محمد علام - المثقف والسلطة..

في عصر عبد الناصر لم تتردد السلطة في مغازلة المثقف، ولم يسلم كثير من المثقفين من التحول إلى "هتيفة" للنظام وأعوانه، وكان في اقترابهم من السلطة شرعية لخطابهم الثقافي، وأمانا لهم من أي رصاصة غادرة حتى لو كان خطابهم ذاك مخالفًا للعادات والأعراف الدينية المتوارثة.
---
في فيلم "اغتيال فرج فودة"، تصور "الجزيرة" الكاتب العلماني على أنه خارج على الدين وبالتالي دمه حلال، وهو نفس ما قاله "الغزالي" في المحكمة: «لا تحاسبوا القتلة على القتل لأنه حلال باسم الدين، إنما حاسبوا ولي الأمر لأنه لم يطبق حد الردة على فرج فودة».
---
هل ما قاله فرج فودة في المناظرة الشهيرة هو سبب قتله؟
الحقيقة تقول أن موضوع "الخلافة الإسلامية" بين الدين والدولة، قد طرح قبل مولد فرج فودة بعشرات السنين، وخاض هذه المعركة مثقفون عدة، انتصر منهم للدولة المدنية مثل علي عبد الرازق وطه حسين وخالد محمد خالد، وغيرهم.. وفي نفس المناظرة قال الدكتور محمد أحمد خلف الله كلامًا جريئًا في العقيدة لم يتلفظ به فرج من قبل، والدكتور خلف الله صاحب النظرة الشهيرة للقرآن على أنه كتابٌ للوعظ والإرشاد فقط، وليس كتابًا للتأريخ والتشريع، وأنا القصة القرآنية ضُربت للدرس والتعليم وليس أكثر من ذلك.. ومع ذلك طول نصف قرن على دعوة "خلف الله" هذه، لم يجرؤ أحد على المساس به.. حتى عندما أعلن تأييده لمشروع فرج فودة وحضر معه نفس المناظرة.. إذن لماذا فرج تحديدًا؟
---
في سنة 90 تقريبًا تولى اللواء محمد عبد الحليم موسى وزارة الداخلية، وتعرض في هذا العام لمحاولة اغتيال، لكنه نجا منها، وأعلن أنه لا حوار مع الإسلاميين، وأن سياسته تعتمد على "الضرب في المليان"، وشاع عنه التعذيب في المعتقلات، والإعدامات بلا محاكمات، وقد كان الإسلاميون يشبهونه في بعض صحفهم بصلاح نصر. قبل هذه الفترة كانت مصر مُعتادة على الاختلاف السلمي، حتى عندما أعلن محمد الغزالي خروج نجيب محفوظ عن الملة في 1959م، لم يدعُ لقتله، ولم يتعرض للاغتيال.. ولكن منذ قدوم عبد الحليم موسى وبدأت عمليات الاغتيال بفرج فودة 92، جمال حمدان 93، نجيب محفوظ 94..
---
السلطة في عصر جمال عبد الناصر كانت راعية للمثقف، داعمة له لنشر أفكاره التنويرية، كانت تستخدم أجهزتها في الدعاية لهذا المثقف وتلميعه وإبرازه في صدر المرحلة، مثلما حدث مع السباعي وغيره، ودعم عبد الناصر له عندما صرح بمخاوفه من إعادة طبع رواية نائب عزرائيل في ظل القلاقل السياسية التي بين النظام والتيار الديني، فقال ناصر لا تخف.. وعندما طلب نجيب محفوظ من هيكل وقف طباعة أولاد حارتنا قال له هيكل إن عبد الناصر على علم بالأمر "فلا تخف". ولكن منذ قدوم السادات بنظامه الجديد الذي يصفه غالي شكري "الثورة المضادة لمصر"، والمثقف لا يجد ترحيبا من السلطة التي لفظته، ولا من المجتمع الذي ارتمى في أحضان الجماعات الإسلامية!
---
اختار السادات ومن بعده مبارك أن تكون لمصر مزايدة إسلامية على الدولة الإسلامية التي يدعو لها الإسلاميون، فلأول مرة يذيع التلفزيون الآذان عقب كل الصلاة، ويحرص على إذاعة خطبة الجمعة كل أسبوع، وتقام الاحتفالات الدينية بدعم من رئيس الدولة إعلاميًا.. وتصبح مصر في حالة من التأسلم القومي والتي لم ترضِ الإسلاميين، ولا العلمانيين، «كل حلفائك خانوك أيها المُثقف»، وكانت بداية الضحايا يوسف السباعي نفسه، وتوالت قائمة الاغتيالات، وعلى ذلك خاض فرج فودة الحرب ضد فصيلين: الدولة القومية المتأسلمة، ودولة الخلافة الإسلامية..
---
لم تساند الدولة فرج فودة، لم تكن ترضى بالتيار العلماني، هذه حقيقة، وكان فرج يلعب السياسة ويؤسس لأول حزب علماني، وهو بهذا يخوض المباراة السياسية التي طرد منها المثقف منذ السبعينيات، وعندما قال في المناظرة أنتم لا تقدمون برامج تفصيلية وتتكلمون عن خلافة لم تكن أبدًا حكمًا دينيا بل كانت حكمًا مدنيًا صرفًا.. قال له الهضيبي: أنا الضد الدولة الدينية كما أنت ضدها، ومع الدولة المدنية كما أنت معها.. إذن أين الخلاف بيننا؟ الخلاف يا دكتور إنني مع تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية التي طبقها الرسول في حياته.. فهل أنت معها؟ (وبابتسامة خبيثة للغزالي معناها: لا تقلق سيكتب شهادة وفاته الآن) فإذا قصرنا فضع أنت البرامج التفصيلية، ألست مسلمًا؟ وإذا لم تكن مع تطبيق الشريعة الإسلامية فهذا يعني أمورًا أخرى.
وابتسم فرج ولم يجب، وبعد أيام كتب في مجلة أكتوبر يقول: «إن القوانين الوضعية تحقق المصلحة للمجتمع أكثر من الشريعة الإسلامية.. وأرى أن القانون الوضعي يحقق صالح المجتمع في قضايا الزنا مثلًا أكثر مما ستحققه الشريعة الإسلامية لو طُبقت!».



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى