صالون البرج -بقلم المحامي محمد الغانم أو غانم

*ها قد بدأنا نتعافى ونستفيق من حلم كورونا رويدا ً رويداً ؛ وبتنا ننتظر عند كل مساء التقرير اليومي وما سيصدر عنه من تعليمات لليوم الذي يليه ...*
*لقد عشنا الأزمة بكل تفاصيلها في بلد شهد له الجميع بسلاسة وحسن الأداء ...*
*البارحة ومع بوادر الانفراج وبعد غياب تجاوز الشهرين ؛ زرت صديقي الروائي والناقد الأديب محمد فتحي المقداد أبا هاشم في صالونه الخاص بالحلاقة الرجّالية وهو الذي أبدع في الأسابيع العشرة المنقضية وبأسلوبه المبتكر ؛ ومن خلال قصصه الكورانية الجذّابة شبه اليومية والتي تحاكي الواقع بأسلوب نقدي فريد امتص الواقع بدعابة ربطه بالماضي مع ولادة الفكرة المتجددة لتخرج بثوب جديد ...*
*التقيته البارحة في برجه المتواضع والذي بات مهوى أفئدة عشّاق الكلمة الواعية والهادفة في محيطه من لاجئين وأردنيين ؛ ذاك المكان الذي لايعكس إلّا اليسير من قدرة صاحبة الهائلة وفطنته وإبداعه في فنون أدبية عدة ؛ وهو القامة الأدبية الفذّة القادمة مع فلول الهاربين اللاجئين من حروب الرِدّة وجحيم الموت الزؤام وفوضى الحياة وانسداد الأفق ؛ بعد أن أدار ظهره مُكرهاً لمسقط رأسه فوق أوابد بصرى الشام النفيسة بأعمدتها العملاقة ومدرجها الساحر وشوارعها الطويلة وميادينها وساحاتها الجميلة المرصوفة جميعها بالحجارة البازلتية السوداء ، ومساجدها الموغلة بالقدم كمبرك الناقة والعمري والحمامات وبٍرك الماء ؛ تلك المدينة التي توالت عليها حضارات وأقوام ووطأ ثراها قبل نبوته سيد الخلق محمد - صلى الله عليه وسلم - ويبقى أديبنا المقدام من مكان لجوئه يُيمّم وجهه نحو العرين الذي غادره مع كل صلاة وفي كل دعاء ؛ لا بل مع كل صباح ومساء ؛ وتجده يستنهض الهمم ويحاول بالوعي والإيمان وكلماته الصادقة أن يكفكف مابقي من دموع على أمل ذرفها في لحظات الفرح والعودة واللقاء القريب إن شاء الله ...*
*إن برج صديقنا وإن بدا صالوناً للحلاقة يكسب - من خلال أصابعه الذهبية وحسّه المُرهف ومباضعه وأدواته البسيطة - القليل من المال - يساعده على نوائب الدهر وقهر اللجوء ودفع الأجور والفواتير ؛ إلّا أن هذا الصالون يحاكي شيئاً ما وبصورة مُصغّرة صالونات الأدب الشهيرة كصالون عباس محمود العقّاد وصالون ميّ زيادة و صالون ثُريّا الحافظ وما أن تَدخل إليه حتى تواجهك عشرات وربما مئات الكتب المعلقة بالجدران ؛ تلامس السقف وعلى الطاولات والطربيزات وجميعها تُعنى بالفكر والفنون والأدب ...*
*البارحة وعلى حين غِرّة دفعني فضولي الخروج الفوري من برج صديقي لأتابع بنظراتي ما لفت انتباهي وأثار فضولي حيث مرَّ من أمامنا رجلان وامرأة؛ وكان عليَّ أن أوثق في ذاكرتي قصة هؤلاء والتي مرّ بي خبرها من أيام سبقت أيام كورونا ...*
*لِمَ نعجب من كورونا وبين ظهرانينا من البشر من هو أخطر وأسوأ آلاف المرات من كورونا ...؟؟*
*نعود للرجلين والمرأة وليتهم كذلك فهما ذكران و أنثى !!!!*
*لقد كانت تتقدمهما بالمسير بفارق أمتار يتبعها زوجها الحالي ؛ وأما من كان في ذيل الرتل فهو طليقها الأول ويبدو أن هناك حالة من التوأمة والتوافق وإن تفرقوا بعض الشيء أثناء المسير ؛ وها هم استقلوا سيارة أجرة واحدة إلى وجهة أجهلها والأغرب أن سكنهما في بيت واحد أيضًا.
*لم أعد أفهم طبيعة بعض البشر وكيف لهم الاستمرار والعيش معاً مع غياب الغيرة؟! وتذكرت غيرة الجمّل الشديدة والذئب وبعض الحيوانات الأخرى لكني عدت وتذكرت الخنزير ...*
*يبدو أن برج صديقي العاجيّ يستفزني ويعيد لذاكرتي بعض ملفاتي العتيقة بالمحاماة ؛ ومنها تلك المماثلة لِمَن هم مرّوا من أمامنا البارحة ، وكيف لي أن أنسى من قام وأوصى زميله بالسجن لحظة خروجه بأن يزور زوجته وأولاده ويطمئن على أحوالهم؟! وكيف كان المُفرج عنه وفيّاً وقام بالزيّارة لا بل أتبعها بزيارات تحوّلت إلى إقامة؟! وما أن خرج صاحب البيت من سجنه حتى وجد أمامه زيادة طارئة في تعداد أفراد أسرته ؛ وكذلك كيف لي أن أنسى حادثة الغانية وطفلتها التي تجهل نسبها وما أن أوقعت خليلها الأخير في شِركها حتى اشترطت للاقتران به أن يقوم بتسجيل ابنتها البالغة ست سنوات على اسمه وكان لها ذلك ؛ وما بين ليلة وضحاها فاق المُغفَّل ووجد ابنة جديدة تحمل اسمه ونسبه وتنضم لقائمة أولاده من زوجته الأولى ؛ وما أن وقع الفأس بالرأس -وراحت السكرة وجاءت الفكرة- حتى بدأت معارك نفي النسب القضائية والتي استمرت لسنوات ؛ ولا أنسى حينها مسيرة تحليل الدم الخاص والمُكْلِف مادياً والذي تعذر القيام به أنذاك إلّا بمخابر خاصة في الهند ؛ وهذه حادثة أخرى من حوادث مرّت خلال مسيرتنا الطويلة بالمحاماة ...*
*شكراً لكورونا لأنها علّمتنا بأن الفوضى طريق للرذيلة، وإضعاف للشعور بالغيرة ...*
*شكرا لصديقي صاحب صالون البرج في إربد- عروس الشمال - وندعو الله أن يكون صالونه الأدبي الجديد في أم المدائن دمشق الجريحة بعد تحريرها، أو بجوار أحد أبراج مدرج بصرى الشام الشهير - مسقط رأسه ومهوى فؤاده وما على الله بعزيز ...*
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*من مجموعة (خربشات أبوغانم)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى