

الصداقة القديمة والوثيقة بين الخطوط والزخارف الهندسية قادت الخطاط الى ابتكارات لانهاية لها. فمن اجل الوصول الى مظهر متين للخطوط استعان الخطاط بالزخارف المتعددة لمليء الفراغ ومساندة الحروف في الايحاء بالقوة والمتانة.
انذاك تتحول الخطوط الى صور ولكنها ليست صور تشخيصية.
ولو نتسائل كيف دخلت الهندسية عالم الخط العربي في غياب الصورة، لنجد ان الانفتاح على الفكر اليوناني كان احد الينابيع التي ساهمت في هذا التطور.

اقليدس و فيثاغور كانوا من اول المفكرين الاغريق اللذين ترجمت بحوثهم الى اللغة العربية. ويعود ذلك الى انشاء المكتبات الكثيرة، فقد اسس المأمون في القرن الثامن الميلادي ( دار الحكمة ) وفيها الف علماء مشهورون الكتب وترجموا النصوص الاغريقية والفارسية القديمة مع الشرح والتعليق. كما احتوى بيت الحكمة على مرصد للمراقبة الفلكية.
دار العلم في القاهرة اسست في القرن العاشر من قبل الخليفة الحكيم الذي شجع على ترجمة النصوص المتعلقة بالهندسة وعلم الاعداد وعلم الفلك وصناعة الاسطرلابات والجداول الفلكية.
بعد ذلك اهتم (اخوان الصفا في القرن العاشر الميلادي ) في كتاباتهم بنصوص عن علم الهندسة ودرسوا كل ما كتب عن الكواكب، وتأثير النجوم على التغيرات التي تطرأ على العالم. فاستمدوا منها علم الاعداد الذي هو اساس رسم الزخارف الاسلامية. لانها توحي بنظام سماوي وتعكس عناصر الطبيعة على الارض. وعندما تحيط الانسان هذه الزخارف المستوحاة من اشكال النباتات أو خلايا النحل او النجوم. انما تعينه على تأكيد ذاته.
ومع مرور الزمن وتكرار رسم الزخارف والخطوط تبسطت الاشكال نحو التجريد. فنرى اشكال لانهاية لها، في كل بناية جديدة رسوم جديدة. وبتغييرآت عن ما كان قبلها. ولابد من الاشارة هنا الى الاختلافات الثقافية الجغرافية للعالم الاسلامي. كذلك الاختلاف للمواد المستعملة في انجاز الحروف وقدرتها على تبسيط او تعقيد الشكل للحرف.
الخطوط المنحوتة لا تشابه الخطوط المرسومة على الورق. وعبر كل هذه التجارب توصل الخطاط الى اعداد كثيرة من الخطوط التي تجاور فنون التوريق والتشجير التي ترطب الخطوط المستقيمة. وعندما يذيب الخط نفسه في فن التوريق، فأنه لم يعد كتابة للقراءة فقط، انما انه فن مرئي بأشكال جديدة تضيف علامات جديدة الى الجمال العالمي.
ولابد من ذكر المقرنصات في المعمار الاسلامي، والتي تكون بثلاثة ابعاد. كتماثيل تجريدية تهدف الصعود من المربع نحو الدائرة وبالتالي تريد الوصول الى المركز في القبة العالية. انها تماثيل تجريدية دون تشخيص ولكنها في حركة مستمرة.
حسن المسعود ـ باريس
www.massoudy.net

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى