ليلى البلوشي - فتاة اسمها راوية.. قصة قصيرة

حكاياتها بطعم التوابل الحريّفة حملتها معها إلينا من أقصى الشرق.. هي “ راوية” اسم على مسمى..
أول ما يطالعك فيها لون جلدها القمحي.. وتلكم العينان الواسعتان بلون العسل المصفى وكأن النحلات سكبن فيهما ربق رحيقهن.. متناسقتان مع خديها المضرجين بحمرة قرنفلية ما كان يدفع بقية الزميلات في الفصل وأنا إحداهن إلى قرص خدودنا بأصابعنا باستمرار كي يظلا مشبوبين بحمرة كخديها المفتونين بغمازتين لذيذتين..
ولكن أكثر ما كان يميزها دمها السكر حتى أننا كنا نحذرها بطرافة من حشود النمل التي تجري في شرايينها المعسولة فما تكاد تشرع ذاك الفم الممتلئ بشحمته السمراء الطرية حتى تندفع منها النكات كنيازك تفرقع جنباتنا من الضحك..
في الفسح المدرسية نلتف حولها كأوراق الشجر وهي الشجرة التي نمص منها ثمار الحكايات التي عبرتها حين كانت مسافرة مع والدتها إلى الهند.. وكيف أنها التقت بأخوالها هناك وعاملوها كقديسة تدر عليهم بالذهب.. وألذ ما نال إعجابها لذة المانغا الحامض بالفلفل الحار..
وحين حدثتنا عن بشاعة الفقر وعن أولاد صغار يجرون على أكتافهم عربات لنقل الركاب كحمير عوضا عن حمل حقائب مدرسية أسدلت أهدابها الطويلة كجناحي طائر جريح.. لكنها سرعان ما استعادت مزاج ضحكها حين صرحت بنبرة جادة بأنها سترسل لهم من الأموال التي يدّر عليها والدها الثري هنا إلى الأفواه الجائعة هناك..
وكجموع من النمل افترقنا حين زعق جرس انتهاء الفسحة..!
* * *
في تلك الحصة حين تخلفت المعلمة عن الحضور.. ارتأينا أن نبقى هادئات في الفصل كي لا تشعر بنا المشرفة.. اعتلت “راوية” الطاولات التي راكمناها كمجموعات..
تأهبت لأداء رقصتها الأولى بخطوات متقنة ذهلتنا ثم تداعى جسدها كله في حركات راقصة كممثلة سينمائية تنتقل برشاقة من طاولة إلى أخرى.. كنا مبهورات بها وحين أعياها الرقص ارتمت بأنفاس لاهثة على إحدى الطاولات ثم طلبت منا أن ندنو منها.. وحين أحطنا بها كدائرة والكتف لصيق الكتف ثنت مريولها المدرسي وبأطراف أصابعها المطلية بطلاء أحمر طماطمي فكت أزرار قميصها زرا.. زرا.. وحين تحررت الأزرار كلها.. هتفت لنا بشدقيها ضاحكة: ما رأيكن..؟
شخصت أنظارنا مشدوهة وكل منا تلتفت إلى الأخرى.. قهقهت بعدما أمستنا هامدات من الرؤية وهي تنبهنا عبر ابتسامتها الساخرة: لا داعي للخجل ، نحن بنات.. ستجربنها قريبا.. ثم أضافت وهي ترخي جفن إحدى عينيها الشهيتين بينما شفتاها الممتلئتان تلوحان بابتسامة واسعة تخفي خلفها ظلال خجل مصطنع: وذلك حين تتبقع سيقانكم بسائل أحمر كلون الفيمتو..
قفلت عائدة إلى رقصها.. أومأت لنا بإشارة من يديها أن نصفق.. سرعان ما علا التصفيق وشغلتنا حركاتها المثيرة وصوت التصفير عن المشرفة التي صفقت الباب بقوة أفزعتنا والتي همدت بقذيفة صرختها ضجيجنا..
فصلت “راوية” لعشرة أيام عن المدرسة.. بينما عوقبنا نحن بالوقوف تحت ضربات الشمس زهاء ساعتين كاملتين على مدى ثلاثة أيام بعد انتهاء طابور الصباح..!
* * *
تلاشت من بيننا كما يتلاشى الغبار بنفخة من فم الريح ولم تنس تلك الريح في جعبتها حكاياتها.. فبعد مرور الأيام العشرة ذاع خبر نقلها إلى مدرسة أخرى..
غابت “راوية” لكن ذاك المشهد لم يسقط عن ذاكرتي مطلقا بل لكأنه ثبت على عينيّ بلاصق قوي.. جفاني النوم مذ يومها.. كنت في أثناء ذاك الأرق وتلك الظلمة وسط تصاعد شخير إخوتي الصغار أتحسس نهديّ اللذين لم ينهضا بعد وأتخيلهما بحجم بالون صغير أو برتقالة مدوّرة.. أغطيهما بحمالة أشبه بحمالة “راوية” تماما.. فأدرك بخيبة أن ذلك لن يحدث حتى يتسلل ذاك السائل بلون الفيمتو بين ساقيّ بجرمه المشهود..!
* * *
تفاقمت وساوسي في الآونة الأخيرة وأصبحت أتردد على الحمام كثيرا.. أدخله في اليوم الواحد عشرات المرات.. فكرة أن يفاجئني السائل بلون الفيمتو أرعبتني للغاية.. فسكن ذاك الصياح من حنجرتي حين كنت أطلق شرارات تذمري في وجه أمي كفتيل للخروج .. لكن الآن غدت كل رغبة خروج مفقوءة بوسواس داخلي: فماذا لو فاجأني في بيوت إحداهن..؟ وإن تسلل بين ساقيّ وأنا في السوق فما العمل..؟
هكذا كنت أحاصرني بمخاوف إلى أن تقلصت اهتماماتي شيئا فشيئا بمن حولي حتى أنني أحطّت وسط دوامة قلقي على ارتداء ملابس غامقة في ألوانها.. وإذا ما قعدت في مجلس كنت آخر من ينهض.. خشية أن تتبقع ملابسي على حين غرة..!
بل راح فضولي يجوب ملابس أمي في الحمام التي كانت تكومها في سلة الملابس الوسخة لحين غسلها.. وعثرت في أثناء بحثي ذاك على حمالاتها التي كانت بمقاس كبير وحين جربت إحداها تزحلقت أسفل قدمي..!
وفي نهار أثناء تطفلي في الحمام وقع تحت يدي في أسفل السلة التي تكوم فيها أمي ملابسها الداخلية شيئا كان يخصها وعليه بقعة جافة بلون الفيمتو.. كان لونها باهتا وانبعثت منها رائحة كريهة.. أفرغت يومها معدتي بقرف..!
وبعد المراقبة المضنية لملابس أمي الداخلية في الحمام.. عرفت أن تلك البقعة تلازمها في كل شهر مرة واحدة فحسب وعلى عدة أيام..
* * *
حين بدأ صدر عائشة زميلتي في الفصل يتبرعم.. نكست رأسها قبل أن تهمس لنا بصوت مرتبك أن والدتها نبهتها بأنها على وشك البلوغ.. فألزمتها بلبس الشيلة بينما ملابسها العتيقة الضيقة منها والقصيرة تبرعت بها لصناديق الجمعيات الخيرية كما أنها اقتنت لها حمالات تلائم حجم نهديها..
بعد أسبوع من تلك الحادثة بكت عائشة وسط دهشتنا في الفصل أثناء حصة الرياضة وكان صوتها الذي يجهش من شدة البكاء ينادي بأمها ، وحين نهضت برفقة المعلمة إلى غرفة الأخصائية الاجتماعية هالتنا بقعة شاذة بلون الفيمتو على قميصها الرياضي الحليبي..
* * *
طفقت كل واحدة في الفصل تترقب دورها ، فبعد عائشة كانت سلمى وخديجة ومنى وريم
في نهاية العام الدراسي كل زميلاتي في الفصل بلغن سن ارتداء الحجاب والصلاة..
* * *
كن يأكلنني بسؤالهن في كل يوم فأحرك رأسي بخيبة..!
مع الأيام صرت أتوق رؤية هذا السائل بلون الفيمتو الذي يتحدثن عنه بخوف مرة.. وبإعياء مقرف في مرات أخرى ، بل كل واحدة منهن وكما – أسررن لي – تضطر إلى ملازمة البيت في أول يوم لها..
* * *
حين بلغت عامي السادس عشر تضاعف هلع أمي والتي كانت بدورها في كل صباح تحاصرني بالسؤال عينه:
– ألم………….. ؟
أداري توتري على الوضع المريب الذي أنا فيه وأرد عليها بلغة لا يفضحها ذاك التوتر اللعين:
.. -لا
أطلقها وأنا استعجل حمل حقيبتي المدرسية ، هربا من نظراتها المشوبة بقلق كبير..
ولكن في اليوم نفسه حين عدت من المدرسة دنت مني ثم أدخلت يدها وسط دهشتي في ياقة قميصي الداخلي متحسسة نهديّ اللذين برزا قليلا ، فاسترخت تقاطيع وجهها قليلا بعد الانقباض الذي تملكها في الآونة الأخيرة..
* * *
استلقيت على السرير في عيادة الطبيبة المختصة في شؤون النساء التي عرضتني أمي عليها.. أمرتني بصوتها الغليظ الذي ينبعث من رأسها الكبير الموصول برقبة من عدة طوابق:
.. ارفعي –
رفعت ثوبي كله بناء على طلبها ولكنها بيديها الضخمتين خلعت ما تحتي..
تحاشيت وسط خجلي رؤية وجهها طوال مدة فحصها لي وحين انتهت أدارت لي ظهرها ولم تقل شيئا..
بكت أمي طوال الطريق دون أن تنبس بشيء وكأن فمها خيط بإبرة.. وحين قفل والدي راجعاً من العمل في ذلك اليوم بسحنته المنطفئة سحبته سريعا إلى غرفتهما وظلا يتهامسان طوال الليل دون أن يصلني من حديثهما نأمة..
* * *
أتذكر هذا في يوم زواجي.. وأنا أمام عروسي مأخوذ ببشرتها القمحية وعينيها الممتلئتين بالعسل والتي حين حاذيتها همست في أذني عبارة فهمت منها أنني لن أقربها لأيام معدودة.. وحين هممت لمساعدتها في خلع ثوب عرسها تدلت من النهدين حمالة حمراء كالتي بهرتنا بها ذاك اليوم في الفصل!..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى