عبد الرزاق سوقير - صرخة من قاع العدم

أُغلق الباب من جديد. هل خطر لك يوم أن تَعُدَّ عدد مرات غلق الباب في كل محطة على طريق المترو؟ هل فكرت يوما في عدِّ عدد المحطات التي تقف فيها كل أسبوع، كل شهر، كل سنة؟ أو عدد مرات ركوبك المترو لتُغيّر مكانك؟ تغيير المكان. لم أجد كلمة أخرى. كل ما نفعله هو تغيير مكاننا كل يوم. من مبادئ ميكانيكا الكمّ أن الأجسام الميكروسكوبية تتخذ حالات متعددة في نفس الوقت. وأنت أيها الجسم الضخم الذي يشاهد كل هذه الأجسام ويبني نظرياته وتجاربه عليها. مالَك تلبث على حالك لا تتغير؟ هل تعوزك مبادئ الفيزياء وقوانين الطبيعة أم تعودت نفسك على العدم وصارت تخاف التمرد؟

كتبت هذه المقدمة لنص لم يُكتب له أن يكتمل. نسيت أن أقول أن من بين هواياتي منذ دخلت "ميكانيكا العدم" هي بداية النصوص التي لا أقوى على إكمالها. ليس هذا مهما. عادة ما يهتم الناس بالنهايات، وأنا لست مستعدا لأمنحهم هذه الفرصة..
يقال بأن العالم بعد الكورونا لن يكون نفسه قبلها أو قبله (لا أعلم ولا أهتم. لن تهتم وأنت تسقط بإسقاط الباترياركية). أشك في ذلك. فهذه المقدمة القديمة آراها ملائمة الآن لتفتح نصا جديدا. نصا عن ما آلت إليه حياتنا بعد هذه الصدمة. صدمة أن تلك الحياة القديمة لم تعد ممكنة. صدمة جعلت أغلبنا يراها جنته المسروقة التي يتمنى استرجاعها.
غريزة البقاء. تلك السمة البشرية التي تثير اشمئزازي. عليك أن تهرب من الوحش كل يوم وأن تسعد لنجاتك. عليك إن تصارع الوحل كل لحظة وأن ترضى لأنك مازلت تسمع نبض أنفاسك. قليلون هم من اهتموا بأن ينظروا إلى الضفة الأخرى وأن يكتشفوا أن ما بعدَ الوحلِ الوجود. هذه الغريزة هي التي جعلت الكثيرين يشتاقون إلى حياة رتيبة وأن يروها مطمحا ومخرجا. أرى الآن تلك المقدمة لذلك النص المنسي شاهدا ودليلا على أن ذلك لم يكن يوما مطمحا ولا غاية. ولكنها تلك الغريزة، آه من تلك الغريزة.
فُتحت كل المنصات الإفتراضية فجأة على مصراعيها خلال هذا الحجر الصحي. ويا لبشاعتها من كلمة. أفلام نادرة وُضعت بالمجان للمشاهدة، وألبومات موسيقية قديمة أصبحت متاحة للجميع، حتى الرقص لمن استطاع إليه جسدًا أصبح على المباشر. كل شيئ يذكرك بمهمتك الأساسية التي جئت لأجلها إلى هذا العالم، أنت أيها الكائن الإستهلاكي. لا تجعل هذا الحجر ينسيك وظيفتك، أكمل رسالتك الإنتاجية ولو عن بعد. يقول ابن خلدون في مقدمته على لسان بعض الحكماء، وأظنه يقصد أرسطو، بأن الإنسان مدني بالطبع، و يذكرك مجتمعك بأنك منتِجٌ انتاجي لا شريك له. لا ينبغي أن تخرج من هذا الحجر دون أن تُكوّن فكرة عن أصول السينما التعبيرية الألمانية ودون أن تقرأ عن ربيع براغ وتتعرف على مدرسة فرانكفورت في الفلسفة. كل تلك الأشياء التي كنت تهرب إليها من جحيم واقعك لتفسره، لتفهمه أو لتتعايش معه وتصمد لحين، وهذا أضعف الإيمان، أضحت اليوم تحاصرك وتخنقك. خرجَتْ من عالمك وطافت بالقطيع واكتسبت تفاهته وتماهيه وعادت إليك تهددك وتعاديك. كل ذلك الذي جعل منك يوما المنسي "المثقف" - كلمة مرعبة أخرى- الخارج عن السرب الذي أثقل ذهنه بالأفكار والنظريات عن الوجود والكينونة والزمان سيجد نفسه من جديد منبوذا غريبا إن هو لم يرضخ هذه المرة لهذا الكم من الفن و"الثقافة الحجرية".
تحدثت يوما مطولا مع أحد الأصدقاء النفسانيين عن الموضوع، وإن كنت أكنّ دوما العداء للنفسانيين، وفي أفضل الحالات حذرا وتحفظا، أو لنقل لوظيفتهم، فالنفساني هو ذلك الشخص الذي تلجأ إليه كلما اغتربت في واقعك وشارفت على الجنون، هو ذلك "المختص" الذي يحاول إعادتك إلى الواقع، إلى الصراط، إلى المجتمع والجماعة، متحيلا حينا ومدعيا علمًا حينا. هي وظيفة قد يكون النظام اخترعها ليرمي من خالفه بالجنون والاغتراب والحال أن الجنون في مواجهة اللامعنى، اللاحقيقة، اللاوجود، تمردٌ وثورة. فَلِتحيا ثورة المجانين.
كل هذه الأفكار أو الأوهام، وإن كنت قد افتقدت ملكة التمييز بين الأفكار والأوهام، جعلتني أبدو حذرا في تعاملي مع النفسانيين. ولكن قربي من هذا الصديق جعلني أسمعه، و إن كان ذلك من باب الفضول، فلم أكن مشغولا لتلك الدرجة على كل حال. قال لي بأن ما نعيشه اليوم يرتقي إلى درجة الصدمة النفسية التي تفترض أولا الاعتراف بها قبل محاولة تجاوزها، لا تقبّل ضغظ إضافي يجعلك حبيسا بين هوس الإنتاجية من جهة، وبين مستنقع العدم القديم اللدود من جهة أخرى. ولكن هل يهتم العالم - أفضل أحيانا تسميته العالم على المجتمع فهو يحيل على وهم العولمة وإن كان العالم تراكم مجتمعات يربطها وهم الترابط الإنساني المقدس، أو الموهوم - فعلا بصحة أفراده النفسية؟

أحسست فجأة بلفحة سوداوية فيم أكتبه. أأسف حقا لمن سيقرأ هذا الهراء. عزيزي القارئ، لديك خمس ثوانٍ لمغادرة المقال. كم من مرة تُرك لك الخيار؟ مرات قليلة. هو عالمُ مفروض فرضا. انتهت الخمس ثواني. أجدني إذن على حق. ماذا لو كان كل هذا حلما أو كابوسا؟ حدثني ذلك النفساني أيضا مرة عن مصطلح الحلم الواعي (الصافي/الجلِيْ) ، هو ذلك الحلم الذي لا تكون فيه مستيقظا تماما ولا نائما، ذلك الذي تقاوم فيه رغبتك في الاستيقاظ لتواصله، ففيه كل ما تتمناه ولم تبلغه في الحقيقة، يهرب إليه الناس عادة من واقع اللاممكن إلى عالم كل شيء فيه ممكن ومرضٍ، هي تلك الحياة التي تريد عيشها فعلا، قرأت أيضا عن أناس يتدربون فعلا على التحكم في ذلك حتى يتسنى لهم مواصلة أحلامهم الواعية كيفما شاؤوا ومتى أرادوا، يحولونها إلى عالم آخر مواز وحياة أخرى جديدة، ويمكنهم الوصول إلى مراحل لم يعد ممكنا فيها التمييز بين الواقع والحلم. ماذا لو كان ما نعيشه كابوسا واعيا؟ عالم مواز أشد قسوة وأشد دمارا من العالم المعتاد جاء ليذكرنا بأن السيئ ليس دائما الأسوأ، ولكن هل يمكن التحكم فيه أيضا ووضع حد له؟ أو على الأقل التدرب على الوصول إلى النهاية، فلا أحد يريد أن يفوّت فرصة التعرف على النهاية مهما كان الفيلم الذي يراه مأساويا.

يقاطعني فجأة صراخ زميل، زميل في العدم. إنه استراجون. أسمعه يخاطب فلاديمير ويسأله إن كان علينا أن ننتظر يوما آخر. ننتظر يوم آخرا للخروج أو للعودة. الخروج إلى مستقبل قد يمنحنا شرف القتال كي نحظى بالوجود. أو العودة إلى منفي الحياة القديمة العبثية. ولكن المفقودة. وكل مفقود منشود.

"سأصير يوما طائرا، وأسل من عدمي وجودي. كلما احترق الجناحان اقتربت من الحقيقة وانبعثت من الرماد. أنا حوار الحالمين. عزفت عن جسدي و عن نفسي لأكمل رحلتي الأولى إلى المعنى، فأحرقتني وغاب. أنا الغياب، أنا السماوي الطريد". م. درويش.

لو كان لي أن أضع عنوانا لهذا النص لجعلته "توتّر". هذا الكم من الجمل القصيرة والمبتورة يعبر عن ذلك. ولكني لا أرى هذا الشعور النذل يستحق أن يتصدر نصا أو يبوّب بيانا. بيان تمرد ضده. عليّ أن أغير شيئا ما. سأغير موسيقى باخ الجنائزية التي اجتاحت غرفتي بترنيمات تشايكوفسكي الحزينة. الجنازات تمظهر للتغيير. نهاية وبداية. ولكن الحزن فعل مستمر، ما استمر العدم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى