أحمد رجب شلتوت - تنويعات سردية في الرواية العربية الحديثة

القاهرة من: أحمد رجب شلتوت

يبدأ الدكتور مرشد أحمد أحدث كتبه " تنويعات سردية في الرواية العربية الحديثة" ( دمشق 2019 ) بتعريف الرواية الحديثة بأنها "رواية الحرية" ويضيف بأنها "تسعى إلى أن تؤسس قوانين اشتغالها في الوقت الذي تتيح فيه هدمها وهي لا تدعي لنفسها فلسفة معينة، وترفض الأشكال الجاهزة للفكر ولطرائق التعبير عنه"، ولذلك فلا يمكن لها أن تتحول إلى شيء جاهز، أو إلى وصفات يمكن الاسترشاد بها، لأن لكل نص روائي مظاهر حداثته المؤسس عليه، ولكل روائي مفهومه الخاص للحداثة وآليات تجسيدها إبداعياً، وهذا يقتضي أن نفهم الحداثة الروائية في بعديها الزمني والأدواتي، أي لكونها مشروعاً مغايراً إبداعياً وفكرياً للسائد والمألوف والنمطي، وطريقاً نحو فهم أعمق وأشمل لأسرار الإبداع.
وعبر الفصول الخمسة للكتاب ينطلق الناقد في تناوله للحداثة في الرواية العربية من المنجز الإبداعي الروائي، وليس من تصور نظري مسبق أو من خلفيات أيديولوجية قد تتناقض مع الحرية في الإبداع. ومعبرا عن فهم للحداثة الروائية في بعديها الزمني والأدواتي، أي بكونها مشروعا مغايرا للسائد فكريا وإبداعيا، وطريقا نحو فهم أعمق وأشمل لأسرار الإبداع الروائي.
التناوب السردي
يقتضي التحديث من الروائي الحداثي الوعي بالتحديث، أي توافر المبدع على معرفة الأسس النظرية لتجارب الآخرين، لئلا يصبح مقلداً في شكل ما، وتوافره على أسئلته الخاصة التي يسعى إلى صياغتها فنياً، يجب عليه أن يستجيب لسياقه الثقافي ورؤيته للعالم، لأن الوعي الجديد يستدعي رؤية إبداعية جديدة ماهرة باستخدام آليات جديدة تسهّل عملية عرض الحكاية على المتلقي. ويصل المؤلف إلى أن يجعل من النص الروائي معيارا للاشتغال النقدي، وذلك من خلال تحديد الآليات السردية التي استعملها السارد في عرض الحكاية للمتلقي، مستعرضا كل آلية منها في فصل مستقل. وفي اولها أوضح أن النص الروائي يتكون من حكاية (قصة) وسرد ( خطاب) وهناك سارد يحكي الحكاية وأمامه متلق يدركها، فلا تصبح الأحداث المحكية أكثر أهمية من الكيفية التي يُطلع بها السارد المتلقي بهذه الأحداث، وقد يصبح السارد شخصية في محكيه ( متماثل حكائيا) وقد يحكيها على لسان غريب بضمير الغائب ( متباين حكائيا)، وتنحصر وظيفة السارد في عرض الحكاية. وتقترن صورته بصورة المتلقي، فما إن تتضح صورة السارد حتى ترتسم بدقة صورة المتلقي الخيالي، فعلامات السارد محايثة للسرد، هنا يسعى الكتاب لإظهار كيفية اشتغال السارد في رواية "حارس المدينة الضائعة" لابراهيم نصرالله، حيث يسند عرض الحكاية لساردين يتناوبان السرد، أحدهما عليم ( متباين حكائيا) ، والثاني أحد الشخصيات ( متماثل حكائيا) ، ويجزئان الحكاية، وهذا اشتغال سردي حداثي. كذلك يذهب مرشد أحمد إلى أن قيمة النص الروائي تكمن في كليته وفي الوعي النظري لإمكاناتها وقدراتها التعبيرية اللامحدودة، لذلك تم الغاء ثنائية الشكل والمضمون، فيصبح المضمون نفسه عنصرا مضمونيا لأنه يكشف أبعاد البنية الدلالية ويكثفها، فالنمط الشكلي للحكاية هو الذي يشكل معنى النص، لذلك يجب على الناقد الحديث أن يهتم بشكل المضمون، والكيفية التي ينتج بها الشكل الروائي التعددية الممكنة لدلالات الرواية. واستنادا إلى هذا الفهم يقارب الناقد رواية "عرس فلسطين" لأديب النحوي. التهجين الأجناسي
تتيح مرونة الجنس الروائي تلاقحا بين السردي والشعري، فتنطلق عملية تلقي النص الأدبي من "بنية النص" إلى "بنية الفهم" بهدف تلمس شعرية النص الروائي باعتبار الشعرية هوية جمالية تتخذ من الأدب موضوعا كافيا للمعرفة.
ولمقاربة تهجين الشعر في الرواية العربية يناقش الناقد رواية "العشاء السفلي" لمحمد الشركي، ويرى أن السارد عمل على مدار تشكل المنظومة السردية على استثمار طاقات اللغة بتصييغ اللغة السردية شعريا، أي بمزجه بين المحكي الشعري الذي استعاد آليات القصيدة.
كذلك قد يكون التهجين الأجناسي بين السرد والمذكرات وهي نص نثري غير حكائي، يتصف بسمة الاعتراف، ويتخذ من رواية "خواطر إمرأة لا تعرف العشق" للتونسية أسماء معيكل نموذجا يقارب من خلاله كيفية تهجين السرد بالمذكرات، حيث اشتغلت المذكرات في النص بوصفها آلية سردية حملت أحد مقاصد الحكاية، وسهلت مهمة السارد في عرض الحكاية دون عوائق.
هذا وتكمن قيمة التهجين الأجناسي في أنه يجعل بنية النص الروائي تتصف بأنها "بنية الجمع" القائمة على تأسيس قاعدة للتماسك الداخلي للنص، أما العتبات فيدرسها باعتبارها جزءا من نظام معرفي قائم بذاته، يكسب النص قيمة إبداعية مستقاة من أنساق ثقافية غير حكائية، توسع جماليات تلقيه على مستوى التداول القرائي. ويفضل المؤلف تسميتها بالمصاحبات النصية بدلا من العتبات لأنها تشمل شبكة من العناصر النصية، والخارجية المحيطة بالنص، فتهيىء المتلقي لدخول النص، فتصبح كما لو كانت سياجا أو أفقا يحمي القراءة من جموح التأويل، من خلال ما يرسمه من آفاق انتظار محددة. وهنا يشير إلى عتبة العنوان في رواية "فتنة الزؤان" لابراهيم الكوني موضحا الحمولة الشعرية للعنوان المسكوك بالغرابة والكثافة والمراوغة والغموض، فبنية هذا العنوان تتكون من ملفوظين الأول فتنة بمعنى الابتلاء والاختبار، وفتنته المرأة إذا أحبها، والملفوظ الثاني "الزؤان" هو الردىء من الطعام الذي يرمى، هذا الملفوظ يحول مسار الفتنة من حالة دالة على تأثير يمارسه الشيىء الجميل إلى شيىء قبيح لا يثير في الإنسان بواعث الدهشة. فتجاور هذين الملفوظين غير مألوف فيخلق بينهما فجوة، لعدم تلاؤمهما دلاليا، مما يفسح المجال لقراءات وتأويلات شتى، وبقراءة النص يذهب الناقد إلى أن هذا العنوان رغم غرابته إلا أنه لم يكن عنصرا زائدا أو غريبا عن النص، فظهر على المسار السردي بصفته نواة الأحداث الرئيسية في الحكاية، كما كشف المرامي الأيديولوجية للكاتب. وفي الفصل الأخير يميز مرشد أحمد بين الوصف والسرد، موضحا أن السرد يتشكل عبر جمل فعلية بينما الوصف يتشكل من جمل إسمية، لذلك يتطلب السرد معرفة الأفعال بينما الوصف يتطلب معرفة الميدان الذي ينتمي إليه الموصوف، أي معرفة الأشياء والأماكن والشخصيات، ويقارب الناقد هنا رواية براري الحمى لابراهيم نصرالله، مبرزا استقلال الوصف فيها عن السرد، وقد يتداخلان في نماذج أخرى كما في "رقم 2 فقط" لابراهيم نصرالله أيضا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى