المتحذلق المثقف والمتثاقف السياسي، حوار مع الرفيق غازي الصوراني في "بؤرة ضوء" الحلقة السادسة والأخيرة.. أنجزت الحوار: فاطمة الفلاحي

يقول يوسف القعيد :" المثقف الآن، وردة حمراء في عروة بدلة النظام".

6.هل برأي الرفيق غازي الصوراني ، إن ارتجاليات المتحذلق المثقف والمتثاقف السياسي ، التي وصلت حد الإعياء في المنظومات الإعلامية، هي من أجل الترويج لمنابرية الساسة ، مدفوعة الثمن؟



الجواب:

أود في البداية أن اتوقف أمام مفهوم المثقف المتعدد المضامين أو التعريفات، فالمثقف –وفق منظوري الفكري والسياسي- هو الحامل لرؤية نظرية ثورية وديمقراطية تلتزم بمصالح وتطلعات الجماهير الشعبية الفقيرة ومستقبلها ، بما يمكنه من صياغة رسالته وبرنامجه في إطار الحزب المنظم من ناحية وهو أيضاً المثقف العضوي بالمعنى الجرامشي، الذي يعمل على إنجاح المشروع السياسي والمجتمعي الخاص بالكتلة التاريخية المٌشَكّلة من العمال والفلاحين الفقراء ، وهو "الداعية" "الاختصاصي" "المٌحَرِّض" "صاحب الايدولوجيا" أو حاملها، المدافع عن قضايا الحقوق والحريات، الملتزم بالدفاع عن قضية سياسية، او قيم ثقافية ومجتمعية أو كونية، بأفكاره أو بكتاباته ومواقفه تجاه الرأي العام، هذه صفته ومنهجيته، بل هذه مشروعيته ومسئوليته تجاه عملية التغيير التي يدعو إليها.

ولعلنا نتفق على ان هذا المفهوم (كما ورد أعلاه) ليس مفهوماً مجرداً،وليس عنواناً او فرضية، بل هو ملخص منظومة فكرية مكتملة، تحققت تاريخياً عبر الممارسة في مجتمع معين في مراحل تطوره المختلفة، وأدت او أسهمت في تغيير العديد من الأنماط والأنظمة السياسية عبر دور فعال على مدار التاريخ البشري ، خاصة في عصر النهضة الاوروبية حيث لاحظنا الدور الاول والرئيسي للفلاسفة والمفكرين في نشر مبادئ العقلانية والتنوير والحداثة والثورة ... الخ، وهذا ما يتوجب أن يمارسه –وبوعي- المثقف العربي الملتزم بقضايا العقلانية والتقدم والعدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية في بلادنا.

أما بالنسبة لانحيازي لشمولية مفهوم المثقف، فإن الشمولية التي أقصدها هنا لا تتناقض مع التعريفات التي عبّر عنها مجموعة من المفكرين في تعريفهم للمثقف بأنه " هو الإنسان الذي يضع نظرة شاملة لتغيير المجتمع" أو هو المفكر المتميز المسلح بالبصيرة كما يقول ماكس فيبر، أو هو الذي يمتلك القدرة على النقد الاجتماعي والعلمي والسياسي، أو هو المفكر المتخصص المنتج للمعرفة، وهي تعريفات عامة لا تحرص على تحديد الزاوية أو الموقع الذي ينطلق منه ذلك المثقف في ممارسة النقد الاجتماعي أو السياسي أو في صياغته للنظرة الشاملة للتغيير.

أما الزاوية التي أقصدها، فهي تتمحور عند الموقع الطبقي بالتحديد ، فهو الغاية والقاعدة المنتجة والمحددة لكل رؤية فكرية ثقافية أو لكل ممارسة نقدية، وفي ضوء ذلك تتجلى أهمية استخدام مفاهيم الحداثة و التنوير والعقلانية والثورة الديمقراطية، في مجابهة أنظمة التبعية والتخلف والاستبداد وشرائحها البيروقراطية الكومبرادورية الحاكمة ، وفي مجابهة الجوانب السلبية لتراثنا، إذ لا يتولد مفهوم العقل من ماضوية أو جمود التراث بل من القطيعة المنهجية والمعرفية معه، وذلك شرط للعقل كعقلانية، فالعقل هنا، حسب هذا المفهوم، هو العقلانية التي تمثل مؤشر ورمز المجتمع الحديث وليس غير ذلك.

بمعنى آخر، لا يكون العقل عقلانية، ولا يُجسَّد في السلوك، إلا إذا انطلقنا من الفعل وخضعنا لمنطقه، من خلال عملية التجريد والتوضيح والتعقيل، لكي نتمكن من استبدال المنطق الموروث أو سلبياته المعرفية التراثية الرجعية تحديداً التي تمظهرت وترسخت في مجتمعاتنا منذ القرن الرابع عشر الميلادي، حيث تعيش المجتمعات العربية حالة من المراوحة الفكرية على تراث الغزالي وابن تيمية وابن القيم الجوزية او ما اسميه التواصل المعرفي مع هذه المحطات السالبة في التراث القديم (خاصة بعد إزاحة ابن رشد وابن خلدون والفارابي والكندي والمعتزلة فرسان العقل في الإسلام) من جهة والتواصل الحياتي مع الأنماط والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية القديمة من جهة ثانية، وهو تواصل حَرِصَتْ عليه الطبقات الحاكمة في بلادنا بمختلف أشكالها وأنماطها الاقتصادية الريعيه المتخلفة حتى يومنا هذا، وهو حرص استهدف دوماً إبقاء الوعي العفوي للأغلبية الساحقة من الناس في حالة من الجهل والتخلف المرتبط بالعشيرة أو الشيخ أو الأمير أو الطائفة أو الرئيس الفرد القائد، بما يضمن استمرار مصالح الطبقات الحاكمة، -كما هو الحال في مساحة كبيرة من الانتفاضات العربية راهنا.

وهنا تتبدى أهمية تفعيل واستنهاض دور المثقف في بلادنا لمجابهة وتغيير هذا الواقع، وهي عملية مشروطة باستيعاب مفهوم المثقف ودوره في هذه المرحلة الصعبة والمعقدة .

لذلك أرى ضرورة الجمع بين المثقف حامل الرسالة، وبين المثقف العضوي الملتزم تنظيمياً، بحكم تقاطع أو توحد الرؤيتين في نقطة التقاء هامة، وهي الوظيفة النقدية للمثقف، والوظيفة النقدية هنا تتخطى التبشير أو الرسالة إلى التغيير وتجاوز الواقع... المهم الزاوية الطبقية التي ينطلق منها المثقف،وبهذا المعنى لابد من أن أشير إلى انحسار دور هذا المثقف العضوي الماركسي في بلادنا بصورة مريعة ومقلقة، في هذه المرحلة التي تغيرت فيها مراتب القيم، بحيث باتت القيم السياسية الهابطة، والقيم الانتهازية المصلحية، وقيم النفاق والاستسلام، والقيم الفردية الانانية، والقيم الاستهلاكية التي أصبح لها منظروها من المثقفين الانتهازيين الذين استمرأوا كونهم مجرد وردة صفراء في عروة بدلة النظام/الأنظمة.

إن حالة التردي والهبوط الراهنة، وصلت إلى أكثر من حد الاعياء والمرض في المنظومات الإعلامية من أجل الترويج لمنابريه الساسة، مدفوعة الثمن ، والشاهد على ذلك ، انحسار دور المثقف الديمقراطي الثوري في مجتمعاتنا، على الرغم من الانتفاضات الشعبية العفوية ضد الاستبداد والتخلف والاستغلال ، وهو انحسار مريع ومقلق في هذه المرحلة التي –على ما يبدو- تغيرت فيها مراتب القيم ، بحيث باتت الأفكار الليبرالية والقيم السياسية الهابطة والقيم الانتهازية المصلحية وقيم النفاق والقيم الاستهلاكية ، هي البضاعة الرائجة بتأثير واضح لمنظمات NGO.s التي نجحت في إغواء واغراء ومن ثم خراب وارتداد الآلاف – من المثقفين واليساريين العرب – عن بداياتهم الفكرية، وأحلامهم الثورية التي يبدو انها كانت مجرد احلام"البورجوازي الصغير" في لحظه من لحظات الانفعال والقلق والخوف من تردي وضعه الطبقي ، ولما حانت فرصة الإغراء المادي على طبق NGO.s أو المحتل الأجنبي، سرعان ما تخلى عن الاحلام والمبادىء الثورية ومخاطرها بذريعة الاعتدال والواقعية ، وذهب راكضا او زاحفا صوب الالتحاق بقافلة الليبرالية الجديدة ومقتضياتها في تبرير احتلال بلاده بذريعة الديمقراطية والسلام، ومن ثم تمهيد الطريق للاعتراف بمشروعية الدولة الصهيونية وتوسعها وتزايد عدوانيتها في مقابل تفكيك الدولة الوطنية العربية.

على أي حال ، لقد باتت هذه الظواهر المرتدة او الانتهازية جزءا من الحياة السياسية الاجتماعية الفلسطينية والعربية ، وهي ظواهر قديمة، لكنها تزايدت بصورة غير اعتيادية خلال العقود الاربعة الماضية مع تزايد وتائر الانفتاح الليبرالي الرَّث، و التراجع والهبوط السياسي ما بعد اتفاقات كامب ديفيد واوسلو ووادي عربه، وانهيار الاتحاد السوفياتي وهيمنة العولمة الامريكية وغير ذلك من العوامل الموضوعية، لكن يظل العامل الذاتي لدى المثقف البورجوازي هو المسألة الحاسمة ، اذ غالباً ما يحدث أن يبدأ بعضا من المثقفين البورجوازيين عندنا بواكير حياتهم ثوريين أو حالمين وينتهون في أواخر حياتهم إما مرتدين او خداما للسلطة أو انتهازيين لمن يدفع أكثر أو يائسين من واقعهم ناعين له, وكأن حركة التاريخ في مجالنا العربي تسير نحو مزيد من الهبوط والتراجع ، بحيث تجعل من الانتهازية أو النعي خطاباً مفضلاً عند هذا البعض.

وهنا أود التأكيد – بلا كلل او يأس - على أهمية انحياز المثقف الماركسي لمصالح وأهداف الطبقات الشعبية الفقيرة، فاما الاشتراكية او البربرية ، إذ أن هذا الانحياز الواعي للاشتراكية ، هو الأساس الأول في تحديد جوهر دور المثقف و ماهية موقفه السياسي، ورؤيته الفكرية أو الأيدلوجية وفق ما يتطابق مع تطلعات الطبقات الشعبية وأهدافها المستقبلية ، الأمر الذي يفرض –كضرورة تاريخية راهنة ومستقبلية – أن تبادر قوى وأحزاب اليسار لإعادة بناء أحزابها او بناء احزاب ماركسية ثورية جديدة ، كمدخل وحيد لاستعادة دورها وقيادتها لحركة التحرر الوطني الديمقراطي في بلدانها، من أجل تجاوز وتغيير هذا الواقع المهزوم صوب مستقبل النهوض القومي الديمقراطي، النقيض –بصورة كلية- لأفكار ومصالح البورجوازية الشوفينية من ناحية، والمحمول بتطلعات وأماني الجماهير الشعبية العربية الفقيرة صوب الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى