حنان عبد القادر - همسات في زمن الكورونا (1)- كوميديا الفناء بين المعكرونة وال "كوفيدوفوبيا"

منذ عدة أشهر، انطلقت الصيحات تحذر من الإصابة بفيروس كورونا، لم تكن المرة الأولى التي أسمع فيها اسم الفيروس، فقد قدمت حول فايروسات كورونا العديد من الأبحاث في أعوام ماضية، لكن لم يكن منها واحدا متحورا، ولا متفشيا آنذاك.
ومن الغريب والطريف في آن، تبادر اسم ونوع الشكولاتة التي كنت أفضلها في طفولتي إلى ذهني ، كانت بنفس الاسم: كورونا، وهي من إنتاج شركة "رويال" المصرية التي أسسها اليوناني تومي خريستو عام 1919، وبعد ثورة 23 يوليو، تم تأميمها وتغيير اسمها إلى شركة الإسكندرية للحلويات والشوكولاتة، ليتم تخصيصها في العام 2000 وضمها مالكها الجديد لـ"مجموعة شركات سونيد"، ثم لم يعد لكورونا وجودها لدى أطفالنا مثلما كان في عالمنا.
وتذكرت " فُلَّة "، الاسم الذي أطلقته على أول سيارة اشتريتها، كانت يابانية الصنع، من شركة تويوتا العالمية، تويوتا كرونا، التي بدأ إنتاجها عام 1957 وتوقف عام 2002 وكانت من أوائل السيارات التي بدأت تويوتا بإنتاجها، وتساءلت بسذاجة وتندر: معقول كورونا التي أعشقها يدور الزمن وتصبح قاتلة بهذا الشكل؟
ولما قرأت عن الفيروس، وعرفت أنه يسمى: (كوفيد-19)، تبادر إلى ذهني أيضا رواية قديمة لديفيد معلوف بعنوان:( أوفيد في المنفى.. حياة متخيلة)، وأتذكر بعض عباراته فيها:
  • أنا، منفي ، هنا، وحتى لو افترضت أن لدي القوة على الفرار في وضعي الحاضر، فأين تراني سأذهب ؟
  • ليس لي وجود رسمي، في كل العالم المعروف، حيث يحكم الإمبراطور.
  • النهار كله أشرد في حلم، معزولا عن عالم البشر، كأني من طينة أخرى.
  • في الخلاء، أدأب على الصراخ وأحدث نفسي، لأنني ببساطة، أريد أن احتفظ بالكلمات في رأسي.
  • أسيكون كل شيء هكذا منذ الآن؟ أعلي أن أتعلم كل شيء من جديد مثل طفل؟ أكتشف العالم كما يفعل طفل صغير، عبر الحواس، لكن مع حرمان الأشياء كلها من السحر الخاص لأسمائها في لغتي؟
  • علي أن أدخل في الصمت لأجد كلمة السر التي سوف تطلقني من حياتي نفسها.
لا أدري لم خطر ذلك في ذهني، اللهم إلا أنها كما قلت لكم، تداعيات العقل البشري الذي يربط الأنماط ببعضها ويصنفها كما يحلو له.
ولما رأيت ما يفعل " كوفيد 19 " إبن ال "كورونا " بالبشر، وما يبثه من رعب وهلع في المجتمعات، تذكرت أعراض ال "أوفيديوفوبيا " التي تصيبني، وإلى الآن لا أستطيع التخلص منها.
ربما يتساءل البعض: وما ال "أوفيدوفوبيا "؟
إنها أعزكم الله، الخوف المرضي من الثعابين، فكلما تخيلتها، أو رأيت صورتها، أو عرض عنها برنامج في التلفاز بمحض الصدفة، انتابتني الرجفة والاختناق والدوخة وألم المعدة، وإذا صادفتها في مكان عرضا، لذت بالفرار، وأطلقت للركض العنان، ناهيكم عن التوتر والقلق والتفكير والتخييل المجسم من العقل لما كان سيحدث لي لو اقتربت مني، والهلع كل الهلع لو زارتني في أحلامي.
إن حالة تشبه ال "أوفيدوفوبيا " تسيطر على العالم الآن من مجرد ذكر "الكورونا فايروس"، وأصبح هنالك شبه شلل عام في كل مكان، شلل يسببه الهلع الشديد.
وفي جوانب أخرى من بقاع البسيطة، نجد تداعيات العقل تقود نحو التعامل مع الأمر بأقصى درجات السخرية، لأن هول الكورونا لا يضاهي هول الإبادات والمجاعات والمخيمات التي تنتشر فيها الأوبئة؛ قرن من الحروب التي دمرت فيها أسر كاملة باسم الوطنية، منذ أن أصبحت الأوطان أكثر فتكاً من الفايروسات؛ فعندما تحذرهم من كورونا، يردون عليك بسخرية موجعة: معكرونا! وما الذي سيخيفنا من المكرونا المستجد هذا؟، "إحنا رح ناكله قبل ما ياكلنا" وينهون الحديث: خليها على الله، ويطلق البعض: "خبز وفواكه ومعكرونة للتضامن ضد كورونا"، وتقام الاعراس على أنغام: لا كورونا ولا معكرونة.
والغريب أن فوبيا "كورونا" يرفع أسعار المعكرونة في دول العالم مع ازدياد الطلب عليها، حيث اندفع المستهلكون لشراء السلع الرئيسية غير القابلة للتلف، كبريطانيا وتركيا وإيطاليا، وغيرها من الدول.
كما انطلقت النوادر والنكات والأغاني لتخفف من الإحساس بالفاجعة، وترصد كيف يتعامل معها الناس، وما تتفتق عنه قرائحهم التهكمية، أو ربما تزيدهم استخفافا بها.
ولنرى تلك النكتة القادمة من إيطاليا تقول: لماذا يعتبر المترو في روما هو المكان الأكثر أمانا لتجنب الفيروس؟ لأن وقت الانتظار أطول من وقت الحضانة.
وتقول امرأة إيطالية محجورة صحيا مع أقاربها "إذا نجا أطفالي من المرض، فأنا من سيقتلهم".
وهذا نداء للزوجات: "أيتها الزوجات مع تنفيذ منع التجول، يعتبر الأزواج أسرى عندكن، فأحسنوا معاملة أسراكن حسب إتفاقية جنيف".
وفي تعليق لبناني: "حسبنا الله على الصين.. كان كلشي يجي منها تقليد.. إلا الكورونا طلع أصلي"، وفي سخرية من الأخبارعن لقاح الفيروس يقول المصريون "اللقاح الوحيد لكورونا دلوقتى انك تتلقح فى البيت لحد ما الأزمة تعدي"
وعن الحظر المنزلي: "بعد القعدة فى البيت، مراتى كل ما تعدي من جنبي تقول ربنا يخلصنا من البلوة دي، ما اعرفشى تقصد كورونا ولا تقصدنى ..؟!"
كما قال أحد الساخرين تعليقا على كثرة المعلومات والتحذيرات عن فيروس كورونا "من كتر المعلومات اللى جت على موبايلى عن كورونا، الموبايل بيعطس مش بيرن"، ونشر أحدهم يقول "يا ريت يا جماعة اللى هايفضل لأخر عام 2020 يبقى يطفى النور ويقفل محبس الغاز ويقفل الباب وراه".
هكذا يغلق البشر باب أحداث الكورونا المنتشرة حولهم والتي تحيطهم من كل جانب، يدفعون الخوف بالطرفة والغناء واللامبالاة التي هي أخطر المواقف على الإطلاق؛ كمن يواجه الموت بقهقهة عالية تحمل كل طاقات الحياة.
أهو الموت إذن؟ هذا الذي يهبط بيننا فجأة ونستشعره يتجول بيننا.
من الطبيعي أن يخاف الإنسان من الموت، لكنه واقع يتقبله في نفس الوقت، وربما يكون ذلك مفهوما على مستوى الفرد؛ لأن موت الأفراد حدث شبه يومي، ولا يصيبنا كمجتمع بشري بالخوف من الموت الجماعي؛ لكن البشر جميعاً يخافون من الأوبئة والأخطار الطبيعية والكونية؛ وينظرون إليها على أنها أعداء يمكن أن تقتلهم جميعاً، لذلك يصابون بالذعر والهلع، وهذا غير مفهوم بوضوح؛ لأنه لم يسبق أن مات مجتمع كامل أو ماتت البشرية، رغم أن الأساطير وبعض الأفكار والمعتقدات الدينية، تشير إلى وقوع موت جماعي حدث ما قبل التاريخ، ويبشر بعضها بحرب آخر الزمان التي ستقضي على جزء كبير من البشر؛ ولذلك عندما يهددهم عدو جامح، أو وباء جائح لابد أن يتملكهم الهلع والخوف من الفناء، خاصة والأخبار لم تقصر في وصف الوباء وأعداد الموتى الذين حصدهم، والمرضى المصابين به، والتلويح بالكساد والمجاعات وغيرها، مما يدخلنا دائرة الهلع الجماعي.
إذاً لهذا الهلع المتنامي مكائن أخرى تشغله، لا نعرف إن كانت لأهداف إنسانية سامية أو كانت لأهداف أخرى؛ لكن ما نعرفه أنها تثير فينا كبشر دوافع نفسية جمعية تستمد جذورها من أزمان سحيقة، غذّتها عبر التاريخ أساطير وأفكار دينية وثقافات نسجت على أسطورة نهاية الجنس البشري وموته.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى