محمد علام - معركة الجامعة..

عندما أعلن أحمد لطفي السيد عن رغبته للخديوي عباس حلمي الثاني، بإنشاء أول جامعة على غرار الجامعات الأوروبية، سأله الخديوي: وماذا سيكون اسم هذه الجامعة؟ أجاب لطفي السيد: سيكون اسمها الجامعة المصرية بالتأكيد. حينها هب الخديوي واقفًا، وقال ساخرًا: مصر؟ ماذا يعني مصر؟!
إن التعليم من أكثر الأمور المُزعجة بالنسبة للمستعمِر، ولقد تعرضت مصر مثل سائر شقيقاتها، للاستغلال من قبل القوى الاستعمارية، ومهما تعددت الأسباب، يظل استمرار الجهل والتأخر رغبة هدفًا استعماريًا في الأساس. فقد أدرك الإنجليز أن نشوء طبقة مثقفة سيعطل طموحهم الاستعماري، وسيعيق كل محاولات مسخ وتشويه الهوية المصرية التي أفصحت عن نفسها بقوة بفضل طليعة القرن العشرين.
الجامعة المصرية فكرة، والفكرة لا تموت، وعلى ذلك قال لطفي السيد لماذا لا أبدأ بنفسي؟ وهكذا خصص حجرتين في مقر جريدته «الجريدة» لتكونا قاعتا محاضرات، وبالفعل بدأت الجامعة المصرية عامها الأول 1908، كجامعة أهلية، ليس لها مقر ثابت، بل كان يُنشر إعلان في الصحف كل فترة دورية بمقر المحاضرات.
كان الزمنُ باهتًا، وكل شيء يسير ببطء، لكن أن تضم الدفعة الأولى من الجامعة شخصيات مثل: أحمد ضيف، ومنصور فهمي، وطه حسين، لهو إنجاز كبير، لم يكن يحلم لطفي السيد بتحقيقه، خاصة بعد أن كل طالبٍ منهم بعد عودته من بعثات استكمال الدراسات العليا في أوروبا؛ صار كاتبًا كبيرًا، وأستاذًا في الجامعة، وعميدًا لإحدى كلياتها.
التلميذُ وأستاذه
لقد كانت لرحلة السفر إلى فرنسا أثرٌ كبيرٌ على طه حسين، فقد أصقلت فكره ونظمّت نقده، وصار انفتاحه على ألوان من الثقافة والفنون لم يكن ليشهدها إلا في أوروبا؛ يصيبه بالفرح تارة، وبالحزن تارة أخرى. فعندما سافر طه حسين إلى فرنسا في البداية؛ قامت الحرب العالمية الأولى، ولم تستطع الجامعة الاستمرار في تحمل تكاليف دراسته في ظل الظروف الاقتصادية العصيبة التي تمر بها البلاد، فعاد إلى مصر بعد أقل من عام واحد، ليفيق على واقع مرير تعيشه أمته مُمزقة بين الأمية والتعصب والشعور بالنقص، وكتب عن ذلك في مجلة السفور عام 1915م مقاله الذي يمثل ناقوس الثورة ضد التأخر والجمود في مصر:
"وماذا تريدون من رجل لم يكد يأنس حياة النور والهدى حتى ردته الأقدار إلى حيث الظلمة الداجية والضلال المبين... وماذا عسى أن نصنع بذكائنا في بلد كمصر، قد رضي أهله بالقليل من كل شيء، فحسبهم من العلوم والأدب والفلسفة ألفاظًا يلوكونها، وكلمات يعلكونها، وجمل يرددونها بين الشفاة واللهاة، من غير أن تحمل معنى جديدًا أو تدل على رأي طريف. زهدوا في البحث والتفكير، وقنعوا بالنقل والتقليد، لأنهم لم يشعروا بأنفسهم بعد، فليس يعنيهم أن يكون لهم في تراث العقل الإنساني خطر أو نصيب".
لقد كانت فرنسا الشرارة التي أشعلت النور للعملاق القابع داخل طه حسين وأيقظته ليبدأ طريق المصاعب التي تنتظره، وربما الأدق أن نقول إن مناخ الاختلاف وتعدد الثقافات والعرقيات الذي تعرض له إضافة لقدرته على المعارضة والتعبير بحرية دون أن يعود ذلك عليها بخصومات وعقوبات مُذلة؛ هو الذي أثار إعجاب الفتى الأزهري ودفعه لمشاكسة أمته لإخراجها من جمودها، مرة بالشدة ومرة باللين.
عاد طه حسين إلى الجامعة يستمع إلى دروسها، ولم يعجبه الدرس الذي استمع إليه من أستاذه الشيخ المهدي، فهو ليس بشيء إذا ما قورن بالفكر والمنهج اللذان ساهما في رقي المستوى التعليمي بفرنسا، بل إن المادة العلمية على حد وصفه "لم تخلُ من أخطاءٍ مُضحكة".
ومضى طه حسين في مقاله في «السفور» تحت عنوان "في الجامعة المصرية" يجرع الشيخ المهدي عددًا من العبارات الساخرة، وزاد في تهكمه حتى شمل إدارة الجامعة لأنها اختارت بين طاقمها أستاذا كهذا.
وما كاد ينشر هذا المقال حتى قامت القيامة ضد طه حسين وطلب أستاذه الشيخ المهدي أن يعاقب بحرمانه من استكمال البعثة إلى فرنسا، وطال الجدل حتى وقفت الصحف بجوار الشيخ المهدي، وتصدى عبد الحميد حمدي صاحب السفور لدعوة الأهرام لأن يقدم طه حسين اعتذاره للشيخ المهدي، وحمل حملات عنيفة على الشيخ المهدي، وطالب بحرية النقد وكرامة المعرفة، وأكد أن هذا الموقف من الشيخ المهدي انتهاك شديد الخطر على حياتنا الأدبية.
وأشارت «السفور» في عدد لاحق إلى أن بعض الصحف الأجنبية قدمت تلخيصًا للمعركة، وعبرت عن إعجابها بالدكتور طه حسين، المفكر الجريء، وقالت ضمن ما قالت: "وإنا نأمل ضمن ما نأمل أن يكون الدرس الذي أعطاه التلميذ لأستاذه القديم مفيدًا للشيخ المهدي ومفيدًا لغيره".
الأستاذ والعميد
في صباح أحد أيام مارس عام 1932م، وطه حسين يجلسُ على كرسي العميد، بعد أن صار للجامعة المصرية وجود رسمي من خلال الملك فؤاد الأول، وصار العنصر الأجنبي يقل تدريجيًا في مقابل صعود هيئة تدريس مصرية خالصة على أعلى مستوى؛ يتسلم الدكتور طه حسين رسالة من إسماعيل صدقي رئيس الوزراء تحمل توجيهًا بمنح الدكتوراة الفخرية لثلاثة من السياسيين، لم يستغرق الأمر دقيقة من التفكير حتى كتب معارضًا لأوامر رئيس الوزراء، مُعتبرًا ذلك تدخلا في شؤون الجامعة، وهو أمرٌ غير مقبول.
لقد فتحت شجاعة طه حسين النار عليه، وعلى كل من اتخذ صفه، فما هي إلا أيام حتى صدر قرار بفصله من الجامعة ونقله إلى وزارة المعارف. ما دفع أحمد لطفي السيد رئيس الجامعة آنذاك أن يتوجه لمقابلة إسماعيل صدقي شخصيًا، وقال له: إن فصل طه حسين مُخالف للعقد المُبرم بينه وبين الجامعة، يكفي إبعاده عن منصب العمادة، لكن ينبغي التمسك بوجوده كأستاذ فمثله من الصعب تعويضه هذه الأيام.
كان لطفي السيد كأستاذ يرى في تلميذه عبقرية ينبغي رعايتها وحمايتها بشتى الطرق، وكان التلميذ يرى أستاذه "أستاذ الجيل" كما لقبه في إحدى مقالاته.
وفي اليوم التالي كان لطفي السيد في مكتبه ينتظر وعد رئيس الوزراء له، لكن بدلًا من ذلك وصل إخطارٌ بفصل طه حسين نهائيًا وإحالته إلى المعاش المُبكر! هاجت الدنيا؛ ولكن الدنيا التي هاجت ليست دنيا السياسيين ولا الصحافيين ولا المثقفين، بل دنيا حرافيش الثقافة والعلم، هم الطلاب والطالبات، فقد اندلعت مظاهرات طلابية عديدة، احتجاجًا على هذا الفصل التعسفي لواحد من نوارة الفكر في مجتمعنا الحضاري، وتشكلت لجنة من طلاب جميع الكليات، توجه أفرادها إلى مكتب رئيس الجامعة في غضب عارم، أزاحوا الحراس، واقتحموا غرفة الاجتماعات، فإذا بلطفي سيد يشير لهم بالانتظار حتى ينفض جمع عمداء الكليات من الاجتماع الذي انتهى توًا، ثم أشار للطلاب بالجلوس على مقاعد العمداء، متحلقين حول المائدة الكبيرة، وقبل أن يهم أحدهم بالاندفاع في وجهه، قال: كنا نتباحث حول معنى كلمة "صوفة"، فهل لدى أحد منكم معرفة يفيدنا بها؟
هدأت مفاجأة السؤال حماس الطلاب، وجعلتهم يفكرون، ويتشاورون فيما بينهم، حتى قاطعهم الرئيس بعد برهة قائلًا: لو قلنا إن الصوفة من التسامح فهل توافقون؟ فأجاب الجميع: نعم موافقون. ثم قاطع أحدهم: لقد جئنا من أجل طه حسين.. حينها ابتسم لطفي السيد وسحب ورقة وقلمًا وقال وهو يضع توقيعه: وأنا استقلتُ أيضًا.. من أجل طه حسين.
كان لإقصاء طه حسين دوي عظيم، فأضربت الجامعة شهرًا أو يزيد، وتحول طه حسين إلى رمز لاستقلال الجامعة وصمودها أمام السلطة التنفيذية. ليس فقط بين المثقفين، ولكن أيضًا على المستوى الجماهيري.
وفي نهايات عام 1934م، ترحل حكومة صدقي باشا، ويأتي محمود نسيم بقرار عودة طه حسين إلى الجامعة، "كان يومًا مشهودًا" على حد وصف الدكتور لويس عوض، حيث انتظر لفيف من الطلاب بالآلاف وصول السيارة التي بداخلها طه حسين حتى حاصروها واختطفوه منها وحملوه على الأعناق وصاروا يخطرون به فناء الجامعة حتى بلغوا حجرة العميد بكلية الآداب، مجرد تخيل المشهد أمر مهيبٌ بكل المقاييس، ومهما حاولت الكتابات تصويره، فإن من رأى غير من قرأ، ومن عاش غير من تخيل، ولو حاولنا أن نصور لزملائنا وأصدقائنا المدى الذي من الممكن أن تصل له علاقة الطالب بأستاذه، لدرجة أن يتناوب الطلاب على حمل أستاذهم فرحًا بعودته؛ لما صدقنا أحد.
-
مراجع:
محمد صبيح: من مذكراتي الشخصية في الثلاثينيات، مجلة الهلال، أبريل 1983م.
د. لويس عوض: الحرية ونقد الحرية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2014م.
أحمد لطفي السيد: حياتي، دار الهلال، 1982م.
طه حسين كما عرفه كُتاب عصره: محمود أمين العالم وآخرون، القاهرة.

محمد علام

https://www.facebook.com/futility.in.futility/posts/2706392559383725

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى