أ. د. عادل الأسطة - أحمد دحبور ... مجنون حيفا ملف (1 - 8)

1- أحمد دحبور : فجيعة الغياب : البحث عن الناصرة في الناصرة

يمكن القول إن قصيدة أحمد دحبور " وردة للناصرة " التي وردت في ديوانه " هنا .. هناك " ( 1997) تنتمي الى آداب مرحلة السلام . فقد كتبها الشاعر في مدينة غزة بتاريخ 14/9/1994 . ونحن نعرف ، من خلال قراءتنا سيرة حياة الشاعر أنه ولد عام 1946، في مدينة حيفا ، ولم يقم فيها بسبب هجرة والديه منها عام 1948 ، وقد أتى الشاعر
في غير قصيدة على هذه الهجرة ، ومنها – أي من القصائد – هذه التي بين أيدينا .
وتصلح هذه القصيدة لأن تدرس تحت عنوان " فجيعة الحضور ، في أدب الغياب الحضور " ، ذلك أن العديد من النصوص التي أنجزها العائدون بدت ذات نبرة حزينة فيها قدر من التعبير عن الخيبة مما تحقق ومما بدا عليه الواقع الفلسطيني الغائب عن أعين الغياب الحضور ، هؤلاء الذين فجعوا بما رأوا ، ولم يترددوا في الكتابة عن هذا ، بوعي أو دون وعي ، فجاءت نصوصهم تعبيراً عن فداحة الواقع ، وكشف الفجيعة التي اعتملت في دواخلهم نتيجة اللقيا ومقدار الهوة بين الحلم والمنجز، وبين صورة المكان من خلال الذاكرة وصورته المستجدة ، بين صورته القديمة وصورته الجديدة ، بين صورته مكانا عربياً وصورته وقد هوّد تماماً .
" وردة للناصرة " نص من نصوص عديدة أنجزها العائدون اثر عودتهم ، وقد تراوح جنسها ما بين قصيدة ورواية ونص نثري يمكن أن يدرج تحت باب سيرة المكان ، أو سيرة الانسان والمكان في ما بين تغير الاحلام واختلاف حال الاثنين نتيجة لتبدل الزمان . والنصوص التي استطعت أن أقرأها من خلال السنوات الثلاث المنصرمة هي :
- مجموعة أحمد دحبور " هنا .. هناك " (1997) .
- خليل السواحري " تحولات سلمان التايه ومكابداته " (1996) .
- رواية يحيى يخلف " نهر يستحم في البحيرة " (1997) .
- فاروق وادي " منازل القلب " ( 1997) .
- مريد البرغوثي " رأيت رام الله " (1998) .
- محمود شقير " ظل آخر للمدينة " (1998).
- رشاد أبو شاور " رائحة التمر حنة " (1999).
وما من شك في أنها نصوص تستحق وقفة متأنية لمناقشتها ، لفكرتها أولاً ، ولجنسها الأدبي ثانياً ، ولأنها صادرة عن كتاب لهم باع في الكتابة منذ الستينات ، كتاب خاضوا الكتابة في غير جنس أدبي ، ولم ينقطعوا عن الكتابة الا ليطوروا أداتهم أو ليكتبوا عن تجربة جديدة تختمر في أذهانهم. وتجربة ما بعد ( أوسلو ) ، بشكل عام تشكل ، في معظم النصوص المذكورة آنفاً، منعطفاً جديداً في مسار أصحابها أكثرهم .
يضم " هنا .. هناك " قصائد كتبها أحمد دحبور قبل عودته الى غزة وأخرى بعد عودته اليها ، قصائد تعبر عن الحنين الى المكان في المكان نفسه .
ويكتب السواحري عن علاقة العائد بالمكان وبالناس وبالمحتل كتابةً تذكرنا بمجموعته "مقهى الباشورة " التي كتبها اثر احتلال القدس عام 1967 ، وتحثنا على اجراء مقارنة عن علاقة الفلسطيني بالمحتل اثر الاحتلال واثر السلام لملاحظة الفارق الهش ما بين نقيضين ظاهرين يخبئان شعوراً دفيناً تشكل عبر مئة عام ويزيد قليلاً .
ويعبر يخلف عن فجيعته التي نجمت عن لقياه بقريته التي رسم لها صورة فيها قدر من البكارة ، فلما اقترب من جسدها وجدها عجوزاً شمطاء جعدتها جرافات اليهود . ولم يختلف الأمر لدى فاروق وادي ومريد البرغوثي في علاقتهما برام الله ، ولدى محمود شقير في علاقته بالقدس ، ولدى رشاد أبو شاور في علاقته بأريحا .
ويبدو لسان هؤلاء كلهم سطر الشاعر أحمد دحبور :
" لماذا لم أجد حيفا وقد لامستها "
و " وردة للناصرة " هي قصيدة من أربع وعشرين قصيدة ضمتها مجموعة " هنا .. هناك " ، يدرج القسم الأول منها تحت الظرف هناك – أي تونس ، ويدرج القسم الثاني تحت الظرف هنا – أي غزة ، وكان الأجدر أن يكون عنوان الديوان " هناك .. هنا " .
وتجدر الاشارة الى أن هناك قصيدة واحدة هي " طبيعة صامته " أدرجت ضمن قصائد غزة مع أن الشاعر كتبها في القاهرة – أي هناك لا هنا .
تتشكل القصيدة من أربعة وسبعين سطراً شعرياً ، يفصل بينها تارة فراغات ، وطورا دائرة ، وهذه تفصل بين الأسطر 22 و 23، وثمة فاصل فراغي بين السطرين 13 و 14 ، وآخر بين السطرين 31 و 32. وخلافا لهذه الفراغات وتلك الدائرة استطيع ، وهذا اجتهاد شخصي ، أن أقسم القصيدة الى ستة مقاطع هي :
1-13- لقيا الشاعر بالناصرة وشعوره بالاغتراب فيها .
14-22- الحنين الى الوطن في الوطن نفسه .
23-31-الالتفات الى حيفا مكان ولادته والشعور بافتقادها .
32-35- تذكر زمن المنفى وما كان خبأه ليوم اللقاء .
36-49-سيرة ذاتية : عام الرحيل الاول (1948) وعام العودة اللاعودة (1993).
50-74-العودة الى الناصرة : عودة الى بداية النص وتساؤلات تعبر عن العودة الناقصة والشعور بالفجيعة .
يهدي أنا الشاعر في المقطع الأول مدينة الناصرة وردةً ، لتكون دمعةً تسري على خد جليلي ، سببها الجرح الجليلي . وأنا المتكلم هنا كأنه المسيح الذي بعث من جديد ، إن عودته الى وطنه هي عودة المنفي الى بر السلامة ، وهي عودة المسيح المصلوب الميت ، من وجهة نظر مسيحية ، الى الحياة ، ويصاب العائد بالدهشة لعدم معرفته بالمكان .
لقد مر زمن طويل على افتراقه عن مكانه ، وهذا الزمن جعله ينسى المكان الذي ألف ، معرفة مباشرة أو معرفة من خلال القص ، معرفة المسيح الذي سار في دروب المدينة ، ومعرفة الشاعر الذي أصغى الى سكان المكان يقصون ، في المنفى ، عن المكان ، ليعرفه – أي الشاعر – بدوره ممن قصوا. وهكذا نصغي الى انا المتكلم / المسيح الفلسطيني العائد ، وهو يعبر عن جهله بالمكان الذي هو منه ، وهكذا يطلب من والده / سيده / جده – أي ابن الناصرة الذي ظل فيها مقيماً أن يكون دليله لمدينته بعد عودته اليها ، وأن يعرفه بالمكان حتى تمتلىء ذاكرته الشاغرة ، الذاكرة التي أثر عليها طول زمن المنفى والتغيرات التي ألمت بالمدينة :
ردّ ، من وجهي الى التربة ، غضناً وابتسامة
إنني منها –
فنسبني إليها بعلامة .
ويعبر الشاعر ، في المقطع الثاني ، عما ألم به . لقد عزفت في روحه جنّ . إنه يحنو على أرضه ولا يدري لماذا يحنّ . لقد كان في المنفى يحن الى وطنه لأنه يفتقده ، وها هو الآن على أرض وطنه ، ولكن سمة الحنين ما زالت تلازمه . وإذا كان ناظم حكمت الفلسطيني هنا قد أدخل الى وطنه ولكنه لم يصرخ : أدخلوني الى الجنة ، لقد احتار فها هو يدخل الى وطنه الذي كان يحن اليه ، ولكنه لا يدري إلام يحنّ !!
ويعبر أحمد دحبور عن شوقه الى مرتفع من ضلع فلسطين ، والى كهف أوت جدته الاولى / جدتنا الأولى اليه ، كما يحن الى سريسة طار اليها حجره من ألف دهر فنبت عنها عصافير وأجراس ترن ، غير أنه يصرخ ويصرخ ولا يكون هناك جواب :
فلماذا لا يردّ الكهف والمرتفع ؟
ولماذا حجري مرتجع ؟
وليس هناك من شك في أن هذا ليس سوى تعبير عن شعور الشاعر العائد بالفجيعة وقد أدرك مدى الاخفاق الذي ألم بالعرب وبالفلسطينيين من جراء مرحلة السلام التي لم تعد الحق الى نصابه واللاجئ الى داره . فهل أدرك الشاعر ، وهو يرى فلسطين ، وقد هودت ، أن فلسطين التي كان ، في المنفى ، يحن اليها غدت غير تلك التي عرفها ، من خلال قص الآخرين عنها ، وهل أيقن أن عودة اللاجئين أصبحت أمراً عسير المنال ؟! إن القصيدة هذه وقصيدة "مسافر مقيم " من الديوان نفسه تحفلان باجابة غير مباشرة . انهما تلمحان الى هذا ، وأحياناً تقتربان من التصريح .
وتبدو النقلة في القصيدة واضحة في المقطع الثالث . وكما لا حظنا ، من خلال العنوان، يهدي الشاعر قصيدته للناصرة ، والناصرة ليست المدينة التي ولد فيها ، ولكنها المدينة التي كان يقيم فيها توفيق زياد الذي خصه الشاعر بقصيدة كتبها اثر وفاة زياد بحادث طرق في تموز 1995 ، المدينة التي ارتبطت بتوفيق زياد كما ارتبط بها ، كأن كل طرف يتمم الآخر ، وكأن أي طرف دون الآخر يعني عدم الاكتمال :
أبا الأمين: أعني ، إن ناصرةً
من غير وجهك ، تعني جرح مشواري
ويكون الخطاب ، في هذا المقطع ، إذن ، لحيفا التي ولد الشاعر فيها ، وذكرها في بعض قصائده ، وأتى على علاقته بها في مقدمة أعماله الكاملة . لقد أنجبته حيفا ، ولكن ليس له فيها حتى قلامة . هكذا يتمم هذا المقطعُ المقطعَ الثاني . إنه هناك من الناصرة ، ولكن حجره مرتجع، وهو هنا ينادي حيفا ولكن الصدى متقطع :
" والذي يرجع من أشلاء صوتي
شجر أخبر عنه الوجع "
يفصح المقطع الرابع الذي يتشكل ، كما لاحظنا ، من أربعة أسطر ، يفصح عما كان الشاعر خبأه ، يوم كان في المنفى ، للقيا . وإذا كان الشيطان ، حين طلب منه الخالق أن يسجد ، أبى واستكبر ، فإن الشاعر لا يختلف كثيراً . إنه يتساءل إن كان هو نفسه العاصي الذي رفض أن يستجيب للقدرة حين قالت له :"كن" ، فاختار عمراً ألا يكون ؟
ويبدو المقطع الخامس أقرب الى السيرة الذاتية . وأحمد دحبور ، في هذه المجموعة ، يأتي على طفولته عام الهجرة . يبدو هذا في هذه القصيدة " مسافر مقيم " ، وكان في مجموعته " كسور عشرية " (1992) كتب قصائد جميلة عن علاقته بابيه ، وعن فقره يوم كان يقيم في المخيم . هنا نصغي الى صوت جيل النكبة وهو يحاكم سلوك جيل الاباء الذين ارتكبوا اكبر خطأ عام 1948 ، خطأ الهجرة ، وكأنما الشاعر يبرر لنفسه أنه غير مسؤول عن كونه في المنفى ، فعام 1948 ، كان ابن عامين ، وقد حمله أبوه ، وهو – أي الابن – ملفوف بعامين من الكرمل والنسناس ، ويتمنى، وهو كبير ، لو أن أباه ذبحه كي لا يحيا بعيداً عن حيفا ، ولكي لا يعيش في المنفى . إن المنفى قاتل ومهما أنجز المرء فيه من اشياء ، ومهما حقق من طموحات فإنه – أي المرء – يظل صفراً ، خلافاً لحياته في الوطن حيث يكون في هذا للاشيء معنى . وهنا تبدو حيرة الشاعر واضحة ، إنه مثل السنونو ، وهو لا يدري أعودته عودة أم هجرة ثانية!
" إن للاشيء في تربته معنى ونعتا
ليت أني ،ليت أنّا
غير أنّا
غير أني ها هنا الآن :
لماذا ؟ وبماذا ؟ والسنونو حائرة
عودة أم هجرة ثانية يا أيها السرب المعنى ؟
ونحن ندرك دلالة هذا التساؤل ، ونعرف مدى ما يحتويه السطر الأخير. إن السؤال الذي يثيره اللاجئون الآن هو : وأين نحن من الحل ؟ لم نعد الى مدننا وقرانا وما زلنا في المنافي والمخيمات . ولما كان الشاعر واحداً من هؤلاء ، ولما عاد الى غزة لا الى حيفا فإنه يتساءل : عودة أم هجرة ثانية.
يتمم المقطع السادس المقطع الثاني ، خلافا للمقطع الثالث الذي يتوازى والمقطعين الاول والثاني . يعود أنا الشاعر الى الناصرة التي هو فيها وليس فيها ، يعود ليخاطب ابن الناصرة الطفل / السيد / الجد ، ليتساءل :
" هل حقاً أنا في الناصرة ؟ "
وهو هنا يعبر عن حيرته . إنه غير مصدق ما هو فيه . كأنه يحلم ، وكأن تأويل الحلم أنه سيكون في الناصرة ، ويتساءل عما سيفعله حين يصحو . إنه يدرك الفجيعة كاملة ، ويدرك ان عودته ليست عودة . لقد لامس حيفا ولكنه لم يجدها ، وسبب ذلك أن الإسرائيليين سمحوا له بزيارتها ولم يسمحوا له بالعودة اليها . كأنه رااها في الحلم ليس الا ، وكم يكون الحلم قصيراً ، مثله مثل الزيارة لا مثل الاقامة :
" إنني أقرأ باللمس
لماذا لم أجد حيفا وقد لامستها ؟
أين أنا ؟ أين تكون
خذ يدي ، يا سيدي ، أضربني تصدق أنني حي
وفي قلبي جياد خاسرة "
وينهي الشاعر قصيدته ، وقد تذكر أمه التي كانت ، يوم كان في المنفى ، تحدثه عن جنة الدنيا ، عن حيفا ، ليبلغها ، وقد ماتت ، أنه زار حيفا وأنها لم تزل حيفا ، غير أنه ، وهو الذي عرف المدينة من خلال ذاكرة أمه التي أقامت فيها وأنجبته أيضاً فيها ، يسأل العابر عنها في ربوع الناصرة ، وهكذا تنتهي القصيدة بذكر حيفا والناصرة معاً :
" يا طيوراً طائرة
يا وحوشاً سائرة
بلغي دمعة أمي
أن حيفا لم تزل حيفا ،
وأني أسال العابر عنها في ربوع الناصرة "
وربما يجدر أن نتذكر نهاية قصيدة " مسافر مقيم " وأن نورد منها أسطرها الأخيرة لنرى مدى فجيعة الشاعر المتولدة عن السلام الناقص :
وكيف جئت أحمل الكرمل في قلبي
ولكن كلما دنا بَعُدَ ؟
حيفا أهذي هي ؟
أم قرينة تغار من عينيها ؟
لعلها مأخوذة بحسرتي ،
حسرتها علي أم يا حسرتي عليها ؟
وصلتها ولم أعد اليها
وصلتها ولم أعد اليها
وصلتها ولم أعد ..
وربما تجدر هنا الاشارة الى رواية غسان كنفاني " عائد الى حيفا " والربط بين النصين .
يزور سعيد . س بطل " عائد الى حيفا " مدينة حيفا بعد عام 1967، إثر هزيمة حزيران ، وكان سعيد هذا يتوقع ان يعود الى المدينة بعد تحريرها ، لا بعد سماح سلطات الاحتلال لأهل الضفة والقطاع بزيارة مدنهم وقراهم التي غادروها عام 1948، ويشعر سعيد .س بالفجيعة ، بسبب هزيمة حزيران . لقد كان يحلم بأن يعود الى بيته عودة المنتصر لا عودة المهزوم ، عودة المقيم لا عودة الزائر ، وهذا ما لم يتحقق في حين تحققت عودة المهزوم الزائر . ويكاد هذا يتشابه وعودة أنا الشاعر في قصيدة " وردة للناصرة " وعودة أنا المتكلم في رواية يحيى يخلف "نهر يستحم في البحيرة " (1997). وكما ذكرت في كتابي "أدب المقاومة .. من تفاؤل البدايات الى خيبة النهايات" (1998) أكرر هنا : لقد حققت الحرب والسلم عودة متشابهة ، وأنجزت بالتالي نصوصاً أدبية متشابهة ، ويشعر الفلسطيني ، في مرحلة الحرب وفي مرحلة السلام ، الشعور نفسه : لقد خرج في الزمنين خائباً خاسراً ، أو كما قال الشاعر في قصيدة أحمد دحبور:
"اضربني تصدق أنني حي / وفي قلبي جياد خاسرة " .
هذه القصيدة وأشعار أحمد دحبور :
أحمد دحبور ، كما يعرفه من خلال كتاباته قبل عودته ، شاعر مثقف وكاتب مقالة أدبية وسياسية من الدرجة الأولى . وقد تابعته شخصياً من خلال زاوية "حجر في الهواء " التي كان يكتبها وينشرها على صفحات مجلة " الأفق " التي أخذت تصدر في قبرص بعد الخروج الفلسطيني من بيروت عام 1982، وهو أيضاً ناقد شعر مميز ، فقد نشر دراسة ممتازة عن الشعر الفلسطيني ظهرت على صفحات مجلة " الكرمل " ، يوم كانت هذه تصدر أيضاً من قبرص. ومن يتابع كتاباته التي أخذ ، منذ ثلاث سنوات ، ينشرها على صفحات " جريدة الحياة " يلحظ أنه غدا أبرز ناقد في الأرض المحتلة، وأنه يمتاز عنا نحن النقاد الذي كنا ننشر منذ السبعينات – أعني انطون شلحت ونبيه القاسم وصبحي شحروري وأنا وآخرين في أنه لا يكتفي بمتابعة أدبنا الفلسطيني والعربي وحسب ، وإنما يتابع نتاجات شعراء وروائيين وكتاب قصة عالميين ومع أنني في هذه المقالة لا أبغي تقييم مسيرته الادبية ، الا أنه لا بد من ذكر هذا ، لأن تنوع قراءاته وغزارة نتاجه يترك أثراً على نتاجه الشعري ، وإن كان هذا أيضاً يجعله لا يعمق ظاهرة معينة.
وإذا ما تتبعنا مقالاته عن الشعر العربي والعالمي لا حظنا أنه يكتب عن القصيدة الكلاسيكية وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر ، وأنه يركز تركيزاً واضحاً على موسيقى الشعر حتى ليبدو هذا الجانب هاجسه الذي سيتميز به حين يكتب عن عروض الشعر العربي ، وعلينا الا نغفل ذكر عنوان احدى مجموعاته الشعرية " واحد وعشرون بحراً " ودلالة ذلك الناجمة عن رغبة الشاعر في اضافة أبحر جديدة لبحور الشعر العربي المعروفة .
وإذا ما تتبعنا أيضاً بعض مقالاته التي ينظر فيها للقصيدة لا حظنا تطور نظرته للشعر وبخاصة في علاقته بالجمهور ، وربما يجدر هنا الاتيان على تلك المقالة التي عنوانها : " كيف تهدم قصيدة؟ كيف تبني قصيدة ؟ " ، وكان الشاعر قد نشرها ابتداءً في " الحياة الجديدة " (12/2/1997) ، وأعاد نشرها في مجلة " الكرمل " ( عدد 61 ، خريف 1999) .
يبدي الشاعر رأيه في أشعاره السابقة وتلك اللاحقة ، ويأتي على موقف بعض النقاد من الأولى، ويختلف معهم على الرغم من أنهم ثمنوا قصائده تثميناً عالياً ، حتى أنه حذف تلك المقدمة التي كتبها ناجي علوش لمجموعته " حكاية الولد الفلسطيني " حين أصدرها ثانية وأعاد إصدارها في أعماله الكاملة ، ويورد عبارة مهمة ، وهو يأتي على مواقف النقاد الذين مدحوا أشعاره الاولى ، وهو يفسر تأثير البيئة الضيقة للشاعر على شعره ، ويوضح لنا أن مجموعته "بغير هذا جئت " عنوان لا يعترض على كثير من السائد في حياتنا الوطنية وحسب، بل يحاول ان يتعدى ذلك الى الاعتراض على التعبير السائد مما يماليء رغبات الجمهور السطحية " (الكرمل، 61 ، ص 224 ) .
وعليه يكتب قصائد جديدة تختلف عن تلك القديمة التي كتبها يوم كان شاباً ويوم كانت الثورة قوية والجماهير تصغي الى الشعر . وأخذ الشاعر ، بعد ذلك ، يكتب قصائد في موضوعات شتى عديدة تختلف كلياً في نبرتها عن قصائده ذات النزعة الغنائية ، قصائد يتأمل فيها الاشياء ويكتب فيها قصائد لا تماليء رغبات الجمهور السطحية ، ولم يعد موضوع القصيدة الموضوع الوطني الذي يربط بين ذات الشاعر والجمهور وانما غدا الاشياء وعلاقته بها ، وهو ما يبدو في بعض قصائد " هنا .. هناك " مثل " طبيعة صامتة " و " مروحة " و " مقعد الزوار " و " ابرة الخياطة " و" التلفون " . ولا تنتمي قصيدة " وردة للناصرة " إلى هذه ، وإنما هي تذكرنا بقصائد " العودة الى كربلاء " و " حكاية الولد الفلسطيني " وقصائده ذات النزعة الغنائية . وهنا أصل الى ما أريد قوله ، ولعلني أختلف مع الشاعر ، وإن كنت أثمن رأيه وأحترم نزعته الليبرالية حين كتب :
" وأذكر عنواناً لمقالة ساخرة كتبها شهيدنا غسان كنفاني " كيف تفسد قصيدة ناجحة؟ " فأخشى أن يكون جوابي عن هذا السؤال الهام " كيف تبني قصيدة ؟ " هو: كيف تهدم قصيدة ناجحة ؟ .. لست سعيداً بذلك ، ولكنني أحاول ، أتعلم وأتألم .. إنها مشكلتي أولا وأخيراً ، ولن أتوب . " ( الكرمل ، 61، 224) .
هنا أصل الى ما أريد قوله ، وهذا ايضاً اجتهاد شخصي ، ولكنه اجتهاد مبني على تجربة أفدتها من خلال تدريسي في الجامعة ، أن القصائد التي تفاعلنا معها ، أنا وأيضا طلاب الجامعة ، هي تلك التي حافظ فيها الشعر على علاقته بالجمهور ، أعني تلك التي كان فيها تعبير عن هم مشترك بينه وبين الآخرين ، تلك التي كتبها وقد حرك موضوع إنساني مشاعره ، لا تلك التي كتبها وهو يتأمل الأشياء ويفلسف الظواهر ، وإذا كانت هذه الأخيرة قابلة لأن تدرس أيضاً ، إلا أنها لن تدرس بالطريقة نفسها التي تدرس بها أشعاره ذات الطابع الغنائي والموضوع العام الإنساني، اللهم إلا اذا أردنا أن نسير على خطى البنيويين الذين يدرسون النص – أي نص – دراسة عقلية لا أثر للعواطف عليها ، البنيويين الذين تتساوى لديهم النصوص ، جيدها ورديئها ، هؤلاء الذين لا يلتفتون الى المؤلف والظرف الخارجي : سياسياً واجتماعياً واقتصادياً ، ولا يبحثون سوى عن الثنائيات ، ثنائيات المعنى والنحو والجملة .. الخ.
" وردة للناصرة " قصيدة من قصائد أحمد دحبور التي الفناها وأعجبنا بها ، ورددناها ، ولا أنكر شخصياً أنني قرأت هذه القصيدة مراراً ، تماماً كما قرأت " العودة الى كربلاء " مراراً ، وكما وجدت نفسي ، ذات يوم ، أدرس نص " العودة الى كربلاء " و " مسافر مقيم " أجد نفسي ترشح " وردة للناصرة " لأن تدرس في مساقات " المدخل الى تذوق النص الأدبي " و "الاد ب الفلسطيني " و " الأدب العربي الحديث " .
وبعد ،
فحين قرأت قصائد أحمد دحبور الأخيرة ، تلك التي نشرها على صفحات مجلة الشعراء، وتحديداً في العدد السادس ، وجدت نفسي أكتب عنواناً لمقالة أخاطب فيها الشاعر : يا صديقي أحمد ، ابقَ على ما كنت عليه ، ولكنني لا أستطيع أن أكون ديكتاتوراً ، ولذلك تراجعت عن المقالة ، تاركاً الشاعر يجرب ويتعلم ويحل مشكلته بذاته ، وليس لي الا أن أواصل قراءته ، وأتعلم من تجربته وأبدي رأيي فيها ، وإن كنت ، حتى هذه اللحظة أرغب في ابداء رأي في قصيدته " حيثيات الهرم المقلوب " ( الشعراء ، خريف ، 1999، عدد 6 ) .
لقد أعادتني القصيدة الى قصائد علي الخليلي ، وبخاصة تلك التي ظهرت في مجموعة " القرابين إخوتي " ، والى موقف القراء منها وشكواهم من أنها ليست شعراً . هل أقول هذا للصديق الشاعر ؟ ها أنني قلته ، وإن كنت لاحظت فيها ميول الشاعر للسخرية ، وهذا شيء لافت للنظر في اشعاره الجديدة ، وبخاصة في هذه القصيدة ، وإن كنت ادرك أن الشاعر قال ، فيما كتب ، إن القصيدة الجديد ة تقرأ أكثر مما تسمع ، وهذا رأي يحترم ، وإن كنا مازلنا نحب ان نصغي الى الشعر أيضا ، وإن كنا نقرأه أكثر .

****

2- أحمد دحبور: في التلقي النقدي

على الرغم من أن دارسين كثرا يقرون بشاعرية أحمد دحبور إلا أنه لم يحظ بدراسات تليق بشاعريته ، وإذا ما قارن المرء ما أنجز عنه من دراسات بما أنجز عن مجايليه مثل محمود درويش وسميح القاسم وعز الدين المناصرة ومريد البرغوثي، فإن المرء يلحظ فارقا واضحا يدفعه إلى التساؤل عن السبب أو الأسباب ، وإلى الإقرار بأن النقاد والدارسين قد ظلموا الشاعر .وفي بعض الدراسات والمقالات التي أنجزت عن الشاعر واشعاره ، في حياته ومماته ، آراء حول تلقي الشاعر نقديا ،بعضها يأتي على السبب.
وتبدو هذه الآراء في مقال للناقد العراقي علي جعفر العلاق ، فهذا يرى أن الشاعر لم يكن يحرص على الرافعة الإعلامية: "كانت الموهبة وحدها لا تكفي في ربوعنا العربية ،لا بد من شللية منافقة ،لا بد من قبيلة محاربة ، ولا بد من أكف يدميها تصفيق قد لا يخرج من القلب كله. " يكتب العلاق ويتابع: "من المؤكد أن أحمد دحبور لم يعش تجربة النجومية التي عاشها غيره دون وجه حق أحيانا ، إلا أنه قدم براهينه الكاملة ، تناغم شعري وانساني قل نظيره ، في مشهد لا يخلو من الشعوذات الشعرية والمهرجين . ".
الشاعرية وحدها لا تكفي ، وتواضع شخص الشاعر لا يوصل شعره ، فلا بد من شللية ولا بد من رافعة إعلامية ، وأشهد أن الشاعر لم يستغل يوما منصبه في وزارة الثقافة ليطلب من النقاد أن يكتبوا عنه مقابل طباعة كتاب لهم أو مقابل أن يكتب هو عن كتبهم. كما لو أنه اكتفى بما كان يحققه له مقاله الأسبوعي، كل يوم أربعاء في جريدة الحياة الجديدة ، من شهرة وانتشار ،مقاله الذي كان القراء ينتظرونه بصبر.
في دراسة للناقد ابراهيم خليل عنوانها : " فاعلية التناص ومراوغة السائد في لغة القصيدة " ( 2013 ) أعاد نشرها في كتابه " حاضر الشعر وتحولات القصيدة " ( 2015 ) يشير خليل إلى قلة الدراسات عن شعر أحمد دحبور " على الرغم من وفرة أشعاره ، وغزارة آثاره " ، ولم يكتف الناقد بالكتابة عن قلة الدراسات ، فقد لجأ إلى إصدار حكم عليها فقسم منها " لا يؤبه له ولا يعتد به " ولاحظ الناقد أن أشعار الشاعر درست في دراسات تناولت الشعر الفلسطيني " سواء في زاوية الجماليات ، أو في المقاومة ، أو الاستشهاد ، أو التناص الديني ، والأدبي ،و الأسطوري ، وما إلى ذلك من لفتات اضطر إليها الدارسون بحكم الشمول الذي تتسم به دراساتهم ....... وإزاء هذا الوضع هو أقرب إلى التعتيم والإهمال " ويرى الناقد أن أحمد دحبور يستحق الالتفات إليه مجددا " لا سيما وأنه حظي في الشهر الفائت من العام الجاري 2012 بوسام الاستحقاق من الإدارة الفلسطينية برام الله " .
ما لاحظه ابراهيم خليل لاحظته الدارسة فاتنة محمد حسين في بحثها " المرجعيات الموروثة في الشعر الفلسطيني الحديث : أحمد دحبور نموذجا " .( موقع مجلة حروف ، مؤسسة السياب ، لندن - تاريخ المشاهدة 22 / 6 / 2017 ) . كتبت فاتنة : " انطلاقا من هذه الرؤية تحاول هذه الورقة البحثية إماطة اللثام عن بعض المرجعيات الموروثة التي استندت القصيدة العربية في فلسطين إلى كثير من معطياتها ، من خلال الوقوف عند أحمد دحبور وهو واحد من شعرائها البارزين الذين لم يكن لشعرهم نصيب وافر من الدراسات النقدية " .
وفي أثناء البحث عن دراسات تناولت الشاعر وأشعاره عثرت على رسالتي ماجستير أنجزتا عن صلة شعره بالتراث ؛ واحدة أنجزتها بنان صلاح الدين ( 2003 ) والثانية أنجزتها ديانا شطناوي ( 2005 ) ، ولعل أكثر ما كتب عن شعر الشاعر تمحور حول هذا الجانب - أعني صلة شعره بالتراث .
كان محمد حور أول من كتب دراسة عن " ثقافة أحمد دحبور من شعره " ( 1998 ) " فلسطين في شعر الجواهري و قراءات في الأدب الحديث " (ص127- ص189 ) وتخلو قائمة مراجعها من أية دراسة عن شعر الشاعر ، ما يعني أنها تعد من أوائل الدراسات التي كتبت ، وما يعني أنها شكلت مدخلا لرسالتي الماجستير والدراسات اللاحقة التي ركزت على تأثر الشاعر بالموروث .
وأكثر الدراسات التي كتبت لاحقا تخوض في الجانب نفسه ، وهي تقارب صلة دحبور بالتراث ، وإن كتبت تحت عناوين مختلفة ربما للتضليل - أي للقول إنها تخوض في جانب من شعر دحبور لم يخض فيه من قبل .
الدراسات التي توفرت لي هي دراسة محمد حور ودراسة ابراهيم خليل ودراسة عمر عتيق " نبض السيرة الذاتية في شعر أحمد دحبور وتقنية التناص " ( 2013 موسوعة أبحاث ودراسات في الأدب الفلسطيني الحديث ، الأدب الفلسطيني في الضفة والقطاع والشتات ، الكتاب الثالث ، ص 53 - ص90 ) ودراسة محمد مصطفى كلاب وأسامة عزت أبو سلطان " تجليات التناص في شعر أحمد دحبور " ( 2015 مجلة الجامعة الاسلامية للبحوث الإنسانية / غزة ص1 - ص22 ) ودراسة فاتنة محمد حسين ( 2016 ) وأخيرا دراسة نادر قاسم " جدلية العلاقة بين الشاعر والموروث الشعري - الصوت والصدى : أحمد دحبور نموذجا " ( 2016، مجلة رؤية فكرية والدراسة مجازة ولما تنشر ).
وكما أشرت إنها دراسات تتشابه في الموضوع وإن اختلفت جزئيا في المعالجة ،حسب فهم الدارس لمصطلح التناص أو حسب تركيزه على عمل أكثر من تركيز دارس آخر عليه، وبعض هذه الدراسات تكرار لسابقاتها ولا جديد فيها إلا في اختلاف العنوان تقريبا .
وبعد
ماذا يضيف كتابي هذا ؟
يضم هذا الكتاب دراسات ومقالات أنجزت خلال 20 عاما بالتمام والكمال ،نشر قسم منها في العام 1997 وأنا أدرس الأدب الذي أنجز بعد اتفاقية أوسلو وكان لأشعار أحمد دحبور نصيب من الدراسات ، ثم حللت بعض قصائد الشاعر التي عبرت عن خيبته نتيجة لقائه بمدن فلسطين المحتلة في 1948 ، وتوقفت أمام بناء القصيدة في أشعار الشاعر التي انقطعت عنها 17 عاما ، وكنت زرت الشاعر بعد العام 2011 غير زيارة وحاورته غير حوار ودونت انطباعات عن الزيارة والحوار نشرتها على صفحات الفيس بوك ،ولما ارتقى الشاعر وجدتني أعيد قراءته من جديد ،بل وأعيد قراءة ما كتب عنه وما كتبه هو عن تجربته وسيرته وقرأت أيضا المقابلات التي أجريت معه ووجدتني أكتب سلسلة مقالات بطريقة شبه منهجية لتصدر في كتاب.
يتكون الكتاب من خمسة أقسام ،يضم الأول الدراسات والمقالات التي كتبت في 1997 و 2000 وبعض المقالات التي كتبت حديثا وهي تتمحور حول صدمة العودة إثر اتفاقات أوسلو وشعور الشاعر بالخيبة مما أنجز ، ويتكون القسم الثاني من مقالات ترسم صورة شخصية للشاعر وعائلته من خلال قصائده ، ويضم القسم الثالث كتابات تبرز علاقة الخاص بالعام في سيرة الشاعر الشعرية ، وخصصت القسم الرابع لمقالات عالجت جوانب فنية ، وأما القسم الخامس فهو يتكون من انطباعات عن زيارة قمت بها إلى الشاعر في أثناء مرضه حاورته فيها عن الشعر والشعراء والأدب وسيرته الشعرية وما شابه.
هل سيعد هذا الكتاب مدخلا لانصاف الشاعر ؟
لعلها بادرة وخطوة للفت الانتباه إلى شاعرية شاعر عاش في زمن الشاعر محمود درويش الذي طغى على غيره . لعل!!!

ا . د . عادل الاسطة


****

3- أحمد دحبور .. مجنون حيفا

في الثامن من نيسان (أبريل) 2017 رحل الشاعر أحمد دحبور.
ولد الشاعر في مدينة حيفا الفلسطينية في نيسان 1946، في الحادي والعشرين منه. أهي مصادفة أن يغلق دورة حياته في الشهر نفسه. كما لو أنه قصيدة دائرية. بدأ بنيسان وانتهى به، فكان نيسان أقسى الشهور كما كتب ت. س. إليوت في قصيدته “الأرض الخراب”.
لما وقعت النكبة كان أحمد دحبور في العام الثاني من عمره، ولم ير مدينته التي ولد فيها إلا عام 1994، يوم عاد إلى فلسطين- تحديدا إلى قطاع غزة- إثر اتفاقات أوسلو.
عبر أحمد عن ولادته وزيارته في قصيدة عنوانها “وردة للناصرة ” نشرها في ديوانه “هنا.. هناك ” 1997؛ قصيدة التحمت فيها التجربة الذاتية مع التجربة العامة. يقول: “كنت ملفوفا بعامين من الكرمل والنسناس،/ حين انفجرت، في شجر الكينا، الرياح الأربع/ ما الذي كان أبي يخشاه حتى ارتكبت أخطاؤه فعل السنونو/ ليته قال: اذبحوا طفلي،/ ولم يرحل”.
حيفا التي ولد فيها ستظل مدينته الأولى، على الرغم من أنه لم يقم فيها سوى عامين اثنين لم يع الحياة فيهما على الإطلاق. وحين زار الشاعر، بعد 1994، حيفا كتب فيها قصائد تعد، من وجهة نظري، من أجمل ما كتب. والطريف أن الدارس حين يمعن النظر في عناوين مجموعاته الشعرية، بل في عناوين قصائده، لا يلحظ ورود اسم المدينة فيها. ما يلحظه المرء عن حيفا هو ما كتبه في مقدمة أعماله الشعرية الكاملة التي صدرت عن دار العودة في بيروت عام 1983.
أتى أحمد في المقدمة على ذكر أمه وتأثيرها في حياته وحديثها الدائم عن حيفا. كانت حيفا، للأم وهي في المنفى، هي الجنة. وربما لا يستغرب هذا الوصف للمدينة من أقام في مخيمات اللاجئين وفي بيوت الصفيح فيها، ومن قبل بيوت الصفيح في الخيام. بيوت الصفيح التي تعد الآن جهنم، وهي البيوت التي تغنى فيها الشاعر، في شبابه، لا لجمالها وهدوء الحياة فيها، وإنما لأنها غدت تمد الثورة بأبنائها:
“اسمع- أبيت اللعن- راوية المخيم
افتح له عينيك وافهم
ـ هذي الصفائح والخرائب والبيوت
فيها كبرت بها كبرت وفوضتني عن جهنم”.
علينا ونحن نقرأ الأسطر الشعرية السابقة ألا ننسى اللحظة الزمنية التي كتبت فيها، أي شرطها التاريخي، حتى لا يظنن ظان أن الشاعر وشعبه يعشقون حياة اللجوء وبيوت الصفيح. سينتظر أحمد دحبور ثلاثين عاما أنفق أكثرها في المنافي: مخيم حمص وعمان ودمشق وتونس حتى يدرك “أن للاشيء في تربته معنى ونعتا” كما كتب في قصيدته “وردة للناصرة ” التي ظهرت في ديوانه “هنا.. هناك ” وقد كتبها بعد زيارته الناصرة.
كانت والدة الشاعر، وهو في المخيم، تقول له الكثير عن حيفا. “كانت أمي تدلك قدمي، وتحكي لي عن البحر الذي جلبته لي خصيصا من حيفا، وكنت أراها بأم عيني، تنشر البحر خلف منجرة المخيم فأسبح فيه وأغتسل، وأسمح لأترابي بالمشاركة… اللهم إلا الأشقياء منهم، وفي الليل تقفل أمي البحر، وترسله في الحنطور إلى حيفا.. وحيفا هذه ليست مدينة، إنها الجنة، ومن لا يصدق فليسأل أمي”. وسيرى الشاعر حيفا دائما خضراء، وثياب الناس فيها ليست سميكة في الشتاء. وسيطلب من أمه أن تأخذه إلى حيفا، وستجيبه: “غدا تكبر، يا حبيبي، وتأخذني أنت إليها”. وحين يكبر الطفل ويزور حيفا يكتب قصيدة “مسافر مقيم” ويتذكر كلام أمه:
“لسنا من هنا “
“وأجمل الدنيا هناك “
هذا هو كلام أمه وقد وضعه في القصيدة بين مزدوجتين.
في تتبعي لعناوين مجموعات الشاعر حتى عام 2004 لاحظت خلوها من اسم المدينة، ولاحظت أيضا خلو عناوين القصائد نفسها من هذا الدال. ولقد ذهبت إلى ما هو أكثر من ذلك. لم يهد الشاعر أيا من دواوينه إلى حيفا، والديوان الوحيد الذي لم تخل منه النصوص الموازية من اسم حيفا هو الأعمال الكاملة وديوان “هنا.. هناك”. في الأعمال الكاملة، كما لاحظنا، أتى على ذكر أمه له عن حيفا في نظرها، وفي ديوان “هنا.. هناك” سيختار الشاعر أسطرا شعرية في المدينة/ حيفا كتبها الشاعر راشد حسين (1936 ـ 1977)، والأسطر هي:
“قالوا: أنت مجنون ولن يشفى
أمامك جنة الدنيا
ولست ترى سوى حيفا”
وكان راشد كتبها وهو في نيويورك، بعد أن غادر فلسطين، وتشرد في المنافي وطلب العلاج في نيويورك.
ويمكن القول إن المرء إذا ما تتبع قصائد أحمد دحبور في حيفا قبل عام 1994، سيلحظ أنه لم يكن لحيفا هذا الحضور الطاغي أو اللافت. هنا يثير المرء أسئلة عديدة عن سبب عدم الحضور الطاغي. أيعود السبب إلى أن الشاعر لا يكتب إلا عن تجربة معيشة وأماكن يعرفها جيدا، أماكن يراها يوميا ويعرف شوارعها وناسها. وأغلب الأماكن التي كتب عنها ـ قبل أن يعود ويخص حيفا بقصائد ـ هي حمص وعمان ودمشق والقاهرة وتونس، وهي مدن عرفها وأقام فيها أو زارها، وحين كتب عن فلسطين كتب عنها ككل، تماما كما أنه كتب عن المخيم الفلسطيني الذي كان يقيم فيه. وليس غريبا أن نعثر على دال فلسطين ودال المخيم كثيرا في أشعاره وفي عناوين قصائده.
هنا يصل المرء إلى النتيجة التالية: إذا ما أردت أن تبحث عن حيفا في شعر أحمد دحبور فما عليك إلا أن تبحث عنها في ديوان “هنا.. هناك “، الديوان الذي جمع فيه القصائد التي كتبها بعد عودته إلى الجزء المتاح له من فلسطين وزيارته من ثم مدينته مدينة حيفا.
عاد الشاعر من المنفى وزار الناصرة ليلتقي بالشاعر توفيق زياد. زارها بعد أن “عزفت في الروح جن”. كان أحمد دحبور يحنو على أرضه ولا يدري إلى ماذا يحن، فقد كان به شوق إلى مرتفع من ضلع فلسطين، وعرف أن الآخرين يلومونه حين يذكر اسم مدينته- يقصد الإسرائيليين- وهذا شيء ولد لديه أسئلة خارقة:
“رب حيفا أنجبتني
فلماذا إن رفعت الصوت: “يا حيفا” تنزلت إلى وادي الملامة؟
أنها إصبع هذا البر
تدلي بشهادات عن البحر
ولكن ليس لي من ظفرها حتى قلامة”.
كان أحمد دحبور يعرف جيدا أنه يسمح له بزيارة حيفا، لا بالعودة إليها والإقامة فيها، فقد غدت في نظر الإسرائيليين، مدينة تخصهم. وكان هو الذي اخترع عبارة دالة ظل يكررها في مقالاته وحواراته، حين يأتي على اتفاقية أوسلو: “الجزء المتاح لنا من الوطن”. لقد أيقن أنه لم يعد إلى حيفا إلا زائرا، ومع أنه زارها إلا أنه لم يجدها، رغم أنه لامسها:
“”خذ يدي، يا ولدي، واقرأ ينبئك جرح:
إنني أقرأ باللمس
لماذا لم أجد حيفا وقد لامستها؟”.
ما أدركه الشاعر من خلال تجربته يتمثل في أن أكبر خطأ ارتكبه الفلسطينيون في عام 1948 هو أنهم خرجوا من مدنهم وقراهم. لقد كان عليهم ألا يخرجوا حتى لو ذبحوا. (كان إميل حبيبي توصل إلى هذا وظل في حيفا وكانت وصيته أن يكتبوا على شاهد قبره “باق في حيفا”، وهذا ما كان له).
في قصيدته “مسافر مقيم” يكتب أحمد دحبور هذا. يسترجع ما جرى عام 1948:
“”كان الدرك الأسفل، من نار السعير، صرخة:
“”لا تخرجوا “
والموج كان ينسج الجنون،
تنشج النساء،
والرجال كالنساء، ينشجون،
يثلج الشتاء
يلهج الصدى “
“لا تخرجوا”
“”لا تخرجوا”.
وخرج الفلسطينيون يطلبون النجاة، فهل كانت النجاة في الخروج؟ وما ذنب الطفل إن رأى أبوه النجاة مخرجا؟ وهل نجا أحمد حقا أم أنه عاش اللجوء والطرد والشتات؟
“حيفا هي الجنة، ومن لا يصدق فليسأل أمي”. كتب الشاعر، كما رأينا، في مقدمة أعماله الشعرية الكاملة 1983، وفي 1994 سيكرر كلام أمه في القصيدة التي جادت بها قريحته يوم زار حيفا:
“”حيفا هي الجنون
حيفا هي الفقدان والرجاء “
وقد خبأ جنون الوعد للقيا، ولكن هل سيكفيه، يوم يلتقي بمدينته، هل سيكفيه الجنون؟ كما لو أنه آدم وقد خرج من الجنة. إن حيفا هي جنته، وعودته إليها هي العودة إلى الفردوس المفقود، ففيها- وفيها وحدها- سيجد الأمان. ودون العودة سيظل:
“تخرج من مكيدة تدخل في مكيدة
تخبه الدوار والحمى
جحيمك الفقدان
فردوسك الرجوع والأمان”
“المنفى هو الجحيم، وإن لم يكن المنفى هو الجحيم، فما الجحيم؟” يقول الشاعر. هل أخطأ أحمد شوقي حين قال:
وطني لو شغلت، بالخلد، عنه
نازعتني إليه في الخلد، نفسي
وهل أخطأ ناظم حكمت حين صرخ: “أدخلوا الشاعر إلى الجنة، فصاح يا وطني”؟
في نهاية “مسافر مقيم ” يثير أحمد دحبور السؤال التالي:
“هل عدت؟ كيف؟ “
ويجيب:
“ليس في حيفا لمثلي الآن من ميناء “
ويواصل أسئلته.
جاء الشاعر إلى حيفا يحمل جبل الكرمل في قلبه ولكن: “كلما دنا بعد” وحين رأى الشاعر المدينة أدرك المأساة، وعرف أن حيفا التي نشدها غير حيفا التي يرى. هل رأى حيفا أم أنه رأى قرينة لها تغار من عينيها؟ إنها الحسرة.
“وكيف جئت أحمل الكرمل في قلبي،
ولكن كلما دنا بعد؟
حيفا أهذي هي؟
أم قرينة تغار من عينيها؟
لعلها مأخوذة بحسرتي،
حسرتها علي أم يا حسرتي عليها؟
وصلتها ولم أعد إليها
وصلتها ولم أعد إليها
وصلتها ولم أعد…”
والمرء يقرأ ما كتبه أحمد دحبور عن حيفا وعودته إليها يتذكر بدر شاكر السياب وقصيدته “غريب على الخليج”. وأظن أن قصائد أحمد دحبور عن حيفا وفيها لا تقل جمالا وصدقا عن قصيدتي السياب؛ المذكورة و”أنشودة المطر”. كما لو أن روح السياب حلت في روح أحمد دحبور وهو يكتب عن حيفا.

مايو 23, 2017
*د. عادل الأسطة

****

4- أحمد دحبور: قالت رحاب

قبل أعوام تتبّعت إهداءات الروائي الجزائري الطاهر وطار والشاعر الفلسطيني محمود درويش. لمن كان الكاتبان يهديان كتبهما؟ وهل اختلف الإهداء من فترة إلى فترة؟ (في ذكرى رحيلهما: أبي وأمي.. ووطار ودرويش، تموز 2013).
وأنا أُمعن النظر في عناوين مجموعات الشاعر أحمد دحبور خطر ببالي أيضاً أن أتتبّع هذه الظاهرة لديه. لمن كان الشاعر يهدي مجموعاته هو الذي اختار عبارة «جيل الذبيحة» عنواناً لإحدى مجموعاته (1999).
ولد أحمد دحبور في حيفا في 21/4/1946، وعاش في مخيم حمص، والتحق بعد العام 1967 بالمقاومة الفلسطينية، فقدم إلى الأردن، ثم غادرها في العام 1970، وظل في الشام قريباً من منظمة التحرير الفلسطينية، ليغادر الشام بعد خريف 1982 إلى تونس، حيث استقر فيها حتى تاريخ عودته إلى الجزء المتاح له من فلسطين.
ما سبق يعني أن الشاعر وعى النكبة، وعاش المدّ الثوري، وتأثّر بالخروج الفلسطيني من بيروت، فخرج من الشام، ثم عاد بعد اتفاقيات (أوسلو) إلى غزة. نكبة فنكسة فثورة فمعاهدة سلام فانقلاب فلسطيني فلسطيني في العام 2007، ثم على إثره غادر غزة إلى حمص ثانية، وما إن بدأت أحداث سورية في 2011 حتى عاد إلى رام الله.
من المؤكد أن هذا الجيل، جيل أحمد دحبور، هو جيل الذبيحة. إنه الجيل الذي ولد في النكبات وعاش حياتها، الجيل الذي عاش الثورة وانضم إليها وغدا جزءاً منها، وسار مجبراً على طرق وعرة. الجيل الذي حلم بالعودة إلى مدينته الأولى ليقيم فيها لا ليزورها وحسب. هل كان هذا الجيل، أيام المد الناصري، يتوقع أن يصل إلى ما وصل إليه؟
جيل أحمد دحبور هو الجيل الذي اندغم في الهمّ العام، وما كان ينظر إلى القضايا الشخصية، فكل شيء مسخر لقضية عامة هي قضية فلسطين، فلسطين الهوى، كما يقول عنوان إحدى قصائده. هل تعكس الثورة الفلسطينية في صعودها وهبوطها ما تقوله إهداءات دواوين أحمد دحبور؟
ربما أحتاج عاماً كاملاً أدرس فيه أشعار الشاعر وحدها حتى أصل إلى
خلاصة أصدر فيها أحكاماً أطمئن إليها. ربما، فالأمر لا يتعلق فقط بالإهداءات التي تظهر في صفحات الديوان الأولى، وإنما يتعلق أيضاً بالقصائد كلها. لمن كان الشاعر يهديها، وما علاقته بهؤلاء؟ وماذا تقول القصيدة أيضاً؟
نظرت في طبعة الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر (بيروت، دار العودة، 1983) وتوقفت أمام الإهداءات في الصفحات الأولى، ولاحظت أن أول أربع مجموعات وهي: الضواري وعيون الأطفال (1964) وحكاية الولد الفلسطيني (1971) وطائر الوحدات (1973) وبغير هذا جئت (1977) تخلو من أي إهداء، خلافاً لكثير من قصائدها، وأما الديوانان الخامس وهو اختلاط الليل والنهار (1979) وواحد وعشرون بحراً (1980) فقد أهداهما إلى «إلى أم مصطفى.. أمي ومعلمتي الأولى» و»إلى رحاب ويسار»، إلى أمه وإلى زوجته وابنه، وأما ديوانه السابع وهو شهادة بالأصابع الخمس (1982) فلم يظهر فيه إهداء.
في العام 1990 يصدر الشاعر ديوانه «هكذا» ويهديه إلى معلمه موريس قبق، وفي العام 1992 يصدر ديوانه «كسور عشرية» ويهديه «إلى ثكنة خالد بن الوليد.. مخيم أهلي في حمص، وإلى حمص مدينتي الثانية، وحي يصدر، في فلسطين، ديوانه العاشر «هنا.. هناك» يصدره بأشعار راشد حسين: «فقالوا: أنت مجنون/ ولن تشفى/ أمامك جنة الدنيا/ ولست ترى سوى حيفا».
الإهداء اللافت الذي يعبر عن وجع بارز وعن إنفاق الشاعر عمره في خدمة القضية العامة لدرجة نسيان أهله هو الإهداء الذي ظهر في ديوان «جيل الذبيحة» (1999). إنه إهداء يختصر حكاية هذا الجيل، بخاصة من سار في طريق الثورة مثل أحمد دحبور. نص الإهداء هو:
«إلى ذكرى أختي زينب/ إلى ذكرى أخي محمد. جاءني نبأ رحيله فور انتهائي من تصحيح آخر كلمة في هذا الكتاب./ لقد خطفتني التغريبة الفلسطينية من بين أهلي. ست عشرة سنة حتى الآن، لم أرَ خلالها، أياً منهما، مرة واحدة.. (غزة 24/2/1999). هذا يعني منذ 1983 حيث ترك الشاعر سورية والتحق بالمنظمة في تونس، وكان عليه أن يدفع ثمناً ما.
يعيد الإهداء السابق قارئ أشعار أحمد دحبور إلى قصيدة صدر بها ديوانه «واحد وعشرون بحراً» الذي أهداه إلى «رحاب ويسار». زوجته وابنه. عنوان القصيدة هو: «البيت» وتبدأ بالتالي: «قالت رحاب: أما كتبت قصيدة عنا؟/ وكنا عائدين من القصيدة،/ فالتمست بداية»، وكان قبل كتابة هذه القصيدة بسبع سنوات كتب قصيدة عنوانها «ولادة المرأة الصعبة» أتى فيها على ولادة رحاب ابنهما يسار.
إن سؤال رحاب زوجها هو المهم: أما كتبت قصيدة عنّا؟ وكانا عائدين من القصيدة، ومعهما يسار. لم تفصح القصيدة كثيراً عن المكان الذي كانوا فيه وعادوا منه، ولكن يُخيّل إليّ أنه مكان ألقى فيه الشاعر قصائده الوطنية، وأن زوجته لاحظت أنه لم يقرأ قصائد ذاتية تأتي على علاقته بزوجته، فسألته طالبة منه أن يخصهما، هي ويسار، بقصيدة، وكانت القصيدة، ولكن ما هو أهم من القصيدة هو القضية التي تثيرها ويثيرها سؤال رحاب: أما كتبت قصيدة عنّا؟
ينهي أحمد دحبور قصيدته «قهوة بأجيال جديدة» بالأسطر التالية: «أنا الذي لم يولد كما يريد/ أنا الممسوس بنسيان القهوة حتى تبرد/ أنا الذي أحتفظ بالسر في المرآة/ أعلن أني رأيت أبناء جيلي في الشارع/ ولكن كيف لي أن أثبت هذه الواقعة؟». يبدو أنني سأعود للشاعر مرّة ثالثة.

عادل الأسطة
2017-04-23

****

5- أحمد دحبور وراوية المخيم

أحببت شعر أحمد دحبور قبل أن ألتقي به بعشرين عاما. التقيت به أول مرة في مكتبة بلدية نابلس، في العام 1997، حيث قدم من غزة لإحياء أمسية شعرية في حديقة المكتبة، في الهواء الطلق. كان يحمل في حقيبته مخطوطات ثلاثة كتب لي كنت أرسلتها من نابلس إلى غزة مع ابنة عمي لتعطيها للقاص والروائي غريب عسقلاني ليصدر لي كتاباً، من غزة، عن وزارة الثقافة في السلطة الفلسطينية.

سيلقي الشاعر قصائده عن ظهر قلب. كان الإلقاء لافتاً ولسوف أسأله: كيف تحفظ قصائدك وتلقيها هكذا؟ أجابني: لكثرة ما ألقيتها في المنافي؛ في المخيمات وفي التجمعات الفلسطينية.

قصائد الشاعر أحمد دحبور الأولى، قبل أن يلجأ إلى التجريب، كانت قصائد ذات نزعة غنائية وينطبق عليها قول الشاعر القديم:

تغن بالشعر أما كنت قائله
إن الغناء لهذا الشعر مضمار.

لم يكن أحمد دحبور بدأ يجرب ويكتب قصائد تميل إلى المحاججة ويغلب عليها الطابع العقلي. كان الجو صيفاً وكان يصطحبه نزيه خطاطبة الذي يحمل الدكتوراه ويدير مكتب الثقافة في نابلس. كلما زار الشاعر نابلس التقينا. قبل أن ألتقي به التقيت بشعره.

في نهاية ثمانينيات القرن الماضي أخذت أقرأ مجلة "الجديد" الصادرة في حيفا- المدينة التي ولد فيها وغادرها وعمره عامان- وكانت "الجديد" تنشر بعض قصائده. من "الجديد" قرأت "العودة إلى كربلاء " وسحرتني الغنائية العالية فيها.

حين تحدثت والمرحوم الشاعر علي الخليلي عن غنائية أحمد دحبور قال لي: حين يريدون إغاظة محمود درويش يذكرون اسم أحمد دحبور وشعره. كانت غنائية قصائد الشاعرين في أوجها، وكان أحمد من شعراء الثورة الفلسطينية في الخارج.

في "العودة إلى كربلاء" وفي "حكاية الولد الفلسطيني" كتب عن راوية المخيم الذي يقف في مواجهة دنانير الدخيل/النخيل، وكانت عين المخيم فيه لا تخطئ، كما ورد في "العودة إلى كربلاء".

سحرتني القصيدة ولما كنت أدرّس في مدارس الأونروا وأشارك بفعالية في النشاط الأدبي لطلاب المدارس، فقد اخترتها لتكون إحدى قصائد المسابقة على مستوى مدارس اللاجئين.

في قصيدة ثانية سأكرر:

"-اسمع ابيت اللعن راوية المخيم
افتح له عينيك وافهم
- هذي الصفائح والخرائب والبيوت
فيها كبرت بها كبرت وفوضتني عن جهنم"

سيتكرر اللقاء. كان أحمد دحبور مقرباً من الرئيس ياسر عرفات، وكلما أقيم حفل توزيع جوائز فلسطين في نابلس، تحت رعاية الرئيس، كان أحمد يحضر، وكان أبو عمار يستشيره في أمور عديدة ونادراً ما رد له طلباً، ولذلك حين كان يريد طباعة كتب كان يذهب إلى الرئيس مباشرة، إن تعثرت الوزارة في طباعتها.

ومع أنني كنت كاتباً أكتب ضد أوسلو إلا أن هذا لم يحل دون لقائنا.

كان مساء يأتي ونزيه خطاطبة إلى بيتي ونتحاور في الأدب وفي أوسلو، وهو الذي طبع كتابي "أدب المقاومة من تفاؤل البدايات إلى خيبة النهايات" (1998). كتب للكتاب مقدمة اختلف فيها معي ورأى أنني أقرأ المغني قبل أن أقرأ الأغنية وأنني أتزيد في الحديث عن شخصية الكاتب والشاعر وكنت بدوري أستغرب منه كونه شاعر مقاومة يسارية. (سيخبرني مرة أنه سئل عن طباعة كتابين أحدهما كتابي: كيف طبعته؟).

سنختلف في قضايا أدبية وسيتم الخلاف على صفحات الجرائد، ولكن هذا لم يفسد للود قضية، ولطالما أشاد بخلافنا وعدّه خلافاً بناء. نختلف ونلتقي ونتصافح ونتحاور من جديد، وحين أزوره وأشعر أنني أثقل عليه في جلستي -أحياناً تستمر الزيارة ثلاث أو أربع ساعات- كان يقول لي: أنت تتحدث معي في أشياء محببة على قلبي.

إنه شاعر مثقف ويعرف المرء سعة اطلاعه من خلال مقالاته التي كان ينشرها في مجلة "الأفق" في قبرص -آمل أن يكون اسم المجلة صحيحاً- ومن خلال مقاله الأسبوعي في جريدة "الحياة الجديدة" تحت عنوان "عيد الأربعاء" أو "دمعة الأربعاء".

مرة سألني في نابلس: من أين تشتري كتبك؟ أخذته إلى مكتبة الرسالة فانتقى منها مجموعة من الكتب وقال لصاحبها: احسب لي مرابحي، ولم يقل: خسائري، فابتسمت.

كان أحمد دحبور يشيد بياسر عرفات وإغداقه على الكتّاب الفلسطينيين، ولطالما فاخر بكرم عرفات معهم. (هنا قد يعترض بعض الكتاب وتكون له وجهة نظر مختلفة).

مرة زارني في رمضان وأردت أن أعد لي وله وجبة غداء فاعتذر وقال لي إنه صائم. ولما استغربت أوضح لي أن الصيام لدى عائلته ضرب من الفولكلور. كان أبوه يغسل الموتى ويصلي ويصوم، وأحمد هو القائل:

"اسمي أحمد
وأبي من يغسل موتاكم."

ولا تبدو ثقافته في مقالاته وحسب، فالمحاضرات التي كان يلقيها في الندوات والمؤتمرات كانت تعكس ثقافة واسعة وتصدر عن اطلاع كبير. مرة شاركنا معاً، في جامعة النجاح الوطنية، في ندوة عن الكاتب الروسي بوشكين وتحدث عن ظهر قلب. لم يقرأ عن ورقة، وكانت المعلومات تجري على لسانه. كما لو أنه يغرف من بحر.

أحب غسان كنفاني ومحمود درويش. قال لي: منذ استشهد كنفاني أخذت على عاتقي أن أكتب، كل عام، في ذكراه. وما من عام مر إلا كتب فيه في تموز مقالاً في غسان. وكان معجباً بمحمود درويش، وما من ديوان كان يصدر لدرويش، منذ عودتهما إلى الجزء المتاح لهما من الوطن -تعبير أحمد الذي غدا علامة خاصة به- إلا كتب أحمد عنه. رأى فى أشعار محمود درويش ذهباً يرن، ولهذا استغربت مرة فيما قاله لي ولزياد خداش عن شاعرية درويش وأدونيس وطلب منا ألا نعلن رأيه. يرى أحمد في أدونيس أخطر شاعر عربي منذ المتنبي. وكان معجباً بالشاعر توفيق صايغ، شاعر قصيدة النثر.

لماذا لا تكتب سيرتك الشعرية؟ كنت أسأله وألح عليه وكنت أحاوره ومرة سجل زياد خداش بعض حوارنا. في الزيارة ما قبل الأخيرة، وكنا في بيته، بعد رحيل أم يسار المفاجيء، سألته عن أحواله، فأجاب بلهجة الإنسان اليائس: زي الزفت، ما جعل ابنه يسار يعقب: ظلك اقتل حالك. وعلى الرغم مما كان عليه إلا أنه كان يحاور في الأدب والشعر.

كانت حيفا هاجسه أبداً وكان يروي حكايات أمه له عن المدينة، وحين زارها بعد أوسلو كتب قصائد أتى فيها على حيفاه، وكانت صادرة عن قلب مثخن بالفقد والحسرة. كما لو أن راشد حسين قال مصوراً حالته وحالة أحمد دحبور:

"أتيت الطب في نيويورك أطلب منه مستشفى
قالوا: أنت مجنون ولن يشفى
أمامك جنة الدنيا
ولست ترى سوى حيفا"

وأما أحمد فكتب في "مسافر مقيم" عام 1997

"حيفا اهذي هي؟
أم قرينة تغار من عينيها؟
لعلها مأخوذة بحسرتي،
حسرتها علي أم يا حسرتي عليها؟
وصلتها ولم أعد إليها
وصلتها ولم أعد إليها
وصلتها ولم أعد..."
وها هو الآن يعود. "عائد إلى حيفا "

****

06- كشيء لا لزوم له ..

«كشيء لا لزوم له» (2004) هو آخر ما أصدره الشاعر أحمد دحبور في حياته قبل أن تصدر أعماله الشعرية الكاملة في رام الله في العام 2017. وأرى أن قصائد الشاعر منذ قصيدته «سؤال شخصي للقدس» من ديوان «هنا.. هناك» أخذت تحفل بالأسئلة كما لم تحفل بها من قبل. ولا أعرف شاعراً، ممن قرأت لهم، تحفل أشعاره بصيغة السؤال كما حفلت بها أشعار أحمد الأخيرة. هل غدا شاعر الأسئلة؟ وهل تركت هذه الصيغة أثراً سلبياً على شاعرية الشاعر؟
لا تهمني الإجابة عن السؤال الأخير بالإيجاب أو بالنفي، قدر ما يهمني قلق الشاعر الذي لم يظهر عليه إلاّ في فترة مرضه الأخيرة. كنت أزوره فيبدو لي شاعراً هادئاً، نتحاور في الأدب والشعر والنقد ولا يثور إلاّ نادراً. وحين قرأت أشعاره الأخيرة غير مرة تساءلت إن كان الظاهر لا يعكس الباطن أبداً.
كان العنوان الذي أطلقه الشاعر على الديوان الذي سبق هذا الديوان هو «جيل الذبيحة». كما لو أنه كان ديوان يرثي جيلاً كاملاً لا الشاعر وحسب، ومن يتابع إهداءات قصائد الشاعر في مجموعاته الأولى يلحظ أنه أهداها لأدباء كانوا على قيد الحياة، خلافاً لأشعاره في المجموعتين الأخيرتين حيث أهدى كثيراً من قصائده للراحلين ممّن عرفهم.
هل كان الشاعر في سنواته ما بعد العام 2000، وربما ما قبل هذا العام بقليل، يشعر أنه «كشيء لا لزوم له»؟ وهل كان تركه غزة عائداً إلى حمص المدينة التي نشأ فيها وفي مخيمها تجسيداً لشعوره العميق بما يقول له مدلول العنوان؟
ما إن حدث ما حدث في العام 2007 في غزة حتى غادرها الشاعر إلى حمص التي ما إن استقر فيها حتى بدأت أحداث سورية، فآثر العودة إلى رام الله ثانية، وكان السؤال الذي يراودني، في أثناء وجود الشاعر في حمص، هو: لماذا لم يستقر أحمد دحبور في رام الله؟
يفتح عنوان المجموعة أفق القارئ على عوالم عديدة، على نصوص أدباء فلسطينيين كثر، وعلى مقولات سياسية رأوا في الشعب الفلسطيني شعباً زائداً، هذا إذا أقرُّوا بوجوده. «لا يوجد شعب اسمه الشعب الفلسطيني» قالت (غولدا مائير) رئيسة الوزراء الإسرائيلية في 50 ق20 مرّة. وأمّا إميل حبيبي الذي تفرّغ لكتابة «المتشائل» (1974) ليرد
على وزير المعارف الإسرائيلي (ايغال آلون) الذي قال: «لو كان هناك شعب فلسطيني لكان له أدب.»، أما إميل حبيبي فقد كتب في روايته إن حياته التي عاشها في إسرائيل بعد العام 1948 كانت بفضل حمار. لو لم تصب الرصاصة الحمار لقتلت سعيد المتشائل ـ حبيبي.
ثمة رواية لرياض بيدس، وهو كاتب فلسطيني من حيفا، شفا عمرو، إن لم أخطئ عنوانها «الهامشي»، ولعلها تجسد واقع الفلسطينيين في فلسطين، حيث عوملوا مواطنين من الدرجة الثالثة. لقد عاشوا على هامش الحياة، وما زالوا، ويكفي أن تقرأ كتاب «أن تكون عربياً في إسرائيل» لتتأكد من هذا.
«كشيء لا لزوم له» يذكر بسؤال درويش في «أحد عشر كوكباً»: «من أنا بعد ليل الغريبة؟»: «كنت أمشي إلى الذات في الآخرين، وها أنذا/ أخسر الذات والآخرين. حصاني على ساحل الأطلسي اختفى/ وحصاني على ساحل المتوسط يُعدّ رمح الصليبي فيّ».
في رواية مؤنس الرزاز «اعترافات كاتم صوت» التي يأتي فيها على تجربة أبيه مع حزب البعث يقص عن الإقامة الجبرية التي فرضها الرفاق على الرفيق: ها هو المسدس. إن لم ترق لك الحياة فأطلق النار على رأسك.
وفي إحدى روايات (غابرييل غارسيا ماركيز) لا يجد الكولونيل وقد تقاعد من يكاتبه. هكذا قد يغدو المرء، في فترة ما من عمره، «كشيء لا لزوم له».
لماذا اختار أحمد دحبور عنوان القصيدة هذه عنواناً للديوان؟ ولماذا أدرجها أولاً؟ لماذا قدمها على غيرها؟ هل كان الشعور بأنه «كشيء لا لزوم له» يلازمه؟
حسرة الشاعر الأولى، بعد عودته إثر اتفاق أوسلو، كانت في أنه زار حيفا ولم يعد إليها، ومع عدم تحقيق حلم الدولة على «الجزء المتاح لنا من الوطن» ازدادت الخيبة وكبرت، ومع الانقسام الفلسطيني ـ الفلسطيني ترك ما تبقى لنا من وطن وعاد إلى المنفى. هل هذا هو ما جعله يشعر بأنه «كشيء لا لزوم له»؟
«فهل نوديت أم ناديت؟/ وهل أُقصيتْ؟/ أهذا كل ما في البيت؟/ كشيء لا لزوم له/ سهت عني الرواية، فانحذفتُ من الفصول وليس لي دور،/ ملايين الجنادب ما لها دور/ ملايين الكواكب في مدارات السديم وكلهن غياب/ فهل أنا كوكب متغرب،/ أم جندب متطلب،/ الآخرون سحاب؟».
وأنا أقرأ القصيدة توقفت أمام نهايتها. كتب أحمد دحبور عن مئات الكتب وربما راوده شعور ما بأن على الآخرين أن ينصفوه كما أنصفهم. ربما. ينهي الشاعر قصيدته بقوله: «هل كان يكفي أنني حاولت؟/ لكن الغريب أنا/ وقد أخرجت من وقتي/ ومن يدري إذا ما كان ينصفني الذي يأتي/ ولكن لن أكون هنا».

***

07- في الذكرى السنوية الرابعة لرحيل الشاعر أحمد دحبور .
أحمد دحبور : هل يهدم القصيدة أم يبنيها؟

( نشرت المادة المكثفة في جريدة الأيام الفلسطينية في 2000/6/13 وفي الاتحاد الحيفاوية في 2000/6/16 . وتم إعادة نشرها في كتاب " أحمد دحبور .. مجنون حيفا ")
يلحظ قاريء قصيدة أحمد دحبور " حيثيات الهرم المقلوب " ( مجلة الشعراء/ خريف 1999 ) انحرافا آخر عن قصائده التي كتبها في بداية 70 ق 20 . و من يقرأها ويقرأ في الوقت نفسه قصيدة " راوية المخيم " وقصيدة " العودة إلى كربلاء " ( 1971/ 1973 ) يجد الفرق واضحا . ثمة غنائية واضحة في قصائده الأولى سرعان ما أخذ يتخلى عنها ، نازعا نحو التجريب والتجديد .
وقد توقف الشاعر في تقديمه لأعماله الكاملة " ديوان أحمد دحبور " 1983 أمام قضية الولاء للحياة والولاء للشعر وتهمة الشاعر الخطابي ، وذكر أنه ليس محرجا من القصيدة ذات القيمة السياسية ، لأن الأساس هو الولاء للحياة ، وذهب إلى أنه يقبل سعيدا تهمة " الشاعر الخطابي " ، وإن طلب ، مع ذلك ، حرية ما تفسح للشاعر بعض الهواء ، حتى ينتسب ، ببعض الجدارة ، إلى جمهورية الشعر ، ورأى أن على الشاعر أن يبحث عن صوته الخاص ، عن تمايزه عن غيره من الشعراء ، وكان يسير في ذلك على خطا أستاذ الفن الذي علمه في المدرسة ، يوم كان أحمد طالبا .
لقد دهش المعلم لأن الطلبة صنعوا الوردة نفسها ، دون أن يكون بينهم من يصنع وردة مختلفة :
" ليس في هذا إبداع ولا مشروع إبداع...إنه تقليد...هناك ورد كثير غير الجوري...الياسمين، الزنبق، شقائق النعمان، تعجب يا انسان، الفل...الخ.
كان يجب على واحد منكم ، على الأقل ، أن يأتي بوردة الجوري .. فأنا لم أكن احتج عليها ، بل على التقليد...".
وعلى الرغم من اهتمامه بقضية الجمهور وضرورة التواصل معه ، إلا أنه يرى في الوقت نفسه ، أن على الشاعر ألا يخضع لممالاة رغبة الجمهور السطحية ، وهذا ما ذهب إليه في مقالته التي ظهرت على صفحات جريدة "الحياة الجديدة " ( رام الله 1997/ 2/12 وأعاد نشرها على صفحات مجلة "الكرمل " /خريف 1999 العدد 61 ) ، وفي هذه المقالة عاد ليكتب ، من جديد ، عن الشاعر الحديث : " أن تكون شاعرا حديثا يعني أن تكون إنسانا حديثا...وهذا يتطلب ، لا أن تضيف الكثير وحسب ، بل أن تتخلى عن الكثير " ، و رأى أنه ليس هناك وصفة جاهزة للشعر ، و مايز بين الشعر القديم و الشعر الحديث " فالشعر الحديث ، كما أفهمه ، مرتبط حكما بالكتابة " خلافا للشعر القديم المرتبط بالقول ، ويفترض هذا أيضا أن الشعر الحديث يقرأ، خلافا للشعر القديم الذي كان يتطلب مستمعا ".
وانطلاقا من رؤياه هذه جدد في بحور الشعر ، وكتب قصيدة النثر ، و أخذ يكتب في موضوعات جديدة ، وهذا ما بدا في مجموعته " هنا...هناك " 1997 حيث كتب عن الكرسي والمروحة...الخ ووجهة نظره في هذا أنه " لا خوف على الشعر من موضوع ممكن و آخر غير ممكن ، كل شيء قابل لأن يتشعر ، على أن يسقط منه ، في طريقه إلى القصيدة ، كثير من تركته النثرية و صفاته الإجرائية ، و أن يكتسب شروطا جديدة لا يملك تحديدها إلا الشاعر ، ثم يأتي دور الناقد لاحقا ، ومتأخرا ، ليكشف.." .
لقد ظل ، إذن ، كلام الأستاذ عالقا في ذهنه ، وهو وإن كان بدأ بوردة الجوري إلا أنه رسم الياسمين والزنبق وشقائق النعمان ، ولجأ أيضا إلى رسم الفل . و هو في كل تجديد يشعر " و كأنه يقترف فعلا يمارسه لأول مره : الكثير من النشوة والكثير من الرهبة والشعور بالإثم..."
ولا شك أن الشاعر ، مثله مثل شعراء آخرين ، يجد نفسه ، و هو يجدد ، أمام نوعين من القراء ، أو يجد أنه ينتمي إلى بيءتين ؛ بيئة العامة التي تشتمل على منظومة من القيم و الأسئلة الثقافية و الاجتماعية والسياسية ، و البيئة الضيقة التي توجهه وتؤثر فيه بما يشبه التأثير الحزبي الخلوي ، والثانية كما يقول هي الأخطر و الأعمق تأثيرا .
ويقينا أن البيئة الأولى تطرب لاشعاره التي تستسيغها ، أشعاره التي تترك أثرا فيها ، وهذه البيئة قد لا تهتم بالجديد ، وقد لا تسأل عن تميزه واختلافه عن غيره ، خلافا للثانية التي توازن وتسائل وتبحث دائما عن الجديد وتطلب الابتعاد عن التقليد .
ويخيل إلي أن الشاعر وقع تحت تأثير الثانية ، و إن كان أحيانا يشعر أنه فرد من مجموع ، وأن الولاء للحياة أهم من الولاء للشعر ، وببساطة أن الولاء للجمهور أهم من الولاء للفن أو للنخبة الباحثة عن الفن . وقد يكون سبب هو الواقع والأحداث التي مر بها الشعب الفلسطيني وثورته ، والمكان الذي يكون فيه الشاعر ؛ تهدأ الثورة وتتشابه الأيام ولا يكون هناك ما يثير ويهز فيكتب الشاعر حيثيات الهرم المقلوب، وتندلع الانتفاضة ويستثار الشاعر وهو يرى أطفال بلاده يقتلون ويطاردون فيكتب " العودة إلى شاي الصباح " ، ويعود الشاعر ، إثر اتفاقية السلام إلى غزة لا إلى حيفا ، ويرى الفارق بين الحلم و المنجز ، فيشعر بالصدمة ، ويهزه ما يرى فيكتب " مسافر مقيم " ، ويجلس في مكتبه في مبنى وزارة الثقافة فيكتب "مروحة " و"التلفون " و"فنجان " .
ويمكن القول أيضا :
تشتد الثورة وتقوى ويكبر الحلم ويعتقد بإمكانية تحقيقه ، فنذهب الجماهير إلى قاعات الشعر وتصفق للشاعر ، وتهدا الأحوال ويصغر الحلم ويلم اليأس بالناس ويشعر هؤلاء بالإحباط فيكرر أكثرهم : "ما جدوى القصيدة؟ " ، وهكذا لا يقرؤون القصائد الجديدة ، وقد يكررون مقاطع من القصائد القديمة التي الفوها واعتدوا عليها ، و إذا ما قرؤوا القصائد الجديدة وجدوا الفرق كبيرا واضحا ، وانحازوا ، غالبا ، إلا أقلهم ، إلى القديم وربما ، وبحكم الألفة والعادة ، سخروا من هذا الشعر الجديد ، وربما سخر قسم منهم منه لأنه تخلى أيضا عن شروط الشعر التي تعارف عليها الشعراء وقراء الشعر عبر العصور .
وقد يضيف المرء إلى هذا أن الشعر تراجع مكانة أمام الرواية ، وان وسائل إعلامية جديدة أخذت تقوم مقام الشاعر الذي كان قديما الناطق الرسمي باسم قبيلته .
ويدرك أحمد دحبور أن ميله إلى كتابة قصيدة جديدة يفسد قصيدته القديمة ، ويرى أنه ليس سعيدا بذلك ، لكنه يحاول...يتعلم و يتألم ، ويرى أنها مشكلته أولا وأخيرا ، و إن كان ركز أيضا على الناقد الذي سيأتي ويكتشف .
والشاعر في تجديده لا يعترض على كثير من السائد في حياتنا الوطنية وحسب ، بل يحاول أن يتعدى ذلك إلى الاعتراض على أشكال التعبير السائدة مما يماليء رغبات الجمهور السطحية . هذا الجمهور الذي أصبح يوم بدأ الشاعر بكتب بشكل مختلف هاجسا .
وربما تحيلنا القصائد الجديدة ، وتحديدا قصيدة " حيثيات الهرم المقلوب " إلى قضية قديمة جديدة، وهي قضية الصراع بين القديم و الجديد التي توقف أمامها الجاحظ ، ومن بعده ابن قتيبة في كتابه "الشعر والشعراء ". قال الجاحظ :
" وقد رأيت أناسا يبهرجون أشعار المولدين و يتسقطون من رواها، ولم أر ذلك قط إلا في رواية للشعر غير بصير بجوهر ما يروي ، ولو كان له بصر لعرف موضع الجيد ممن كان ، وفي أي زمن كان ".
ولم يختلف عنه في نظرته التوفيقية هذه ابن قتيبة الذي قال :
"ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمه ، وإلى المتأخر منهم بعين الاحتقار لتاخره ، بل نظرت بعين العدل على الفريقين وأعطيت كلا حظه ، و وفرت عليه حقه ، فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله.."
ومع اننا هنا أمام شاعر واحد ، إلا أننا أيضا أمام قصيدتين له ، قديمة أليفة ألفناها ، وجديدة لم نعتد عليها ولم نستسغها . ولو كنا من أنصار القديم فقط لرفضنا القصيدة الجديدة ، تماما كما رفض العقاد قصيدة التفعيلة يوم كانت جديدة . وربما تسعفنا هنا نظرية التلقي في إيجاد مخرج للقصائد الجديدة ، ومنها قصيدة "حيثيات الهرم المقلوب " .
من المفاهيم التي توقف أمامها الناقد الألماني ( هانز روبرت ياوس ) مفهوم المسافة الجمالية أو تغيير الأفق . ويقوم هذا المفهوم على التعارض الذي يحصل للقاريء أثناء مباشرته للنص الأدبي كمجموعة من المحمولات - الموسومة الفنية الثقافية ، وبين عدم استجابة النص لتلك الانتظارات والتوقعات ، فيقف القاريء هنا ليبني افقا جديدا عن طريق اكتساب وعي جديد قد يكون مقياسا يعتمد عليه في التأريخ للأدب . إن هذا المفهوم المركزي في فكر (ياوس) يسمح بالتمييز بين ثلاثة أنواع من ردود الفعل عند القراءة :
- فحين يقرأ أحد هواة الروايات البوليسية مثلا رواية تنتمي إلى هذا النوع ، فإنه يشعر بالرضا والارتياح ، لأنها تستجيب لافق انتظاره وتنسجم مع معاييره الجمالية .
- لكن القاريء نفسه سيصدم ، وبالتالي سيخيب انتظاره إذا ما حاول قراءة رواية تاريخية أو بوليسية مبتذلة .
- أما إذا كان يجمع الذكاء والمرونة فسيذعن لهذه الرواية المختلفة التي ستعلمه أشياء جديدة ، مما يؤدي إلى تغير أفق انتظاره ، بحيث ستكف الرواية البوليسية عن الاستجابة لافق انتظاره الجديد .
وأما المؤلف فإنه يسعى - وهذا شرط كل كتابة أصيلة - إلى انتهاك هذه المعايير ومخالفتها ، مما يجعل طريقته الجديدة تدخل في الصراع مع أفق انتظار هذا المتلقي ، ويسمى هذا الفارق بين كتابة مؤلف وأفق انتظار القاريء بالمسافة الجمالية. ( انظر: حافظ علوي، مجلة علامات، ج34، كانون أول 1999، ص89 ص90 ص91 ) .
وقاريء "حيثيات الهرم المقلوب " الذي قرأ العودة إلى كربلاء " لن يشعر بالرضا والارتياح لأنها لم تستجب لافق انتظاره ، وسوف يصدم ويرى فيها كتابة تنتمي إلى عالم آخر غير عالم الشعر، اللهم إلا إذا كان قارئا مرنا ، وهنا سيذعن لها وسيتعلم أشياء جديدة غير التي يعرفها .
وربما تعيدنا عبارة " المؤلف يسعى إلى انتهاك هذه المعايير ومخالفتها " إلى كتاب الشاعرة نازك الملائكة "قضايا الشعر المعاصر " 1962 . تماما كما تعيدنا مقالة أحمد دحبور ، وكلام أستاذ الفن ، إلى الكتاب نفسه .
ترى نازك الملائكة أن العوامل الاجتماعية الموجبة التي جعلت الشعر الحر ينبثق كثيرة . وتعدد أربعة منها هي :
1- النزوع نحو الواقع.
2- الحنين إلى الاستقال.
3- النفور من النموذج.
4- إيثار المضمون.
وربما يذكر العامل الأول بعبارة أحمد دحبور " أن تكون شاعرا حديثا يعني أن تكون إنسانا حديثا " تماما كما يذكر العامل الثالث بعبارته " وهذا يتطلب لا أن تضيف الكثير وحسب بل أن تتخلى عن الكثير " ويذكرنا أيضا بما قاله أستاذ الفن للطلبة الذين لم يرسموا سوى شكل واحد من أشكال الورود، وأما العامل الثاني فيحيلنا إلى قضية التمايز التي يبحث عنها كل شاعر، وقد أتى عليها أحمد دحبور في مقدمة أعماله الكاملة (انظر ص20).
في مقالتي التي انجزتها عن قصيدة أحمد "وردة للناصرة " (أنظر الزمان اللندنية والحياة الجديدة (رام الله ) أوائل كانون ثان 2000 ) كتبت :
" وبعد، فحين قرأت قصائد أحمد دحبور الأخيرة، تلك التي نشرها على صفحات مجلة الشعراء، وتحديدا في العدد السادس، وجدت نفسي أكتب عنوانا لمقالة اخاطب فيها الشاعر: يا صديقي أحمد: ابق على ما كنت عليه، ولكنني لا استطيع أن أكون دكتاتورا، ولذلك تراجعت عن المقالة، تاركا الشاعر يجرب ويتعلم ويحل مشكلته بذاته...".
وربطت بين "حيثيات الهرم المقلوب " وقصائد الشاعر علي الخليلي، وربما يربط المرء بين قصائد هذين وقصائد عشرات الشعراء الذين يجربون ويكتبون قصائد لم نعتد على مثلها. هل نقول إننا قراء غير أذكياء؟ وأن الشعراء يغايرون المألوف وهذا هو شرط كل كتابة أصيلة؟ وهل موقفنا من القصائد الجديدة يشبه موقف العقاد من قصيدة التفعيلة التي فرضت نفسها؟ وهل يهدم أحمد دحبور قصيدته القديمة وهو يكتب قصيدته الجديدة؟
الزمن وحده هو الذي سيحكم، و إن كان بعض المفكرين والدارسين يرون أن هناك اسسا ثابتة لا يمكن التحلل منها؛ في العائلة والقصيدة....الخ
ولمن لم يقرأ أشعار الشاعر أورد مقطعين من قصيدتين، لعل هذا يساعد على استيعاب المقالة جيدا.
مقطع من "العودة إلى كربلاء ":
" آت ،و يسبقني هواي
آت ،وتسبقني يداي
آت على عطشي، وفي زوادتي ثمر النخيل
فليخرج الماء الدفين الي وليكن الدليل:
يا كربلاء تلمسي وجهي بمائك تكشفي عطش القتيل
وتري على جرح الجبين أمانة تملي خطاي
وتري خطاي
قيل: الوصول إليك معجزة
وقيل الأرض مغلقة
وقيل
ودكرت أنك لي وأن الكون يأكل من ثمارك
ما عداي
فأتيت يسبقني هواي "
مقطع من "حيثيات الهرم المقلوب "
" للراعية البدوية أن تتعهد حاوية الفضلات، وتنشر ما فيها من رزق/
للغنمات، فتختلط الكوسا بالباذنجان والفوط الصحية، حتى أن صباح/
الخير تراب مبتل بالرغوة- إلا أن شهابا يمرق، يسرق ضوءا/
من أفق سنراه غدا، فنرى احلاما تطلع فيها أحلام زرقاء، نباح التكسي، /
يقلق رأسي، والولد المزهو يسوط البغل فيعرج، فيما ترتج العجلات، وعبد/
البر يحقق في الاسعار، نهاري رهن شعارك، فاعبر من بين الأمطار/
ولن تبتل، وخض في الوحل ولا تغضب من ماء الحفرة يغسل رأسك إثر مرور/
الموكب- إلا أن شهابا يمرق بين يدي صياد يسحب، من اشداق البحر، /
النعمة "

انتهت المقالة
الجمعة 2/6/2000
د . عادل الاسطة / نابلس .


***

8- رحم الله الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور :

" ما الذي كان أبي يخشاه حتى ارتكبت أخطاؤه فعل السنونو ؟
ليته قال : اذبحوا طفلي ،
ولم يرحل " .
في لقاء أمس على فضائية الجزيرة شجع المؤرخ الاسرائيلي ( مردخاي أفيدار ) ، المدرس في جامعة بار إيلان ، أهل غزة إلى الرحيل إلى سيناء حتى يتجنبوا قصف الطائرات الإسرائيلية لهم وقتلهم .
المذيع الذي استضافه وسأله عما يجري هو محمد كريشان ورد عليه الناشط مصطفى البرغوثي .
وقبل أن أصغي إلى اللقاء قرأت في وسائل التواصل الاجتماعي أن الطائرات الإسرائيلية ألقت على سكان بعض المناطق في غزة منشورات تحثهم فيها على مغادرة منازلهم والتوجه إلى الجنوب - أي مصر .
وجهة نظر المؤرخ أفيدار أن الهجرة مؤقتة حتى تجتث إسرائيل حركة حماس التي نعتها بداعش .
في العام ١٩٤٨ طلب من أهلنا أن يتركوا بيوتهم لمدة أسبوع ، حتى تخوض الجيوش العربية حرب التحرير ، وبعده - أي الأسبوع - يعودون ، وطال الأسبوع ولم ينته .
لعل ما يستحق الكتابة عنه الآن هو ندم الفلسطينيين اللاجئين بالهجرة واللجوء في العام ١٩٤٨ .
هل ما ألم باللاجئين في المنافي كان أكثر أمنا ؟ صحيح أن ما يجري في غزة الآن هو الجنون بعينه ، ولكن الموت أفضل ألف مرة من تكرار اللجوء .
لعل ما يستحق أن يتذكر في هذه الأيام الصعبة هو كتابات الأدباء الفلسطينيين عن قسوة المنفى وشهادات اللاجئين عما ألم بهم في المنافي .
لعل رب اليهود يستريح في اليوم السابع فيخف القصف قليلا ، ولعل شهادات المرأة اليهودية التي أطلق سراحها مع طفليها ، وتلك التي دخل المقاومون الفلسطينيون إلى بيتها في المستوطنة فلم يقتلوها وغادروا بيتها دون أن يلحقوا بها أذى ، لعل شهادتيهما تتركان أثرا في قلوب الطيارين الإسرائيليين فلا يقصفون الأحياء السكنية ولكن ..
عبثا تطلب الرحمة ممن قلوبهم أقسى من الحجارة ، إن كان لهم قلوب ، لأنه لو كان لهم لما حدث ما حدث في العام ١٩٤٨ .
في كتابه " الفلسطينيون المنسيون : تاريخ فلسطينيي ١٩٤٨ " يكتب المؤرخ الإسرائيلي ( إيلان بابيه ) عن المستوطنين الأوائل :
" وفي معظم الحالات وفر السكان الفلسطينيون لأولئك القادمين الجدد بعض وسائل الراحة من مبيت وطعام ، ولم يكتفوا بذلك بل قدموا لهم أيضا النصائح في مسائل الزراعة والحراثة .... لم يقابل المستوطنون تلك المعاملة الكريمة بالمثل ، ففي المساء ، أي وقت انصرافهم لكتابة مدوناتهم الأولى في دفاتر يومياتهم على ضوء الشموع ، أشاروا إلى المواطنين الفلسطينيين كغرباء يجولون في الأرض التي هي ملك للشعب اليهودي ... " ( صفحة ١١ و ١٢ )
الحرب في اليوم السابع
١٣ / ١٠ / ٢٠٢٣
خربشات عادل الاسطة

***


أحمد دحبور ... مجنون حيفا
عادل الاسطة

- في التلقي النقدي.
- جيل الذبيحة (بدلا من المقدمة)...
القسم الأول: صدمة العودة
1-1- وصلت حيفا ولم أعد إليها.
1-2 -فجيعة الغياب: البحث عن الناصرة في الناصرة.
1-3- في ذكرى النكبة: استحضار حيفا.
1-4-مجنون حيفا.
1-5-كشيء لا لزوم له.
1-6- جيل الذبيحة..جيل الخيبة.
القسم الثاني: العائلة
2-1- جزى الله أمي مغفرة.
2-2- اسمي احمد وأبي من يغسل موتاكم.
2-3- قالت رحاب.
2-4- حياة فلسطيني.
2-5- اسرة تبحث عن بنيها "مريم العسراء ".
القسم الثالث: الهم العام
3-1- الاسم الحركي...يسار الشعبي.
3-2- راوية المخيم.
3-3- طموح الشاعر.
3- 4- مع لاجئة في العيد...مع لاجيء في العيد.
القسم الرابع: في الهم الشعري
4-1- أحمد دحبور....هل يهدم القصيدة أم يبنيها؟
4-2- أكتب لأنني أحيا.
4-3 -الشعر الفلسطيني...سؤال التشابه والاختلاف.
4-4- لست يوسف و "زليخة لم تراودني ".
4-5-البدايات ، سحر البدايات: آراء نقدية.
القسم الخامس :انطباعات وحوارات
5- في زيارة الشاعر .

==========
1- أحمد دحبور : فجيعة الغياب : البحث عن الناصرة في الناصرة
2- أحمد دحبور: في التلقي النقدي
3- أحمد دحبور .. مجنون حيفا
4- أحمد دحبور: قالت رحاب
5- أحمد دحبور وراوية المخيم
6- كشيء لا لزوم له ..
07- في الذكرى السنوية الرابعة لرحيل الشاعر أحمد دحبور.. أحمد دحبور : هل يهدم القصيدة أم يبنيها؟
8- رحم الله الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور :

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى