د. إيمان الزيات - من كتابي " الرواية التشكيلية"

تعد (الرواية التشكيلية) الابنة الشرعية لتلك العلاقة الطويلة والممتدة بين الفن التشكيلي والأدب ، فهي ذلك النص النثري الأدبي الذي يظهر فيه ملامح الفن التشكيلي وتقنياته وأساليبه، والذي قد يتكئ في مجمله على لوحة أو منحوتة تجسد الأزمة وتحرّك الصراع، ويتجلى من خلاله الفن التشكيلي بمدارسه ومشكلاته، رواده وأعلامه، وتتماهي أبطال لوحاته وحكاياهم مع أبطال تلك الروايات وقصصهم الغريبة أو المأزومة.
ولقد أنتجت تلك العلاقة الفريدة على مر السنين مجموعة مميزة من الروائع الأدبية التي تحول بعضها إلى أفلام سينمائية ومسرحيات.

الفتاة ذات القرط اللؤلؤي
(تريسي شيفالييه)

الفتاة ذات القرط اللؤلؤي هي لوحة زيتية رسمت في القرن التاسع عشر على يد الفنان الهولندي (يوهانس فيرمير)، يظهر في هذه اللوحة وجهًا لفتاة ترتدي غطاء رأس أزرق اللون وقرطًا لؤلؤيًا مميزًا لا يمكن أن تخطؤه العين عند مشاهدة اللوحة، قامت الكاتبة الأمريكية (تريسي شيفالييه) بكتابة رواية تاريخية عن تلك اللوحة عنونتها باسم (الفتاة ذات القرط اللؤلؤي) عام 1999 تتحدث رواية تريسي عن الملابسات حول رسم اللوحة حيث يصبح يوهانس فيرمير صديقًا مقربًا لخادمة تدعى (جريت) التي يوظفها لديه كمساعدة تقوم بالجلوس له ليرسمها بينما ترتدي جريت أقراط زوجة فيرمير، ألهمت الرواية المنتجين فظهرت كفيلم عام 2003، و كمسرحية عام 2008 م كلاهما كانا يحملان الاسم نفسه، وقد قامت الممثلة سكارليت جوهانسون بدور جريت الفتاة ذات القرط اللؤلؤي وترشحت للعديد من جوائز على هذا الدور.
أعاد رسم اللوحة فنان الشوارع الإنجليزى بانسكي كصورة جدارية في بريستول ، مستبدلاً القرط اللؤلؤي بصندوق منبه وأطلق على هذه اللوحة "الفتاة ذات طبلة الأذن المثقوبة"
غريت هي فتاة خجولة تعيش في الجمهورية الهولندية عام 1665. والدها يعمل في تزيين وتلوين الخزف وفقد بصره مؤخرًا مما افقده القدرة على العمل وبالتالي أصبح وضع عائلته المادي حرج. ونتيجة لذلك أرسلت غريت للعمل كخادمة في المنزل الرسام يوهانس فيرمير (كولين فيرث). تعمل غريت بجد، قليلة الكلام، الجميع يسيئ إليها حتى أطفال فيرمير. وفي عملها الروتيني لشراء متطلبات المنزل يقع بيتر (سيليان ميرفي) في غرامها في حين إنها لا تكن له اي مشاعر.
كما تنظف غريت مرسم فيرمير، الذي هو غير مسموح لزوجته كاثرين (إيسي دافيس) أن تدخله أبداً، فتنشأ بينهما صداقة وتبدي غريت إعجابها بلوحاته وألوانه وبدوره يعطيها فيرمير دروسًا في خلط الألوان وغيرها من أساسيات الرسم، محاولًا الوقت نفسه أن يبقي ما بينه وبين غريت سراً عن زوجته التي قد تشتعل نيران الغيرة في قلبها إذا علمت بهذه الصداقة.
تتناول الرواية معاناة الطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها البطلة، وتتجلي قمة الإثارة والروعة في المشهد الذي صاغته الكاتبة (تريسي شيفالييه ) ببراعة فائقة والذي تخضع فيه جريت إلى عملية ثقب أذنيها كي تتمكن من ارتداء القرط اللؤلؤي الخاص بزوجة سيدها يوهانس الذي قرر أن يرسمها، حيث تظهر على ملامحها علامات الألم المكبوت والاستسلام لحاجتها ولهذا السيد ، فتنحدر على خدها دمعة صامتة حين يعلق القرط اللوزي الثقيل في شحمة أذنها المثقوبة توًا والتي ما زالت تنزف، فتعبر الكاتبة بذلك الرمز (القرط) عن عبأ الطبقة الثرية الذي تحمله الطبقة الفقيرة المعوزة رهقًا وألمًا، وربما أرادت التلميح إلى تجاوز العلاقة بين البطل وتلك الخادمة اليافعة لحدود علاقة السيد بخادمته؛ فضلاً عن اختيار الأذن عضو السمع الذي تصله الأوامر فيطيع. وعمومًا فإن ذلك المشهد الألمعي استطاع التعبير عن ذلك كله.
تبدو جريت في هذا المشهد السردي بوجه أبيض كالثلج خالي من حمرة الدماء ومن أثر الحياة الرغدة أو والسعادة، لكنه في نفس الوقت وجه ممتلئ بالبراءة والبساطة، إنها تجسيد لمجموعة من المتناقضات في شكل لوحة لفتاة، بذاخة القرط وبساطة حال الخادمة، قوة الفن ورقة الفتاة، البراءة الصافية والحياة المنسحبة، محبة البطل لها وكراهية زوجته الصهباء وتعاليها عليها. والأعين التي لا تحمل أي أمل ولا تجرؤ على الفضول.
لقد لخصت الكاتبة الكثير من الشرح والتحليل والتفنيد في شكل لوحة صارت جسرًا ومعبرًا مُعَبّرًا عن الشخوص والحالة، فضربت بروايتها تلك أبرع الأمثلة على تعاطي الأدب الإيجابي مع الفن التشكيلي، وعلى تلك العلاقة الديناميكية المشتركة بينهما، التي تمنح النص ثراءً وتجعله ينبض بالصدق والحياة عندما يجسد على شاشات العرض و المسارح.
أيضًا نستطيع أن نلمس لمحات التأكيد على تلك الفكرة من خلال لقطات سردية في الرواية تمثل وقوف الفتاة دوما من خلف حائل أو نافذة زجاجية تمكنها من المشاهدة ولكنها تفصل دومًا بينها وبين الآخرين
تجعلنا (تريسي شيفالييه) نفكر مثلها في أن القدر ربما قد ألقى بتلك الفتاة في طريق فيرمير كي تصبح تجسيدًا لمرحلة ما في حياة البشرية غابت فيها العدالة الاجتماعية وصار الفرد عبد الاحسان الفردي والعطاءات ؟! كما تطلعنا بطريقة غير مباشرة على سيكولوجية الفنان التشكيلي الخاصة، ونزعاته المزاجية ونظرته المغايرة للشخوص وطريقة تعبيره الخاصة عنها. وهذا ملمحًا إثرائيًا إضافيًا بالرواية.
وعموما فإن هذه رواية الفتاة ذات القرط اللؤلؤي للكاتبة (تريسي شيفالييه) تؤدي وظيفة من وظائف الأدب الجوهرية بدفعها للمعنى المتجسد في اللوحة والذيربما يقتصر على كونه تجسيدًا لوجه مميز ، أو لعلاقة غير اعتيادية، إلى التعبير عن معاناة شريحة اجتماعية، ومرحلة زمنية ذات خصوصية في تاريخ البشر. كما تؤرخ لطريقة حياة تلك الطبقة الثرية من خلال وصف المنازل، والملابس، والحلي، والممتلكات، وحتى الوصف الدقيق للأثاث، والمقتنيات، و أدوات المائدة المكدسة والمرهقة. كما وصفت شوارع مدينة الأراضي الهولندية المنخفضة (Nederlanden) المميزة بكونها ممرات مائية بطول المدينة وعرضها.
ارسلت لحضرتك

د. إيمان الزيات

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى