فنون بصرية حسن المسعود - الخط العربي الحديث..

كل انسان عند محله رحب الفناء، شامخ البناء، عالي السناء.
الشاعر كـثــيّـرـ. القرن 8



تأتي حركات ومظاهر الحروف في الخط الحديث كرغبة داخلية آنية للخطاط، وتكون في تعبير فني قد يلتقي أو يختلف مع نص الكتابة. فالخط هنا هو ليس كتابة بهدف القراءة الواضحة، انما المقصود هو الجانب المرئي قبل كل شيء. وعبر هذا الجانب المرئي للحروف هنالك رغبة بقول شيء معين والتعبير عنه. التعبير بواسطة الفن عن شيء محسوس قد يتجاوز قدرة الكلام على التعبير. أنذاك تبيح الحركات الخطية ما في نفس الخطاط. وهذه الطريقة في التعبير الفني الآني لاتعني السهولة. انها لغة الفن، تنمو عند الانسان كما تنمو الفاكهة عند الشجرة، فتكون قد مرت قبل نضوجها بزمن نمو طويل نحو طريق الوجود.

قد يبدوا مظهر الحركات الخطية الحديثة للناظر كحركات عفوية تلقائية وبسيطة. وكأنها تولد بسهولة. ولكنها في الحقيقة ليست سهلة وهي حركات قديمة، وربما أخذت سنوات طويلة للتكامل. حركات آتية من معرفة ومثابرة وصبر. فيعطي هذا الطريق الطويل كثافة في الرؤى عند الخطاط تسمح له في ولادة سريعة للخطوط، ولادة حركات متناثرة كالانفجار على سطح اللوحة. خطوط قليلة دائما، ولكنها اختصار لخطوط أكثر.
ولابد من القول ان السرعة في الخط لها قوانينها هي الاخرى، كما كانت للخط القديم قوانينه في البطيء. ولا تحيد السرعة عن الهيكل الهندسي المرسوم ذهنيا لها. ولا عن القيم الفنية المطلوبة.

الهندسية الكامنة خلف الحروف تعطي الامان للمشاهد الذي يتحسـسها. لأن عالم الاشكال الهندسية هو نفسه في كل الحضارات على الكرة الارضية. وهكذا يتمكن المشاهد الذي لايقرأ الحروف العربية من السيطرة على فضاء اللوحة عبر قوة البناء لهيكل الحروف. وهذه القراءة الفنية التجريدية تنمي من وعيه واحساساته. فعندما يبحث في متاهات الحروف عما يجذبه، فأنه سوف يكتشف بوعي او بلا وعي القوانين الهندسية المتحكمة بالتشابكات الخطية وتوازنها. ويتعرف على موضع المركز الذي هو قلب التكوين ومنبع كل الحركات.
وبنفس الوقت وبشكل مواز فانه يبحث عن مركزه الذاتي. وبهذا تتم امام العمل الفني وحدة الوعي واللاوعي بآن واحد.

بعد نقطة الثبات في المركز يكتشف المشاهد نقطة الهروب، حيث تتجه اليها حركات أكثر الحروف. وكأنها تريد الخروج من مساحة الورقة. وما يوقف انهيار التكوين بأتجاه نقطة الهروب، هو صلادة خط المحور. والمحور هو خط القوة العمودي، ومكان الالتحام الكثيف لأكثر الحروف بجانبه وحوله. تماما كالعمود الفقري عند الانسان. انه مكان التوازن بالنسبة لقانون الجاذبية. أو ما يمكن تسميته بالاصح، مكان السيطرة على اختلال التوازن في الشكل.

وعبر هذه الديناميكية لخطوط القوة في التكوين، يحكم المشاهد على قوة الصعود وجرأتها، وعدم سقوطها. وبالتالي يختبر رغباته هو ايضا للارتقاء. اذ توحي الخطوط دائما بمنظر مبهم، يجد صدى ضبابياً في نفس المشاهد. فيتوقف محاولا تفسيره ومعرفته. وهذه الرغبة بتفسير ماهو مرئي هي العملية الثقافية للفن.
وهكذا ان الخط كفن يذهب الى ابعد من تمتع جمالي. انما هو طريقة لبناء الاحساسات الداخلية وعلاقتها باللاوعي. فيكون الفن هنا وسيلة تعرف وأكتشاف للذات البشرية.

تكوين الخط ماهو الا تجمع عدة حروف حول مركز يقع في قلب هيكل هندسي. بهدف اعطاء بعد جمالي جديد بالاضافة لجمال الحروف نفسها.
وكل تكوين خطي هو عالم قائم بذاته، والجيد منها هو الذي يخلق علاقات جديدة مع الفضاء المحيط بالحروف.

العلاقة مع الفضاء هي من العناصر الاساسية في نجاح التكوين الخطي داخل الفضاء المحيط به. الفراغ حول الحروف لابد وان يكون مدروسا، كالفراغ المعماري. فان الفراغ في المعمار هو مكان السكن وهو المجال المفيد. لذلك لابد ان ننظر للفراغ في الخط تماما كقيمة الفضاء المعماري. وان السيطرة على الفراغ في الخط، اي كل ما هو محيط بالحروف سيقرر مدى جودة الخط او ردائته.
علاقة الحروف مع الفراغ المحيط بها غير معروفة مسبقا. وخطوط التعادل داخل هيكل الحروف غير معروفة مسبقا ايضا. وكل هذه الاشياء تبقى من مجال عالم الاحساس والتخيل للخطاط، في لحظات الخط نفسها. اذ لابد وان يخمن ذهنيا مدى ثقل الكتلة التي تؤلف مجموع الحروف، ويتخيلها في الفضاء كالتمثال الذي يخضع لقوانين الجاذبية الارضية. فتختلط المعرفة الفكرية ومعرفة الجسم اللاواعية في الانتاج الفني.

الانسان الذي يبحث عن تعادله، انما يتعين عليه البحث عن التعادل بأستمرار داخل الاشكال المحيطة به. وكذلك عبر الفنون. حيث ان التكوين الذي يوحي بالسقوط سيجلب له الهم والغم. بينما ان التكوين الذي يوحي بالارتقاء والصعود سيعطيه العزيمة والثقة.
الحركة المضبوطة في الخط تكون آتية من عيش اللحظة نفسها، لحظة الخط عند الخطاط، ولحظة الرؤية عند المشاهد. انذاك يستلم المشاهد مشاعر الخطاط كطاقة. وكما هو معروف ان للفن امكانية في اعطاء طاقات تعين على الحياة. تساعد على تجاوز صعوبات الحياة نحو الأمل.
لابد من سيطرة الخطاط على ديناميكية الحروف، وحركاتها الصاعدة والهابطة.
من اجل تكوين متناغم يستطيع ان يطير في مداره الصحيح، فتبدو الحروف وكأنها عائمة لاوزن لها. الاحساس بالثقل يأتي دائما من مقاومة حركة ضد حركة اخرى.
وعندما تكون الحركات مضبوطة ومتناغمة، اي عندما تطيع كل الحروف الخطاط فأن قوتها تكفي لحملها ولا توحي بالسقوط. وفي هذه الحالة من الضروري ان تترك الحروف فرديتها، وتتلائم مع مجموع الحروف وتقبل الاتحاد بها. وسيكون الجمال هنا هو اتفاق كل الحروف فيما بينها، وان يتخلخل حرف واحد فانه سوف يقلل من الجمال.

لكل حرف مقاييس مدروسة حسب الطول والعرض. وبنسب جميلة عبر مقاييس درستها الانسانية منذ زمن طويل للوصول الى الاكثر جمالا والاكثر نبلا. في حركات اكيدة تكون كطاقة كامنة في الحرف نفسه.
خلال القرون الماضية استطاع الخطاط ان يعيد رسم الحروف باستمرار. وذلك بهدف ادخالها في تكويناته وتطويعها لما يريد، او ابتكار اساليب لحاجات متعددة. وكانت التعديلات للحرف دائما جمالية تنتمي للاسلوب نفسه، او تولد من خلاله ولكنها كانت باستمرار حروف جديدة ولم ترى سابقا. فكانت ابتكارا يزيد من ثراء الخط بشكل عام.
الهيكل الكامن خلف الحروف انما يكون نتيجة حسابات رهيفة، رغم ان الخطاط لا يستعمل الا نادرا الادوات الهندسية. انما ان قلمه يتبع تصوراته ورؤاه من اجل خط الشكل المتخيل في ذهنه.
في النغم الهندسي هنالك ايضا قوة واسعة، مستلهمة من هندسية الاشكال الطبيعية كالنباتات، او عبر النسب الفاضلة في العلاقة بين نسبة الخط الاكبر الى نسبة الخط الاصغر.
ولكن اشكال نسب الجمال تخضع لتأثيرات متعددة، فالجمال في الحاضر ليس هو الجمال في الماضي انما ينبع منه. وكما نرى ان جمال الخط العربي في القرن التاسع كان خط كوفي المصاحف، بينما جمال خط القرن التاسع عشر، اي بعد الف سنة هو خط الثلث.
هنالك دائما الرغبة بالتعبير، ومن جهة اخرى هنالك متطلبات بناء شكل التكوين. فعندما تجد الحروف المكان الملائم للتعادل، انما تحتفظ بشكلها وثقلها، ولكن لابد من السيطرة في كل تكوين على نقطتين وهما مكان الثبات ومكان الحركة. أي لابد من ديناميكية، ولكن بشرط تجنب السقوط. ولابد من الحرارة في الحروف عبر التعارض بين الثبات وبين الحركة. والتعارض هنا هو ثراء وليس تفقير للشكل.
يتجه الخطاط لاحساساته التي تتخيل مسبقا الاشكال. ولكن النتيجة ليست دائما كما هي ـ الرؤى ـ عنده، لذلك انه يعيد ويعيد الخطوط عدة مرات الى ان يقترب مما هو مرئي في ذهنه.
ولكنه يجد في بعض الاحيان ان الخطوط تذهب الى ابعد مما تخيله. فيكتشف عالم جديد، انه الخلق الفني.
ايجاد نقطة التعادل في التكوين تتطلب ان يخمن الخطاط ثقل الحروف في الفضاء وعلاقتها مع الجاذبية الارضية. فان صعود الحروف الواحدة فوق الاخرى، هو كصعود الراقصين في الفضاء.
الاحاسيس هنا تختلط مع ضرورة الالتزام بالتقنيات، ومع الموقف الشخصي ازاء احداث العالم. الفرح والالم، الحياة والموت. والرغبة في اكتشاف القوانين الطبيعية. البطيء او السرعة، القوة او الارتخاء. هكذا تكون لغة الخط الجمالية الى جانب المعنى الادبي.
لذلك ان حركة واحدة مكثفة يمكنها ان توقظ في ذهن المشاهد حركات اكثر. اي ان الاختصار في الحركات يمكن ان يكون نافعا لان المشاهد يبحث في ذاته عما يجب ان يملأ الفراغ وعما ينقص، فيساهم هو نفسه في العملية الفنية.
الفن هو مرآة المجتمع يعكس الحياة وصفات هذا المجتمع. فالخط العربي مثلا يعكس الثقافة المعاشة في المدينة الاسلامية، والخط الصيني يعكس عالم الحضارة الصينية. رغم التقائهما في الجوانب التقنية في اكثر من مرة.

الاثار الفنية ومنها الخطوط تمنح امكانية التعرف على الاجواء الفنية التي عاشتها الشعوب المختلفة. فان اسلوب الخط الديواني وهو خط رسائل الديوان العثماني. كان يعطي للخطاط حرية تصرف واسعة، لانه خط سياسي قبل كل شيء. بينما ان خطوط الكتب المقدسة كانت تلتزم بالقواعد احتراما للنص. الخطوط في المعالم المملوكية في القاهرة لا تشابه خطوط معالم ايران بنفس الزمن. وان تكثر في معالم ايران والعراق وتركيا خطوط منحنية، ففي معالم سمرقند وبخارى أكثر الخطوط مستقيمة وتعمل من الطابوق الملون.

وأخيرا ماذا يدهش الانسان الذي لايقرأ العربية امام الخط العربي؟ والجواب هو كما في اي عمل فني تشكيلي آخر. حيث تتشابك عدة عناصر فنية منها النغم المرئي في الحركات والالوان وتوافقها، وما اراد الفنان قوله عبر عمله الفني، وهل نجح في ذلك ام لا؟ ومدى استقبال المشاهد لعالم الفنان، فلكل انسان مزاجه النفسي والفنان يعكس عالمه الداخلي عبر فنه، وقد يكون مفرحا او حزينا، صابرا ام غاضبا. والخطوط تعطي من اول نظرة لها منظرا يوحي بالكثير قبل معرفة النص المخطوط، ومن خلال هذه الايحاءات الاولى يقبل المشاهد العمل الخطي او يرفضه.

عمل خط حديث لايعني الوقوف ضد الاساليب الآتية من الزمن الماضي، انما المشاركة والحوار معها. الاساليب القديمة مهددة بالضياع، ولابد من تشجيع الخطاطين اللذين يمارسونها. فأن كل عطاء بمجال الخط هو ايجابي.
ومن جانب آخر لا يجوز الاعتقاد ان الخط العربي وصل الكمال، لذلك يجب الاستمرار في البحث لاضافات جديدة. الفن هو انعكاس لتجدد الحياة وتطورها.
ولو نلقي نظرة على صفحات الكوفي الاول لنراه يختلف عن كوفي القيروان الثقيل وعن كوفي الاندلس الرهيف. وهكذا ان الاضافات لتراث الخط العربي كانت مستمرة في كل قرن.

سرعة العصر الحديث عبر وسائل النقل، وفي عالم الاتصالات السريعة الحديث. تفرض ايجاد توافق لها في كل الفنون ومنها الخط.
وان نستلهم سرعة العصر الحديث في خطوطنا فستكون هذه الخطوط مدهشة. لانها ستتجاوز القدرة المعروفة للانسان. وسوف يتسائل المشاهد كيف يمكن ترتيب وخط هذا الشكل المعقد من الحروف في ثواني قليلة. بينما ان الخطاط يعرف ان هذه السرعة تتطلب تجارب كثيرة مسبقة. والاستيعاب ذهنيا لكل الاحتمالات لحظة الخط، ولكل ما يعين الخطاط في عمله، او لما يدخل الاضطراب الى نفسه. و لابد للخطاط من التعرف على ما كل يمكن ان يعينه في سرعته او على العكس فيما يجهض رؤاه، ويفشل عمليته الفنية. اذ لا يمكن الحكم مسبقا على نجاح الخط وقوته انما النتيجة الاخيرة هي التي تقرر كل شيء وحتى الخطاط نفسه في الاخير يقف متفرجا للحكم عما كتبت انامله.

حسن المسعود ـ باريس
www.massoudy.net

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى