علي لفتة سعيد - الصوت الآخر للجدران.. قصة قصيرة

أسبوعان مرّا وسط رتابة الحياة.. لا شيء في الأزقّة الضيّقة من التفكير ما يوحي بحصول انفراج، وما على الجسد إلّا المكوث في مساحةٍ محصورة بين الجدران.. لذا لم تكن الأصوات التي يسمعها في محيطه المخنوق غير سرابٍ متكرّرٍ من التعليمات حول الالتزام بما هجم على الأرض كّلها من مرضٍ جعل العالم يعيش عزلةً لا تفّتتها إلّا أدعيةٌ كانت مخبوءةً في تفاصيل التعنّت والتحدّي والمصالح والنفاق والصدق وكلّ المتناقضات التي يعشيها الفرد.
أراد أن يبتكر شيئًا ليوسّع الضيق الذي يعيشه.. يدرك أن مساحة البيت لا تسع أفعاله التي كان فيها حرّ الحركة، حتى لكأن المدينة لا تكفي ليضع أثر أقدامه ويعود مبرمجًا جسده على أريكةٍ ليتابع الأخبار.. كلّ شيء خلال الأسبوعين كان رتيبًا حتى الأخبار التي تعيد نفسها وتكرّر الصور ذاتها وإن اختلفت ملامح الدول.. الشوارع الفارغة مهاد أوّلي لتغيّرات الأرض والمستشفيات والبدلات الزرق والشكوى من الجوع والجيش الذي نزل الى الشوارع لإعادة الناس الى البيوت، وحملات العقيم والتعفير والتطهير التي وجدها غير مفيدةٍ أمام سلطة الوباء.. الساسة وحدهم من يلعلعون على فراش طغيانهم الذي لا يدري أحدٌ منهم متى يتم حرقه.. لذا أراد التخلّص من هذه الرتابة.. رتابة العيش مع العائلة التي أسمعته لأوّل مرّة صراخ الأولاد وتعب الزوجة التي كانت تحاول سابقًا أن تجعلهم ودودين، لكنها في هذه المرحلة كانت تطلب منه أن يكون حازمًا وقويًا وسيساعدها في تربيتهم.. قالت له بشيء من الحدة: طوال سنوات لم تكن تعلم كيف هي حالتي معهم لأنك كنت مشغولًا بعملك.. لكن الآن ساعدني..
هرب من صراخ الجميع الى الغرفة وأغلق الباب.. وفي لحظة هدوء وصمت.. سمع صوتًا يِأتيه من جهة الجدران.. صوتٌ له رنّة تختلف بين جدارٍ وآخر.. يصغي الى الجدار الأول فيسمع أغانٍ قديمةً ويسمع من الثاني اصواتًا على شكل أهازيج حزينة ومن الثالث صوتًا كأنه موسيقى جنائزية والرابع القريب من باب الغرفة كان يأتيه صدى تأوّهات وشكاوى عنيدة.. قال لقد وقدت لعبةً جديدة.. لعبة التخلّص من الكدر.. اللعب مع الجدران التي تشعر بما نشعر وهي وحدها التي بإمكانها أن تعبّر عن خلجاتها بصدقٍ دون مواربة.. اتّكأ على جدران الغناء فوجد الفةً وسمع مشاعره التي تعطيه مجالًا للتأمّل امتد لأكثر من ساعة.. وحين افتح عينيه وجد الجدار الذي يعطيه صوت أهازيج الحروب وعويل نساءٍ وذاكرةً متعبةً خائبة.. هزّ رأسه ليهرب الى الجدار الثالث الذي تتوسّطه نافذةٌ مطلّة على الشارع فراح يسمع أناشيد تشبه مارشًا عسكريًا وكأنه يمشي في طابورٍ من التوابيت.. ضرب النافذة وتخيّل طوابير الموتى الجدد وهم يبحثون عن قبرٍ يوارون فيها، لكن الأرض لم تعد تسع أجسادهم المختنقة بأوكسجين قتله الفايروس.. هرب الى الجدار البعيد الملتصق بغرفة النوم، اتكأ عليه ليعتقد هدنة والفة معه، وراح يلتقط أنفاسًا تركها تخرج من النافذة.. سمع حديث الجدار وهو يقدم له قائمة من شكاوى عديدة.. أسمعه الجدار صوت ضرب كرة القدم من أولاده وأسمعه صراخ الزوجة وشتائمها عليه كونه لم يمنحهم تربيةً صحيحة.. ضحك وهو يسمع صدى السنوات العديدة وكأن الجدران سجلّ من سجلّات الآخرة التي يحملها كل عبد حين يقف في يومه المعلوم.. لكنه ضحك في آخر الإصغاء حين سمع الزوجة تقول لأولاده.. أنا أحبّ والدكم لأنه رجل لم يؤذني حتى لو كنت مجنونة.
أعلى