ميخائيل نعيمه - الكلمة الوليمة..

أيَّتها الكلمة!
علَّمْتِني النطق، فنطقت.
وعلَّمْتِني الكتابة، فكتبت.

وكان ما نطقتُ به عوالمَ من السحر والسرِّ.

وكان ما كتبتُه دنيواتٍ من الرموز والألغاز.

ولو لم تكن لي قابليَّةُ النطق والكتابة لَما نطقتُ وكتبت.

ولو لم تكن لي القابليَّةُ لفهم ما أنطق به وأكتبه لَما خُيِّل إليَّ أنَّني أفهمه.

ولكنَّني، في الواقع، لا أفهم حقَّ الفهم ما أقول وما أكتب.

فها أنا ألفظ وأرسم كلماتٍ من نوع: الله – الحياة – الحق – العدل – الجمال – الحرِّية – الخلود؛ وبمثل السهولة، ألفظ وأرسم كلماتٍ من نوع: الشيطان – الموت – الباطل – الظلم – البشاعة – العبوديَّة – الفناء. وأحسب أنَّني أفهم ما ألفظ وأرسم؛ أمَّا، في الواقع، فلا أفهم.

فمتى أفهم؟

وإذا أنا قلت وكتبت كلماتٍ من نوع: إنسان – حيوان – بحر – جبل – زنبقة – أمس – غدًا – ماء – تراب – إلخ، حسبتُني كذلك أفهم ما أقول وأكتب؛ في حين أنَّني لا أفهم. فهذه جميعها صناديق مقفلة، وهي بعضٌ من كلٍّ. فكيف لي أن أفتحها، وأن أفهم البعض، ما لم أفهم الكلَّ؟ حتى “أنا” – وهي أكثر الكلمات شيوعًا على قلمي ولساني – لا أفهمها!

فمتى أفهم؟

متى أفهمك، أيَّتها الكلمة التي تعني كلَّ ما كان، وما هو كائن، وما سيكون، وبيني وبينك من وشائج القربَى ما ليس مثله بين أمٍّ وطفلها، أو بين عابد ومعبوده؟

متى يعود إليَّ لُبِّي الشاردُ في متاهات رموزكِ وألغازك، والمأخوذُ بسحركِ وأسرارك، – متى يعود حاملاً لي نعمة الفهم المقدَّس؟…

* * *

وكأنَّني سمعت الكلمة تجيب فتقول:

“ليس المهمُّ، يا ولدي، أن تعرف متى تأتيك نعمةُ الفهم المقدَّس، بل المهمُّ أن تميِّز معالمَ الطريق المؤدِّي إليها، وأن تسير فيه بقدم ثابتة. ومعالم الطريق لن تخفى عليك مادام توقك إلى فهم “الكلمة” يفوق توقك إلى التلهِّي بحروفها لا أكثر.

“في الكلمة، يا ابني، سرُّ عظمتك وحقارتك، وسرُّ هنائك وشقائك. إذا أنت امتهنتَها امتهنتْك، وإذا أنت قدَّستَها قدَّستْك. وأنت تمتهنُها كلَّما قلت أو كتبت غير ما تُضمر، أو عكس ما تُضمر، وكلَّما اتَّخذتَها وسيلةً لنيل مآرب لا تشرِّف ناسوتك.

“في قواميس النَّاس آلاف الكلمات: منها الزَّبد، ومنها الزبدة؛ منها ما يُضلُّك عن طريق الفهم، ومنها ما يدلُّك عليه.

“هناك الكلمة الجيفة – وهذه أحبُّ الولائم إلى الذئاب والديدان وبنات آوى في الإنسان؛ وهناك الكلمة القرح – وهذه يتهافت عليها الذباب؛ وهناك الكلمة الخنجر، والسمُّ، والعلقم؛ والكلمة البغيُّ، والجرباء، والبخراء، والعوراء؛ والكلمة التي تتبرَّج، وتتبختر، وتتكبَّر، وتتجبَّر؛ والتي تقول: أنا – وكفى! وهذه جميعها، وما كان من نبعتها، كلمات أعيذك منها، يا ولدي، إذا كنتَ ممَّن لا يكتفون من الحياة برغوتها.

“وهناك الكلمة الشَّهْد؛ والكلمة البلسم، والشذا، والجناح، والواحة، والوحي؛ والكلمة التي هي الدرع، والإيمان، والمصباح، والباب، والمفتاح، وغيرها ممَّا هو من مقلعها. وهذه أوصيك بها، يا ولدي، إذا كنتَ من التوَّاقين إلى نعمة الفهم المقدَّس. فهي المعالم التي تدلُّك على الطريق – على أن تنبجس هذه الكلمات من وجدانك انبجاسَ النبع من قلب الجبل. فلا حذلقة، ولا تصنُّع، ولا تبرُّج – وهل يتحذلق ويتصنَّع ويتبرَّج إلاَّ الكذب؟ أمَّا الصدق فبسيط أبدًا. ولأنَّه أبدًا بسيط فهو أبدًا جميل. لذلك أوصيك بالكلمة الصادقة. والكلمة الصادقة باتت اليوم أعزَّ ما في الأرض. فلا عجب أن ترى أبناء الأرض يتخبَّطون في الرغوة حتى لَيكادون يختنقون!

“أنا الكلمة. مَن جمَّلَني جمَّلتُه، ومَن قبَّحَني قبَّحتُه، ومَن امتهنَني امتهنتُه، ومن قدَّسَني قدَّستُه.

“وأنا الوليمة التي لا مثلها، ولا قبلها وبعدها، وليمة. فلا حصر لأصنافها، ولا عدَّ للمدعوِّين إليها. والذي أولِمُه آلهة وسماوات، وشموس ومجرَّات، وآزال وآباد، وحيوات تنسلُّ من حيوات.

“وأنت لن تشبع من وليمتي ولن ترتوي إلاَّ يوم تعرف أنَّ ما تأكله هو أنت، وأنَّ ما تشربه هو أنت. فاحذرْ كيف تأكل وكيف تشرب، إنْ أنت شئتَ أن تعرف مَن أنت، فتشبع بعد جوع، وترتوي بعد عطش. ودع المعربدين يعربدون، والعابثين يعبثون، والذين يتلهُّون بالقشور دَعْهم يتلهُّون. فنور الكلمة لم يشرقْ في قلوبهم بعدُ، وروح الفهم لم يطهِّر أيديهم وأفواههم.”

* * *

ذلك ما خُيِّل إليَّ أن الكلمة ألقتْه في أذني وفي خَلَدي. وذلك ما أودُّ، يا قارئي، أن ألقيه عند الوداع في أذنك وفي خَلَدك – لعلَّني وإيَّاك نتعلَّم كيف نجمِّل الكلمة ونقدِّسها لنتجمَّل بها ونتقدَّس، وكيف نتناول من وليمتها السخيَّة ما يمهِّد لنا طريق الفهم المقدَّس.



* ميخائيل نعيمه، سبعون… حكاية عمر: 1889-1959 – المرحلة الثالثة: 1932-1959، طب 6، مؤسسة نوفل، بيروت 1983.
أعلى