د. عادل الأسطة - أنا والجامعة 13 : دنانير د.فيصل الخمسة

الدكتور فيصل زعنون من قرية دير شرف ، وهو زميلي في مدرسة الجاحظ الثانوية ، وفي الجامعة الأردنية ، وفي جامعة النجاح الوطنية ، ولولا دنانيره الخمسة لبقيت معلما في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في منطقة نابلس ، ولحصلت على مكافأة نهاية خدمة تفوق مكافأة نهاية الخدمة في جامعة النجاح الوطنية ، والدليل أنني التقيت في هذا الشهر ، في سبسطية في ظهيرة شعرية ، بزميلي في مدارس وكالة الغوث ، في المدرسة العقربانية ، حيث كنت أعلم معه هناك ، بالشاعر محمد الأخرس ، وسألته عن عمله ، فأخبرني أنه تقاعد وحصل على مكافأة نهاية الخدمة ولم يخف مقدارها وأخبرني عن رقم يبدو لمعلم رقما فلكيا . ولكن من قال إن الأمور تقاس بالمال فقط ، فغالبا ما أسخر من زميل لي يردد على مسامعي ما خلاصته أنه لو فتح بسطة فلافل على دوار المدينة لغدا مليونيرا ، وغالبا ما أقول له : " راحت عليك " وأنا خرجت من الجامعة برصيد لا يقل عن 20 كتابا تعتمد في كتابات باحثين ودارسين في جامعات عالمية ، 20 كتابا حققت لي شهرة واسعة .
درست والدكتور فيصل زعنون في مدرسة الجاحظ وتقدمنا للتوجيهي معا وواصلنا تعليمنا في الجامعة الأردنية من ١٩٧٢ حتى ١٩٧٦ ثم افترقنا ؛ أنا عدت إلى نابلس وهو ظل في عمان وصار موظفا في الجامعة الأردنية في قسم التسجيل ، ولما ذهبت ، في العام ١٩٨٠ ، لمواصلة دراساتي العليا في الجامعة التقيت به واستعدنا ذكريات الماضي .
في تلك الأيام مكثت في الأردن أسابيع عديدة أنتظر نتائج قبولي طالبا في الماجستير ، ثم آن موعد العودة إلى نابلس ، فالعام الدراسي قد بدأ ولا بد أن أكون على رأس عملي ، وقد مللت أيضا من المبيت هنا وهناك ، عند بعض أقارب أو لدى بعض أصدقاء أو طلاب من مخيم عسكر علمتهم في الثانوية وسافروا للعمل في عمان ، فأنا ، عدا قلة ما في اليد ، لم أعتد ، في تلك الأيام ، على المبيت في الفنادق .
كلفت الصديق فيصل أن يتابع لي إجراءات التسجيل فوافق مشكورا ، ولم يبخل على طلب الدراسة بخمسة دنانير ، لولاها لما واصلت تعليمي .
دفع لي الصديق رسوم التسجيل فقبلت طالبا من ستة طلاب فقط في برنامج الماجستير ، وكنا كلنا حاصلين على تقدير جيد جدا . ولم أعرف أنني قبلت في البرنامج إلا بالصدفة أيضا .
كانت أمي تزور خالتها رحمة ( أم محمد القوقا ) في عمان ، وكانت ابنتها لطيفة موظفة في الجامعة الأردنية وسكرتيرة في عمادة البحث العلمي والدراسات العليا . أخبرت السيدة لطيفة أمي بأنني مقبول في برنامج الماجستير ، وأن علي خلال أيام أن أدفع الرسوم وإلا فقدت مقعدي ، وأعلمتني أمي بهذا ، وسرعان ما حصلت على إجازة من قسم التعليم في وكالة الغوث وسافرت .
كلما التقيت بالدكتور فيصل وتجاذبنا أطراف الحديث وأتينا على الماضي واستثرنا الذكريات ، سألني عن نصيبه من مكافأة نهاية الخدمة مبتسما ، فالفضل يعود إلى دنانيره الخمسة أولا وأخيرا .
دنانير د. فيصل كان لها الفضل الكبير ، وقصة الدنانير تذكرني بأبي حيدر المختار .
لما حصلت على المنحة من مؤسسة DAAD كان علي أن أتدبر الحصول على وثيقة سفر إسرائيلية ( س.ب.س ) ، ويتطلب الحصول عليها الذهاب إلى مكتب الإدارة المدنية والانتظار حتى يأتي دوري ، ثم أتقدم بطلب إلى الموظف الإسرائيلي وعالبا ما كان عسكريا ، فإن وافق حصلت على الوثيقة وسافرت ، وإن لم يوافق ذهبت المنحة أدراج الرياح .
في صالة الانتظار لم أنتبه إلى " أبو حيدر " المختار ، وهو من نابلس ، يلف ويدور بين المنتظرين ، يعرض خدماته مقابل 20 دينارا أردنيا . وقف أبو حيدر إلى جانبي والتقط اسمي من طلب المعاملة وعرض علي مساعدته مقابل 20 دينار فرفضت .
تركني أبو حيدر ودخل إلى مكتب الموظف الإسرائيلي وعندما جاء دوري قدمت الطلب إلى الموظف ، فأخذ ينظر فيه ويقلب ملفاته ثم قال لي :
- الطلب مرفوض .
وأنا أغادر اقترب مني أبو حيدر المختار واستفسر عما ألم بالطلب ، فأخبرته أنه ارتفض ، فعرض علي من جديد أن أدفع له 20 دينارا وهو يتكلف بالحصول على الموافقة .
كان للمخاتير يومها دور فاعل في " تسهيل " أمورنا ، فهم ينسقون مع موظفي الإدارة المدنية من الإسرائيليين ، وكانوا معا ؛ المخاتير - إلا مختار مخيم بلاطة الشهيد أبو دراع - وموظفو الإدارة المدنية ، كانوا يتقاسمون الرشاوي ، فأثرى هؤلاء وهؤلاء ، ما دفع الكاتب الإسرائيلي ( ديفيد غروسمان ) لأن يكتب فصلا في كتابه " الزمن الأصفر " عن " الواسطة " ، وقد أتيت على هذه الظاهرة في كتابي/سيرتي " حزيران الذي لا ينتهي " .
رفضت أن أدفع لأبي حيدر المبلغ ، بدافع ألا أدفع لمتعاون ، وتعقدت الأمور ، وعندما تحدثت في الأمر أمام صديقي المرحوم عدنان عبدالله مدير مخيم بلاطة قال لي إن الإدارة المدنية تنشد ود مخيم بلاطة حتى تهدأ التظاهرات ، وأنه يمكن أن يقدم لي المعاملة من خلال مختار المخيم ، وتمكنت في نهاية الأمر من الحصول على وثيقة السفر . أنا سافرت إلى ألمانيا وأبو حيدر سيسافر بعد ثلاثة أشهر من سفري إلى تل أبيب مع مئات المتعاونين هاربين من شباب الانتفاضة الأولى في كانون الأول 1987 .
كان يمكن ألا يدفع لي صديقي فيصل الدنانير الخمسة ، فلا أقبل في الجامعة ، وكان يمكن لأبي حيدر ، مقابل مبلغ مادي تافه ، أن يحول بيني وبين السفر وإكمال دراستي . نعم كان يمكن أن يحدث هذا ، وغالبا ما أتذكر وأنا استرجع قصة الدنانير الخمسة ، وقصة " أبو حيدر " ما أوردته الشاعرة فدوى طوقان في الجزء الأول من سيرتها الذاتية " رحلة جبلية ... رحلة صعبة " 1985 ، فلولا حادث تافه بسيط لتغير مجرى حياتها ، ولربما واصلت تعليمها وصارت معلمة مثل مئات المعلمات ، ولما غدت شاعرة معروفة عربيا وتترجم بعض قصائدها ، وسيرتها الذاتية ، إلى لغات عالمية .
تقص فدوى قصة حبها الطفولي البريء الأول حيث أعجب بها شاب ، وبينما هي ، ذات يوم ، ذاهبة إلى بيت خالتها ، إذا بالشاب يهديها وردة حبهما ، ولما شاهد أحد أصدقاء اخوانها الأمر ذهب إلى واحد منهم وأبلغه بما رأى ، فثارت ثائرة الأخ ومنع الأخت من مواصلة تعليمها .
ترى ، الآن أسأل ، لو طلبت من الجامعة مساعدتي في موضوع إصدار الوثيقة ، فهل كانت ستفعل ؟
أغلب الأمر أنها ستخبرني بأن هذا ليس في مقدورها وليس من اختصاصها ، وقد تكون محقة في ذلك .
في نهاية أيلول سأقلع من مطار اللد إلى ألمانيا وأغيب أربع سنوات ، فكيف كانت في هذه الفترة علاقتي بالجامعة؟

وإلى اللقاء في كتابة قادمة يوم الجمعة القادم .


27 كانون الأول 2019 .

د. عادل الأسطة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى