خيري الذهبي - أسرار غالب هلسا الصغيرة..

نصيحة ذهبية

في العام 1964 كانت لي سعادة الالتحاق بجامعة القاهرة وفي كلية الآداب تحديداً... وكنت أتعرف بهدوء على عاصمة العالم العربي القاهرة وكان مما شدني إلى التعرف عليها بشوق منتدى أو مقهى يدعى غروبي في شارع سليمان باشا، وسأعرف فيما بعد أن اسم "سليمان باشا" الكامل كان الفرنساوي، وأن التمثال الموجود في ساحة سليمان باشا كان للجنرال الذي صاحب إبراهيم باشا في حملاته القتالية ضد الدولة العثمانية في سورية.
كنت أتعرف على المدينة وكان ما اشتهيه منذ دمشق هو كازينو غروبي الذي كنت أعرفه من كتابات الكتاب المصريين، وهناك جاءني الجرسون بعد أن أشرت له بإصبعين كما كنت أرى الممثلين يشيرون إليه، وحين طلبت منه أن يأتيني بفنجان قهوة بالحليب، اربد وجهه واستدار مبتعداً يلبي طلبات الزبائن الآخرين، ولكنه حين مرّ إلى جانبي أمسكت بذراعه سائلاً عن الطلب الذي طلبته فالتفت إليّ في ازدراء وكأنه يقول: لما تعرف كيفية الطلب تبقى تقعد في كافيتيريا الأكابر!!.
وانسحب دون تكليف خاطره بإعتذار أو بكلمة مجاملة وكان جوابه دون كلام أو اعتذار ضربة موجعة للفتى القادم من دمشق، ولكني هدأت نفسي بأن كثيراً من المصريين ما يزالون يتوجعون من جريمة الانفصال السوري عن الجمهورية العربية المتحدة، وتصبرت أنتظر مروره التالي لأطلب، ولكنه ابتعد وأخذ يلبي طلبات البعيدين عن الطاولة التي كنت أجلس إليها، بل دون أن يقترب مني، أخذت أشعر بالخجل يعتريني، وكدت أنسحب لولا أن رغبة في الشجار تلبستني، وبدأت أغلي ولكن الجرسون في جلابيته البيضاء والحزام الأحمر إن لم تخني الذاكرة كان يعلن تحديه لي، وفي تلك الأثناء أحست عيناي بشبح يقف إلى جوار الطاولة التي أجلس إليها، إلتفت إليه ثائراً، ولكنه جلس على الكرسي القريب وقال: صباح الخير.. إسمي غالب هلسا!.
لم يعن الإسم لي شيئاً وإن كنت قد عرفت من طريقة نطقه أنه مصري، فظننت لهنيهة أنه من العاملين في المقهى، ولكنه عرف أني غريب فقال ثانية: أنت سوري؟ ولما رددت بالإيجاب قال: أنا من الأردن، وظننت أنه يتقرب مني مجاملاً، ولكني فيما بعد حيـنما أقرأ كتاباته، ويعترف لي فيما بعد باشتياقه إلى الأردن، إلى روائحه ومائه وبحره الميت، سأقتنع وإن لم أبد له شكي الأول، ولكنه بطريقة ما كان يعرف أن الأردن حاضر بيننا.
ثم قال غالب إنه يجب علي أن أخاطب الجرسون باللغة الفرنسية التي يعتبر النادل أنها لغة البكوات، وأنه كان يتوجب علي أن أطلب (كافيه أوليه) وليس القهوة بالحليب.. كانت نصيحة ذهبية من صديق هبط من السماء علي، جعلتني أفهم بقايا عهد الباشوات في مصر. وكانت صداقة امتدت بيننا حتى وفاته المبكرة في دمشق، وسيكون له الفضل في تقديمي إلى السفارة السوفييتية لأعمل في الترجمة من العربية إلى الإنكليزية تماماً كما كان يعمل، وإن رئيساً لقسم الترجمة إلى الانكليزية.
في مصر وفي السنوات الدراسية الأربع وفي العمل مترجما في السفارة السوفييتية ازدادت العلاقة بيني وبين مدير قسم الترجمة صديقي غالب هلسا متانة وعمقاً، وأخيراً أنهيت سنوات التعلم في جامعة القاهرة، وكان علي أن أسافر إلى بلدي، ورغم اقتراح غالب علي التقدم إلى الدراسات العليا إلا أن الظروف العائلية في دمشق منعتني فقد كان الوالد قد توفي في غيبتي وكان علي العودة إلى دمشق لأكون البديل للأب في البيت.... ورجعت! ولم أكن أتوقع أن أرى غالب في دمشق فقد كنت أعرف مبلغ تعلقه بالقاهرة والقاهريين من الأصدقاء والأعدقاء الكثيرين في كل العواصم.
في أوائل الثمانينيات سيصل إلى دمشق غالب هلسا المطرود من القاهرة بتهمة ارتباطه بالحزب الشيوعي والعمل معه على تهمة لا أظنها صادقة- إسقاط النظام. وكان الرئيس في حينها أنور السادات. ويسافر غالب من مصر تاركا كل الكتب والمراجع في البيت الذي هجره، متجهاً إلى دمشق الشام حيث حظيت بفرصة جميلة للاجتماع به ثانية بعد انقطاع، وكانت السهرات الممتدة إلى اللانهاية مستعيدين أيام الشباب.
في دمشق سيحدثني غالب أنه قد سافر إلى بغداد صدام قبل أن يرّحل بتشديد الراء إلى سورية حيث استقبله أصدقاء المنظمات الفلسطينية.. وكانت شهوراً طيبة نعمنا فيها باستعادة بهجات الشباب.. وكان غالب لطيف العلاقات مع الغرباء الذين سرعان ما يحولهم إلى أصدقاء حميمين... وهكذا اكتسب في دمشق مجموعة طيبة من الأصدقاء الأوفياء، واغتنم فرصة وجوده في دمشق ليعود إلى الكتابة في أحلى مناسباتها، وفي دمشق اكتشفت أن محطته بعد بغداد لم تكن دمشق، بل كانت بيروت حيث عمل لسنوات مع المنظمات الفلسطينية، وكان اكتشافي وهو الكتوم أن أعرف أنه كان يعمل مع المنظمات الفلسطينية حين يفاجئنا في فندق الشام.... رجل يقدمه لي غالب على أنه يمني معارض وأنه كان يعمل مع المقاومة أثناء الاجتياح الاسرائيلي لبيروت، وصدقت أنه يمني ولكني لاحظت أنه كان ينطق الكلمات بطريقة غريبة لم تترك لي فرصة للتعرف إلى أي بلد عربي ينتمي متنكراً بأنه يمني، ولسوء حظي فقد اصطدمت مع الغريب اليمني كما سماه غالب هلسا في حضور الضيف، فدخلت معه في حوار بدأ ناعماً ثم تحول إلى ما يشبه الشجار عن وجوب حل الصراع بين المغرب والجزائر بأي ثمن، وتوتر الرجل الغريب، ثم انفجر متهماً إياي بالعمالة للقوميين العرب، وأن الصراع دائماً هو بوابة للثورة التي تدعم قضايا العالم الثالث، ثم قام محتجاً في غضب وخرج من فندق الشام وحينها لمحت مسدساً مختفياً في إزاره الخلفي، نظر غالب إلى رحيله وإلى الباب الذي خرج الغاضب منه، ثم قال لي بلهجة حزينة: أنت خسرت الحديث مع الرجل الأكثر مطلوبية في العالم. وتنهد. وحين ألححتُ طالباً معرفة الرجل الذي اختلفت معه، ومن هو هذا الرجل الذي تركنا ومضى قال هامساً: إنه كارلوس. وحين أُصر على عدم الفهم يقول مواجهاً لي إنه كارلوس يا رجل! كارلوس الذي تفتش عنه أجهزة المخابرات في العالم أجمع! وأتبع غالب: كارلوس الفار من أوروبا وأميركا دخل إلى سورية بمعية المنظمات الفلسطينية حيث لا يتوقع أحد وجوده أبداً! هل عرفت الآن مع من كنت تصطدم... وبكمت، فالرجل ربما تبدت خطورته ضدي بطريقة أكبر لو لم يكن غالب يجلس إلى الطاولة مجالساً لي!!.
كان غالب صندوق أسرار المنظمات الفلسطينية التي كانت تنشط في لبنان، وتتمركز في سرية في العمق السوري، وكان صديقاً لكارلوس المتهم بعمليات كثيرة في أوروبا، الناشط الفنزويلي الشهير الذي لم تُلتقط له إلا صورة واحدة. حدثني غالب أن كارلوس كان يتردد إلى بيته بين كل فينة وأخرى، يختفي ثم يعود للظهور، وأنه هو نفسه أي غالب لم يستطع أن يحدد موقفاً منه، أهو رجل استخبارات أم مناضل كبير، هل هو رجل عنيف أم يستخدم العنف من أجل التغيير؟ حدثني عن شكوكه التي لا سند لها وعن علاقاته بأبي نضال وأبي العباس، ولكن ما جعل غالب يستمر في علاقته معه هو إحساس ما بنقائه الثوري رغم تورطه في قضايا لا تمت للقضية الفلسطينية المقدسة عندنا.
هذا الجانب من شخصية غالب كان مفاجئاً لي، فتنقلاته وتعاونه مع التنظيمات الثورية كانت جانباً غامضاً فيه، لم يتكلم به كثيراً، ولم أتأكد منه إلا حينما عزم غالب على جمعي بكارلوس مرة أخرى لمزيد من النقاش، ولكن الظروف أبت أن تجمعنا مجدداً، فكارلوس اختفى مجدداً دون أن يعرف غالب نفسه أين ذهب.
استعدنا صداقتنا القديمة والزيارات المتتالية، وكنت في هذه الأثناء قد تزوجت ولم يتزوج... والمضحك أن زوجتي أخذت تفكر في تزويجه، بعد أن تعرفت عليه في سهراتنا المنزلية المتكررة، ولما كان عملها مدرسة في وزارة التربية، فقد كان حقل بحثها في أوساط المدرسات والمعلمات، وكنت أعرف أن كثيراً من النساء الجاهزات للزواج يعرضن عليه، وكان يتدلل، فهذه أقصر مما يجب، وهذه ليست من أسرة تقدمية، وتلك قد تزوجت سابقاً وهو لا يحب العيش في حقل اختبار.
وللمرة الأولى أحسستُ به غير نافر من فكرة الزواج، حدثني عن الوحدة، والتقدم بالسن، والخوف من المجهول، كانت الأمراض قد عاجلتنا مبكراً أنا وهو، ولكنه كان مسرفاً في كل شيء، في السهر والشرب والتدخين، والقراءة والسفر، ولا يراعي صحته أبداً، ربما من أجل هذا فتح ولو موارباً الباب أمام فكرة الزواج التي لم تكتمل.
أعلى