هدى بوحمام - سكيزوفرنيا المُغترب..

أنا المُغترب والمهاجر والغريب والمُتطفل وغير المؤهل والمختلف والدخيل والمنفصم وغير المرغوب فيه والمُتكبّر والمُتملّق والمرفوض والتائه بين الهُويات، أنا كلهم وكلهم أنا إلى الأبد. تختلف ظروف الرحيل عن الوطن وتجمعنا نتيجة واحدة: أنّنا رحلنا، تركنا كل شيء خلفنا ورحلنا. برغبة أو بدون، بهدف أو بدون رحلنا، غادرنا مكان الانتماء، تركنا البيت والمدرسة وبقّالة الحي والصومعة العالية. ذهبنا إلى بلاد الغرباء وصرنا فيها أكبر الغُرباء. حفظنا خطاب التعريف عن النفس عن ظهر قلب فلا أحد يَعرفنا هناك، ونسّقنا سبب مجيئنا إلى بلادهم وجعلنا منه قصة مقنعة ومؤثرة، فذاك الباب هو مدخلنا الوحيد لكسب اهتمامهم واستعطافهم كي يقبلوا بنا عندهم.

تدور أعيننا في رؤوسنا بحثا عن شيء من بيئتنا، عن بيت كبيتنا أو بقّالة كبقالة حيّنا أو أذان آتٍ من صومعة عالية كصومعة مسجدنا، ولا نجد شيئاً مما نبحث عنه. لا نجد شيئا يروي عطش الانتماء فكلّ شيء غريب عنا: الناس وكلامهم وملابسهم ونظراتهم، الشوارع والبيوت والسيارات والمدارس والأكل… فقط ضوء القمر الذي يكون مألوفا، يُشعّ بطمأنينة ، يهمس لنا أننا سنكون بخير. لا نملّ من البحث بين التفاصيل عن شيء يُشبهنا، سواء كان زقاقاً في مدينة قديمة أو رائحة في هواء عابر أو مغتربا يُشاركنا نفس المشاعر والمشاكل. تتعقّد تركيبة المغترب النفسية والفكرية على مراحل كلما طالت سنين غربته، فمنذ مجيئه وهو يُحاول التأقلم مع حياة لم يعشها من قبل وفي نفس الوقت يجب ألا يتأقلم كثيراً كي يُحافظ على انتمائه لبلده الأُمّ، كي يُحافظ على سنين البيت والمدرسة والبقّالة والصومعة العالية.

تكون المرحلة الأولى من الغربة مليئة بالخوف والتردد وعدم الثقة وقلّة الحيلة. تتعالى الأصوات في داخل المغترب مثل المريض السكيزوفرني: تارة صوت الأهل الذي يحثُ بعدم الانصهار في ثقافة ليست ملكنا والتشبث بالأصل والجلد الأولِي، وتارة صوت المعارف الجدد من أصدقاء العمل أو الدراسة أو الجيران الذي يُنادي بالانضمام و يسحب إلى انتماء جديد. يظل رأس المغترب تحت تأثير هذه الأصوات التي يعلو صراخها كلّما تصادمت ببعضها البعض. يبقى بينهما راجيا حلاّ وسطاً،

يشتاق إلى الهدوء الداخلي ويبدأ رحلته إلى المرحلة الثانية في سبيل العثور على ذلك السلام الداخلي… يُصارع! في المرحلة الثانية، يبدأ المغترب باستيعاب حياته الجديدة التي أقحم نفسه فيها وأنه لا مجال للرجوع إلى الوراء. يبدأ بتقبّل التغيير ويبدأ بالتغيّر. يتحرر من تلك الأصوات المزعجة التي كانت تكبح تطوره وتحُول دون استمتاعه بما لديه من نعمٍ. يعطي الفرصة لنفسه لفهم أهمية تغيير بعض الجوانب وكذا أهمية عدم تغيير جوانب أخرى تُميّزه. يتصالح مع اختلافه عن الناس ويتعايش مع وضع “ الغريب” لأنه سيبقى لقبَه الدائم. يتمسّك بجوانبه الأساسية رغم بُعدها عن المألوف، يكتسب الثقة لإظهارها كما هي دون حرج أو خجل، ينفتح على عالمه الجديد ويستقبل منه الأشياء التي تُوافق فكره و نظريته الحياتية. يبسط ذراعيه للتعلّم واقتناء طباعٍ وعادات حميدة تُكمّل نواقصه ويفهم أن التحرّك يجب أن يكون نحو النسخة الأفضل من نفسه… ينضج! ينمو نضجه ومدى وضوح معرفته لنفسه ولما يرغب بتحقيقه في هذه الحياة السعيدة، يركز على ذاته وينسى الغرباء، ينسى العالم. ينكمش خوفه وتردده وفي المُقابل تعلو ثقته بنفسه وتقوى خطواته التي تستهدف الأمام المشرق، يستشعر الثبات والركود أكثر من أي وقت مضى، يُعانق حياته ويحبّها بكل ما فيها. يتصالح مع التضحيات التي لطالما تحَسّر عليها في الماضي، يغرس في نفسه كل ما يحتاجه لرحلة الحياة، يتطوّر ويُعدّل المفاهيم ويكسب المهارات والصداقات… يكتفي!

ثُمّ يأتي يوم العودة (المرحلة الثالثة). يأتي يوم زيارة البيت والمدرسة والحي والصومعة العالية، يُحاول التأقلم من جديد؛ فلا البيت ظلّ كما هو ولا الحي حافظ على بقالته ولا المدرسة حمت ألوانها. أما الصومعة فلاتزال كما تركها شامخة رغم تلاشي جدرانها، لاتزال تُنادي على المُصلين بنفس الحماس وبنفس الخشوع، ولاتزال روحه تفرح بالنداء وتخضع له.

ثمّ يخوض المغترب في الاحتكاكات الاجتماعية في بيئته الأمّ… وتبدأ التعاليق والانتقادات: ما هذا الأسلوب ، وما هذا التفكير ، ومن أين أتيت بهذه العادات ، وكيف سلخت جلدك وصرت مثل الأجانب؟! ما هذا اللباس ، ولماذا شكل شعرك هكذا، وكأن طول الألسنة يزداد بطول غيابك. تتعالى الأصوات السكيزوفرنية في رأس المغترب من جديد وهو يُحاول فهم تلك الاتهامات والفوضى التي خلقها له بلد الانتماء، بعد أن ذاق طعم السلام الداخلي و التصالح مع الذات والظروف.

يتذكّر معاناته الطويلة مع تلك الصراعات فيرفض السقوط بين مخالبها مرة ثانية. يُدافع عن مواقفه وعن أسلوبه وأفكاره ولباسه وشكل شعره، يتشبتُ بها ويحاول الشرح والتفسير والتبرير… يتعب! يُصبح غريباً في وطنه وبين أهله أيضا، تهبّ عليه غيمة من المشاعر المُبهمة، يدرك بعدها أنه لا مفر من لقب “الغريب” والألقاب المماثلة. يتأكّد أنه غريب عن الجميع ما عدا نفسه، حتى أنه يدرّب أذنه على سماعها من جهة ورميها من الجهة الأخرى. فمن بين المهارات التي يتعلّمها المغتربُ مهارة السماع الانتقائي الذي يشتري بها راحة باله، فيكون من الصعب عليه اختيار طريق النقاشات والمُجادلة دون جدوى في وجود خيار السلام والهدوء النفسي.

يتضح له في آخر المطاف أنّ المشكلة مُشكلة العالم وليست مشكلته. يستعين بكل ما لديه من مهاراتٍ لقضاء العُطلة والعودة إلى بلاد الغُرباء حيثُ وجد نفسه وأسّس لها مكان انتماءٍ خاص بها… يهرب! يسخر من هذه الحياة العجيبة التي جعلته يهرب من مكان ظنّ أنه ينتمي إليه أكثر من أي مكان آخر إلى المكان الذي ظنّ أنه يشعر فيه بالغربة أكثر من أي مكان آخر. يستخلص في المرحلة الأخيرة أنّ الانتماء الحقيقي يُصنع مع السنين ولا يُعطى مع شهادة الولادة، فالناس كلهم مغتربون حتى وإن ظلّوا في الحي، كلهم في تأقلم دائم مع شيء جديد. كلهم يعدّون غريبين ومنفصمي الشخصية ومتطفلين ومتملّقين. لا يحتاج شعور الغربة إلى طائرة كي ينهش في الروح فكم من روح مغتربة بين ناسها. تُسافر الأرواح وتبتعد أحيانا رغماً عن أجسادها بحثا عن مكانٍ تتذوق فيه طعم الانتماء المتحرر.


هدى بوحمام

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى