مبروك بوطقوقة - مدننا المريضة وأنثروبولوجيا الفضاءات

لا يكاد يختلف اثنان في أن مدننا العربيّة مريضة، وأن الآفات من كل نوع تنخر جسمها المترهل، وأنها أصبحت بؤرا للفساد ومرتعا للنفايات، ينتشر فيها الإجرام وينعدم فيها الأمن، وتغطيها الأوساخ والأتربة وتكثر فيها المجاري والحفر حتى تكاد تنعدم في أجزاء كبيرة منها شروط الحياة الكريمة. لكن الجميع يختلف في تشخيص هذه الأمراض وتحديد الأسباب ووصف العلاج.
الحدود في ملء الفضاء

في كتابه "الآخر والآخرون في القرآن"، (الصادر عن دار التنوير والفائز بجائزة معرض تونس الدولي للكتاب 2015)، يطرح الفيلسوف التونسي يوسف الصدِّيق مجموعة من الأفكار التي قد تساعدنا في مقاربة أمراض مدننا بشكل جديد وفهمها بطريقة أفضل من خلال قضية الفضاءات العامة وعلاقتها بقبول الآخر، وفكرة التعايش وعلاقتها بالمجال المكاني. حاول الكاتب الإجابة على السؤال الدائم: لمادا ذم القرآن الأعَراب وسكّان القرى ووصفهم بأنهم أهل كفر ونفاق ووعدهم بالثبور وعظائم الأمور؟ ولماذا أثنى على أهل المدن ودعا للانتقال إليها؟ وهل لهذا الأمر علاقة بالآخر وقبوله في هذه الفضاءات؟ لا يمكن الحديث عن الآخر في القرآن من دون الحديث عن الفضاءات لأنها المجال الذي يحتوي الأنا والآخر في حيز واحد، ومن هنا كان الفضاء نقطة أساسية في الرسالة الإسلامية لأن الخطاب القرآني قام بتفجير الفضاء الاجتماعي المكي، من أجل خلق فضاء جديد كانت المدينة مكانا له ومسرحا لظهوره. يرى الصدِّيق أن الحكم على الفضاء (بادية، قرية، مدينة) ليس اعتباطيا ولا لطبيعة ثابتة فيه، بل هو مرهون بطريقة ملئه ــ أي الفضاء ــ من طرف أفراده. وهذا الملء مرتبط بحدود الله، وعلى الإنسان في ملئه للفضاء الذي يحيا فيه ألّا يتعدى حدوده الانسانية التي وضعها الله له كإنسان والتي تسميها الشريعة "الحلال"، إلى حدود الله المعروفة بـ "الحرام". ومن هذا المنطلق نفهم "الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" (التوبة: 97) ، لأن ذم القرآن للأعراب (البدو) ليس كرها للفرد البدوي كشخص بل هو ذم لطريقته في ملء الفضاء، حيث لا يعرف الحدود ويتعدى حدوده الإنسانية إلى الحدود الإلهية، وبالتالي يحول الفضاء الذي يتحرك فيه إلى فضاء سلبي. فطريقته قائمة على إهمال الفضاء ونسيانه. البدوي لا يبني بئرا في المكان الذي يستوطنه ولا يزرع زرعا بل يترك قطعانه تأتي على الأخضر واليابس وينتظر أن يجف نبع الماء ويصْفرّ العشب لينتقل إلى مكان آخر يكرر فيه العملية نفسها ناسيا المكان الذي قبله. ومن هنا فإن ذم الأعَراب في القرآن هو دعوة للتخلي عن طريقتهم في ملء الفضاء.
البادية
وقد تفطن ابن خلدون لهذا الأمر فخصص له الفصل السادس والعشرين من مقدمته الشهيرة وعنوانه "في أن الأعَراب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب". ويُرجع ابن خلدون السبب في ذلك إلى "إنهم أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم، فصار لهم خلقاً وجبلةً، وكان عندهم ملذوذاً لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم وعدم الانقياد للسياسة، وهذه الطبيعة منافية للعمران ومناقضة له. فغاية الأحوال العادية كلها عندهم الرحلة والتغلب، وذلك مناقض للسكون الذي به العمران ومناف له". تتميز الصحراء (باعتبارها فضاء البدوي) بكونها فضاء مفتوحا يمكن ولوجه من كل الجهات، والسير فيه على غير هدى، لا تحكمه قوانين ولا تسيطر عليه سلطة، ولا يبني حضارة ولا يشيد مدنية، ولا وجود فيه للآخر. البدوي يُغِير على جاره فيقتله ويستولي على نسائه وقطعانه لأنه يرى نفسه أحق منه في المرعى والماء. وهكذا تستمر الحياة هناك على منوال الغارات والغارات المضادة. لذا فالبادية "فضاء للتشظي" والانقسام.
وينطبق الأمر نفسه على فضاء القرية باعتباره فضاء سلبيا وناقصا ومحتقَرا، إذ عادة ما يرتبط ذكرها في القرآن بالعذاب والخراب والدمار "وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا" (الكهف:59). تلك القرى التي أصبحت مرتعا للكفر والظلم والضلال، فضاء مغلق تعيش فيه المجموعة نفسها من الناس مع بعضهم البعض، وبالتالي فهي فضاء مشجِّع للتعفن وسيطرة القلة المسرفة وانغماسها في الفساد ورفضها للآخر حتى يحق عليها العقاب. الفضاء مغلق على الذوات التي فيها ولا مكان للآخر الغريب، بل حتى للقريب المخالِف، لذا تراهم يخرجونه من فضائهم "وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ" (الكهف:59).
المدينة
على عكس الفضائين السلبيين السابقين، يقترن فضاء المدينة في القرآن بالإيجابية باعتباره "فضاء تعايش" يتجاوز الفضاءات سالفة الذكر. لذا كان أول ما فعله الرسول حين هاجر إلى "يثرب" التي كان يقطنها مجموعات بشرية مختلفة (أوس، خزرج، يهود)، هو تغيير اسمها إلى "المدينة"، رغم أننا لا نعثر على كلمة "المدينة" مفردة في الشعر الجاهلي ولا في أدبيات ما قبل الإسلام. كما أنه أمرٌ لم يقم في أي مواضع أخرى انتقل إليها المسلمون من بعد، غزوا وفتحا مثل ثمود وتبوك وسوسة واشبيليا، وهو ما يؤكد أن لهذا الفعل دلالته الواضحة: نحن أمام "مشروع". ويتميز فضاء المدينة بأنه فضاء وسط، فلا هو مفتوح تماما ولا مغلق تماما، وهو يسمح للأفراد بالتنقل منه وإليه. في المدينة أبواب وطرقات، وفي ضواحيها مزارع ومراع يسهل الذهاب إليها والرجوع منها، فهي مكان للعيش المشترك والتنوع، تحكمه مجموعة من القوانين التي تؤمن عيش الفرد مع الآخرين والاستقرار ضمن مجموعة واعدة لكنها متنوعة. لذا يمكن اعتبار العقل الجماعي نتاج تفرضه المدينة.
ربما يصلح هذا الطرح لمقاربة حالة ما يسمى "مدنا" اليوم في عالمنا العربي، والحالة المزرية التي تعيشها من ظهور البناءات الفوضوية والأحياء العشوائية، وكثرة الباعة غير الشرعيين، واحتلال الأرصفة، وانتشار القمامة والروائح الكريهة في كل مكان، ومظاهر الإهمال، والكتابة والرسوم الخادشة للحياء على الجدران، وكثرة أشغال الحفر والمجاري، وانعدام المساحات الخضراء وفضاءات اللعب والاستراحات، وتحول المجال العام إلى مكان للنزاعات والصراعات.. وغيرها من المظاهر السلبية التي هي نتيجة طبيعية لعملية الترييف التي طالت المدن ــ نتيجة النزوح الريفي والهجرات الداخلية بحثا عن فرص حياة أفضل ــ فحولتها إلى بادية جماعية يتم فيها ملء الفضاء بطريقة قائمة على الإهمال والنسيان.. فتجد الساكن في العمارة يرمي الأوساخ من علٍ، وينشر الغسيل على النوافذ والشرفات، ويضع الزبالة في غير أماكنها أو أوقاتها، ولا ينظف أمام بيته ولا عمارته، بل لا يهتم بمسكنه الخاص، وأحيانا يصل به الأمر إلى تربية بعض الحيوانات فيه، وهو أمر مشاهد وملاحظ. ولا حل لهذه المشاكل إلا بالثقافة: تغيير طريقة الساكنين في ملء الفضاء الذي يعيشون فيه، لتقوم على قبول الآخر والتعايش معه ومع الوسط، وملئه بمنطق الاهتمام والاحترام وعدم تجاوز الحدود الإنسانية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى