عبد النبي حجازي - السابقون واللاحقون

يعود الشيخ من مزرعته كلَّ مساء على متن بغلته. يشد الرسن ويتوقف بجوار المقبرة على مشارف القرية. وإذا بشواهد القبور تشرئب وتحملق الى عينيه عبر سجف الغروب الفضي كأيادي مفتوحة تتهيّأ لاحتضانه ممتدة من كتل ترابية يتوارى فيها بشر كانوا ذات يوم أحياء يرزقون. قضوا نحبهم وما إن يوضع جثمان جديد في حفرة من هذه الحفر حتى يستقبله الدود بحفاوة يقضم لحمه ويترك العظم ثم يخفض رأسه ويدبّ باحثاً عن جثمان جديد.. إنها بقايا هياكل عظمية تقاوم عوادي الزمن عارية لاشأن لها سوى أنها دلائل على بشر"سابقين" يتخيلها الشيخ قد اكتست لحماً ـ يوم النشور ـ وأحنت رؤوسها بين يدي"أنكر ونكير" وكل منهما يبرق الشرر في عينيه بصرامة وحزم، يحمل بيدٍ سوطاً وبالأخرى كشف حساب يسأل كل امرئ فعلتْ يداه.

يقول الشيخ بصوت راجف"ياعباد الله الصالحين أنتم"السابقون" ونحن"اللاحقون" ويبسط راحتيه ويقرأ الفاتحة خاشعاً. لقد بلغ الستين وصارت المقابر تذكره باقتراب النهاية المحتومة. يتوه فيها بعينين ذابلتين ماسحاً شاربيه الأشيبين بأنامل عجفاء مرتجفة لاعقاً شفتيه المتراخيتين فينتابه شعور بالإشفاق على نفسه. فيبتسم مستهيناً بالحياة التي انتهبت عمره وكأنه وُلِد البارحة عندما كان يطفو على السطح مع الأولاد لايعبأ بشيء. ثم يطلق العنان لبغلته لتنساب به نحو البيت..

إنها سنة الحياة: يتوازن المرء فيها بتناسب عكسي بين قوته العضلية ورجحان عقله. وعندما يبدأ بالخطو نحو الكهولة تبدأ قوته العضلية بالتناقص وعقله بالرجحان ويزداد مخزونه من التجارب. وتهمد أحلامه وآماله الشخصية حتى تصبح وراء ظهره مركوزة على ذريته. منذ الغد سيترك الأمور كلها لأولاده. لن يتقاعد وإنما يحافظ على خطٍّ من العمل رقيق يعبّر به عن وجوده ولو ساعة كلَّ يوم. ثم يجلس وراء قهوته المرة ليكون مرجعاً في الملمّات.

يقول جرير واصفاً بيته وشيوخ قومه في ردٍّ على الفرزدق:

بيت بناه لنا المليك ومابنى حَكَمُ السماء فعزُّه لاينقـــل

بيت (زرارةُ) محتبٍ بفنائه و(مجاشعٌ) وأبو الفوارس (نهشلُ)

يعني أن شيوخ قومه يجلسون في البيت محتبين (احتبى جلس مرتاحاً) بعزهم وأبهتهم. تاركين مكابدة الحياة للشباب. إنها الملامح العامة لمجتمعنا العربي في الريف والبادية حتى في المدن، وفي الأوساط التجارية وسواها. ملامح تعني الاحترام المبني على الموروث العربي والإسلامي"وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا"ـ الآية ـ

بيد أن ثمة وجهاً آخر لهذه التقاليد الأصيلة عند بعض القبائل (الوضيعة) التي كانت تمتهن شيوخها، وتكلفهم برعي الجحاش. تماماً كما هي الحال في أوساطنا العربية السياسية والإدارية والبيروقراطية المعاصرة التي غدت التقاليد تتفسخ فيها. فما إن يناط بامرئ منصب جديد (سياسي، إداري..) ويغدو"لاحقاً" حتى يغيّر"السيارة" و"أثاث مكتبه ومداخله" و"السكرتيرة" ثم يتجلّى وراء طاولته فتنفتح له المغلقات، ويتمتع بكثرة مَنْ يعرض عليه أن يتبادل معه المنافع من نظرائه، وبكثرة الأتباع والموالين والمريدين !"اطلب تُعْطَ" يلوذ به بعضهم يومياً مؤكدين أن اليوم الذي لا يرونه فيه لا يحسبونه من عمرهم. أما"اللاحق" فيجلجل بصوته يندِّد"بالسابق" يزدريه أنه كان مهمِلاً، غبياً،"لصّاً" وأنه بُعث لينقذ ويبني.. وعندما يصير (من عباد الله السابقين) يختفي كل شيء. وأما"السابق" فينقم على"اللاحق" أنه وصوليٌّ متسلّق. وينضم كلٌّ منهما إلى فصيلة من فصائل الدس تفرز الافتراءات. وتتوالى السلسلة وتغور الحقائق في مستنقعٍ آسن.

وبمعنى أدقّ: إن أوساطنا العربية الاجتماعية التقليدية أرقى من هذه الحالات الهجينة المتردية. فنتساءل:"هل هذا هو الموروث"الصُّنعي" الذي ورثناه عمن اقتحموا حياتنا من المجتمعات الغربية. الذين انتدبونا واستعمرونا وعلمونا ألف باء السياسة والإدارة !؟" ولكنك ماتفتأ أن ترى في أمريكا الدولة التي نندّد بوحشيتها وسلبياتها أن"جيمي كارتر" و"بيل كلينتون" الرئيسين السابقين مثلاً يُكلَّفان لصالح بلدهما بمهام قد تكون مستعصية أو معقدة أو على قدر كبير من الخطورة.. في إطار تقاليد (غربية) مألوفة.

وهكذا نرى أننا بدل أن نستثمر خبرة"السابق" باعتبارها ثروة وطنية في أن يكون مستشاراً أو مرجعاً نفرِّط بها ونهدرها. كما نفرط بأهلية"اللاحق" وحماسته. ساهين عن معنى"التَّراتُبيّة" المبنية على التطور عندما يكون لكل مسؤول"مدير عام، مدير تنفيذي، رئيس دائرة.." معاوناً أو نائباً يحلّ محله عندما يأزف رحيله لتكون وشائج"العمل العام" مترابطة قادرة على الإنتاج والتطوير.

لكن الطامة الكبرى أن ينـزاح"سابق" ويتبوّأ"لاحق" لأسباب مزاجية محضة إذن نجعلَ أساس تقدمنا سريع الذوبان كالملح.
أعلى