مـيخائيـل نـعيمـه - اليوبيل الألمـــــاسِي

رفع رئيس التحرير سماعة التلفون بيد مكهربة بالغضب . فقد كان منذ ساعتين يحاول كتابة مقال يدعم فيه مرشح حزبه في الانتخابات الجارية فما ينقاد له القلم . وكان قد مزّق الورقة العاشرة عندما رنّ جرس التلفون للمرّة العشرين . فتمنّى لو كانت السمّاعة في يده حجراً يهوي به على رأس الذي جاء يزعجه ويشوّش عليه أفكاره . ولكنه عاد فتملّك أعصابه عندما عرف أن الذي يكالمه ما كان غير مدير المطبعة .
ــ نعم . نعم . عرفتك . تكلّم . أمن عطل جديد في المطبعة ؟
ــ كلّا . ولكن عندنا ما هو أسوأ من ذلك .
ــ أحركة بين العمال ؟
ــ لا شيء من ذلك . ولكن . . .
ــ ولكن ماذا ؟ شغلي إلى ما فوق أذني . ولا وقت عندي لقتل الوقت .
ــ عندنا عجوز تصرّ على مقابلتك .
ــ ومن هي ؟ وماذا تريد مني ؟
ــ اسمها (( فتنة )) . وتقول إن لديها أموراً شخصيّة تفضي بها إليك .
ــ فتنة ؟ أما كفانا ما عندنا من فتن ؟ أما استطعت أن تصرفها باللطف . . . بالعنف ، إلى الشيطان ، إلى جهنم ؟
ــ حاولت ولكن بغير جدوى . إنها طاعنة في السنّ ومجرّد وجودها هنا يلهي العمال عن العمل .
ــ اطرحوها خارجاً فلا وقت عندي لاستقبال العجائز وإن كنّ فاتنات .
ــ ولكن العنف قد يودي بحياتها . فهي تكاد تكون خيالاً بشريّاً .
ــ قل لها أن تأتيني في غير هذا اليوم .
ــ ولكنها تلحَ على مقابلتك اليوم والآن .
ــ لا حول ولا . . . جئني بها ، ولكن من بعد أن تُفهمها أن وقتي لا يتّسع لأكثر من خمس دقائق .
دخلت العجوز على رئيس التحرير وهي تتوكّأ على عصا محدودبة كظهرها ، وفي ثياب إن نمّت عن شيء فعن الفقر والسذاجة دون المذلّة والقذارة . ومن بعد أن جلست وشدّت منديلها الأسود على شعرها الأشيب حيّت الرجل باحتشام وقالت بلسان يتلعثم في فم لا أثر فيه للأسنان والأضراس :
ــ أنا فتنة . . .
ــ تشرّفنا . وبماذا جاءت فتنة تفتننا ؟
ــ لا تؤاخذني . سمعي ثقيل . ارفع صوتك قليلاً .
ــ تشرّفنا . . . ماذا تريدين مني ؟
ــ أنا فتنة . زوجة يعقوب .
ــ عليه السلام . ماذا تريد فتنة زوجة يعقوب من رئيس تحرير جريدة (( النور )) ؟
ــ يعقوب . يعقوب . . . أما تعرفه ؟
ــ لم يحصل لي الشرف حتى الآن .
ــ أما المرحوم والدك فكان يحبّه كثيراً .
ــ رحم الله الاثنين . وبعد ؟
ــ لا . الرحمة لوالدك . أما زوجي فحي من كرم الباري .
ــ إذن لا رحمه الله . وبعد ؟
ــ يعقوب في الخامسة بعد المائة . وأنا في الخامسة بعد التسعين . واليوم هو يوم يوبيلنا الألماسي .
ــ وقد جئت حضرتك تدعيني إلى حفلة اليوبيل ؟
ــ اليوم تمّت الخمسة والسبعون عاماً لزواجنا . وهذا أمر لا يعرفه إلّا ثلاثة : أنا ويعقوب والله . ومنذ الآن تصبح أنت رابعنا .
ــ هو شرف عظيم لي يا سيدتي أن أكون رابع جماعة ثالثهم الله عزّ وجلّ . وبعد فما شأني بيوبيل فتنة ويعقوب ؟
ــ لم أسمع . لا تؤاخذني . قاتل الله الشيخوخة .
ــ بل أنت تسمعين ما تريدين ، ولا تسمعين ما لا تريدين .
ــ لا تهزأ بي يا سيّدي . فالهزء في الخمسة والتسعين عاماً خفة واستهتار وعار .
ــ قلت ما شأني بيوبيلكما الألماسي ؟
ــ أنت الكلّ في الكلّ .
ــ أنا ؟ !
ــ نعم . أنت . فلولا يعقوب لما كنت اليوم حيث أنت .
ــ تعنين أني مدين لزوجك بمركزي ؟
ــ نعم . فيعقوب كان ذراع والدك اليمنى يوم أسّس الجريدة . إذ لم يكن فيها غيرهما . يعقوب لصفّ الأحرف والطباعة والتوزيع وغيرها من الأعمال الثقيلة . ووالدك للإدارة والتحرير .
ــ وكم بقي يعقوب في خدمة الجريدة ؟
ــ خمسين عاماً . وكنت أظنّك تعرف ذلك . أما أخبرك المرحوم والدك عن يعقوب ؟
ــ لست بصاحب الجريدة يا خالتي . ولا أنا ابن مؤسّسها . أنا رئيس التحرير لا أكثر . أتفهمين ؟ أنا رجل مأجور كما كان يعقوب . لقد انتقلت هذه الجريدة من بعد وفاة صاحبها إلى أيد كثيرة . وصاحبها الحالي لا يعرف يعقوب . وليس في الإدارة كلّها من يعرف يعقوب . أفهمت ؟
ــ لا يعرفونه ؟! لا يعرفون يعقوب ؟! لا يذكرون الخمسين عاماً التي أمضاها في خدمة هذه الجريدة يطعمها من لحمه ودمه ؟! حقّاً لقد تبدّلت الأزمنة وتبدّل الناس . . .
وأخرجت العجوز من تحت إبطها الأيسر خرقة ممزّقة ، ولكنها نظيفة ، ومسحت بها دموعها . وسكتت . وعندها تغيّرت ملامح رئيس التحرير فانبسطت أساريره وكانت متقطبة . وابتسمت عيناه وكانتا في عبوس . فانحنى نحو العجوز وقال في كثير من الرفق والعطف :
ــ الآن ، وقد أفهمتك يا خالتي أنّني لست وريث مؤسّس الجريدة ، وأنّني رئيس تحريرها لا أكثر ، فماذا ترغبين إليّ فعله في سبيلك وسبيل يعقوب ؟
ــ اليوبيل يا سيدي . اليوبيل . ولا شيء أكثر من ذلك .
ــ أتريدين معونة مالية تمكّنك ويعقوب من الاحتفال بيوبيلكما الألماسي ؟
ر لا . لا . شكراً يا سيدي . ولكن يعزّ عليّ جدّاً أن يفارق يعقوب هذه الدنيا ـــ وقد يفارقها بين ليلة وضحاها ـــ وأن يفنى ذكره بوفاته . كنت أودّ أن أكافئه في آخر أيّامه بعدد من الجريدة التي وقف عليها خمسين سنة من عمره ، وفيه رسمة وكلمة طيّبة عنه لمناسبة يوبيله الألماسي . ذلك خير ما يطبق عليه عينيه . يعقوب حقيق بأن يخلد .
ــ ولكن الخلود يا خالتي بالأعمال العظيمة . فماذا فعل يعقوب ليخلد ؟
ــ عاش مائة وخمسة أعوام . ألا يكفي ؟ وهذا نادر بين الناس . وعمل في هذه اجريدة خمسين عاماً بإخلاص وأمانة متناهيين . وكان زوجاً صالحاً في خلال ثلاثة ارباع القرن ، ورجلاً ما آذى إنساناً ولا تمنّى الشرّ يوماً لإنسان . نعم ، لم نُرزق أولاداً . ولكننا ما حسدنا مخلوقاً على الأرض . يعقوب نادر بين الرجال .
ــ وأنت نادرة بين النساء .
ــ لا تهزأ بي يا ابني . فالخمسة والتسعون عاماً ليست بالأمر الذي يهزأ به .
ــ لست بهازىء يا خالتي . لقد فهمت الآن ما تطلبين .
ــ أصحيح أنّك فهمت ؟
ــ نعم . نعم فهمت . فهمت .
ــ وهل تردني خائبة ؟
ــ معاذ الله . سأفعل ما أستطيعه في سبيلك وسبيل يعقوب .
ــ بارك الله فيك يا سيدي . لا تؤاخذني . ظلّ العجائز ثقيل . منظرهنّ يؤذي العين وأصواتهن تخدش الأذن .
ــ إلّا إذا كانت العجوز فتنة .
ــ هه . هه . . . أستودعك الله . لا تؤاخذني .
ــ مرفوقة بالسلامة يا خالتي .
خرجت العجوز من حضرة رئيس التحرير . ومن بعد أن أغلقت الباب خلفها عادت وفتحته لتقول :
ــ أرجو أن يكون الخبر في خمسة أسطر على الأقل . وأن يظهر في عدد اليوم لأقدمه هدية ليعقوب في يوبيل زواجه الألماسي .
ــ سيكون لك ما تريدين ، إن شاء الله . . .
في ذلك النهار صدر عدد (( النور )) وليس فيه شيء حول الانتخابات ، بل فيه مقال ضافٍ من قلم رئيس التحرير عن مقابلته للعجوز فتنة ، وعمّا دار بينه وبينها من حوار . وقد استرسل الكاتب في تمجيد العمل الصامت والعمال المغمورين ، وفي وصف ما ينطوي عليه عمرٌ جاوز القرن من غريب الصور وعجيب المعاني . وقد جاء المقال من العذوبة والطرافة بحيث تهافت الناس عليه حتى نفدت آخر نسخة منه في ساعات معدودات .
وصدر عدد اليوم التالي وفيه صفحة كاملة حافلة بالرسوم وبالوصف للحفلة السخيّة التي أقامها محررو (( النور )) وعمالها ليعقوب وفتنة في كوخهما الحقير لمناسبة مرور خمسة وسبعين عاماً على زواجهما . ومن أروع ما جاء فيها ـــ بعد ذكريات يعقوب ـــ وصف قرص الحلوى الكبير وقد غُرست فيه خمس وسبعون شمعة ، وكيف أن الزوج الطاعن أضاءها بيده . ولما حان وقت إطفائها أخذ يطفئها شمعة بعد شمعة . وينتهي الوصف الشائق بهذه العبارة المؤثرة :
(( ونفخ يعقوب على الشمعة الخامسة والسبعين فانطفأت ، ومعها انطفأت . . . حياته.)

ميخائيل نعيمه
#أبو_بطة


1958
أعلى