عدنان المبارك - مفهوم الخوف.. كيركغارد

( مفهوم الخوف ) لسورين كييركيغور كتاب باهر حقا. وهنا يكرر التأريخ نفسه : صدر الكتاب في حزيران 1844 ولم يحظ ولو بنقد واحد ! وقبلها حين صدرت كتبه الأخرى مثل ( فتات فلسفي ) و( المقدمة ) و( خطابان بناءان ) و( ثلاثة خطب بناءة ) ثم ( أربعة خطابات بناءة ) ، كتبوا عنها الكثير عن مؤلفها الشاب وموهبته الفكرية والأدبية اللامعة. ويبقى السؤال : ( مفهوم الخوف ) من أهم كتب الدنماركي ، وأصعبها أيضا ، أذن من أين هذا الأهمال ؟ ثمة تفسير معيّن : كان الكتاب سابقا لزمنه. ولم يلق الأهتمام الحقيقي الا في القرن العشرين. بالفعل، كان أصيلا وكشف عن كبر مؤلفه وفكره الثاقب. كتاب ليس بالكبير. تناول المؤلف فيه قضايا جديدة لم يعرفها عصره مثل بسيكولوجيا الأعماق. ييركيغور أجتاز ، هنا ، مناطق مجهولة لكن حدودها لا تبتعد كثيراعن البسيكولوجيا والفلسفة واللاهوت. كما كان هناك سقراط أستاذ المؤلف الذي كان قد درس اللاهوت في مطلع شبابه الا أنه ترك الدراسة للتفرغ تماما لقضايا الفكر والفلسفة. سقراط لم يعرف ، بالطبع ، المسيحية ولا فكرتي الخطيئة والتكفير، أي على العكس من تلميذه الدنماركي الذى رأى أن على المسيحية أن تفترض معرفة الذات / النفس وفحصها المستمر كي يكون ممكنا تلبية حاجات الفرد الوجودية. والمؤلف لجأ الى عادته القديمة وتخفى وراء اسم مستعار ( فيغيليوس هاوفنييسيسVigilius Haufniensis ) ، وتعني ( حارس كوبنهاغن الليلي )...

كان قصد كييركيغور دفع قاريء كتابه الى التمييز بين مفهومين : الأنسان كتجريد ، والأنسان كفرد له هويته وتأريخه وأناه الملموسة أي الذاتوية كاملة. وهكذا يقسّم حياة الأنسان الى مراحل وأخرى ليست بالرئيسية ، وثالثة وضعها بين المراحل. تقسيم ليس بالدقيق بل هناك أكثر من تناقض فيه. كان الحقل الرئيسي لفحوصات هذا( الحارس ) وتأملاته هو البسيكولوجيا التي مصدرها حرية الأنسان ، وتظاهراتها الرئيسية التي كرس لها الكتاب بكامله تقريبا أي ظاهرة الخوف بشتى أبعادها. بطل هذا الكتاب أي ( الحارس ) يراقب التصرفات ، وردود الفعل ، وتعابير الوجوه بل يقترب من ( موضوع ) المراقبة أي هذا الأنسان وذاك كي يكتشف ( أدغال ) الداخل . المهم لديه هو مسك الأنفعالات ونبض القلب وأن يكون قريبا أكثر فأكثر من ( السرّ الداخلي ). الا أنه يدرك جيدا بأن كل ( أكتشافاته ) ليست الا جزء صغيرا من ذلك العالم الغريب - داخل الأنسان... ( الحارس الليلي ) شاعر يعرف عند التجربة كيف يخلق كلّيات نتعرف عليها في ( مفهوم الخوف ). ويشير ناقد الى أنه بهذه الصورة خلق آدم والآلهة اليونانيون ، والعبقري وميفستو ... واضح أن هذا ( الحارس ) ليس رجل علم له طرقه ولا يعرف غيرها ، كما أنه كشاعر يجهل كيف النظر بعين باردة الى الأنسان الاخر. بالطبع له تعاريفه الخاصة بالخوف ( الجاذب والمنفر في الوقت نفسه ). وله تشبيهات أيضا : للخوف سلطة المحقق الجنائي ، أوالمفتش العام أوالجاسوس حين ينفذ الى زوايا داخل الأنسان. وأمام الخوف يصعب على الفرد أن يخفي شيئا. فهو قوة تزيح الأقنعة عن الأنسان وتعرّيه أمام النفس. وفي الواقع ليست توصيفات الخوف في هذا الكتاب أهم أمر بل كامل مجموعة العمليات التي توضح عن طريق الوصف و يحمّلها فاحص ظاهرة الخوف معان أعمق. يبين المؤلف ، بأستمرار ، مصادر نشوء الخوف - اللأخلاقية والثيولوجية ( اللاهوتية ) والميتافيزيقية. و( الحارس ) ليس أمبيريا قريبا من دافيد هيوم ولا من تخريجات هيغل ( المنطقية – الأنثولوجية ) بل من تلك الفكرة الكييركيغورية عن حرية الأنسان السارية ، وعلى الأقل ، منذ زمن القديس أوغسطين ، في أوربا ، أي أن هذه الحرية هي حقيقة تأريخية وواقع قائم وليست بالمهمة هنا مساحته بل مشروطيته. فبدونه تسقط القيمة الأخلاقية لأفعال الأنسان. لكن هناك بعدا آخر : المسؤولية الأخلاقية – الدينية عن الفكرة الأساسية في الدوغمات المسيحي : الخطيئة. كما يتكلم المؤلف عن حقيقة أن هذا الحرية كانت مفترضة وأكثرمن كونها قد أظهرت ضرورة كينونتها في وجود الأنسان. فالمسألة تخصّ الأختيار بين الخيرات والقيم السارية في حين ( أن أمكانية الحرية ليست بقوة الأختيار بين الخير والشر). و يطرح ( الحارس ) على نفسه سؤالا : من أين لي أن أعرف بأني حرّ داخليا وما الذي ينتج عن حريتي لي أنا نفسي. نقرأ في ( مفهوم الخوف ) أن التجارب مع الخوف لما كانت ممكنة من دون وجود واقع الروح – الجذر المتميز للأنسانية في الأنسان. وكان كييركيغور القائل في مكان آخر ( في كتابه “الخوف والرعشة „ ) : ( الأنسان تركيب للنفس والجسد. لكنه تركيب غير ممكن أذا لم يكن هذان العنصران في وحدة مع الثالث. وهذاالثالث هو الروح ). واضح أنها مجرد فرضية ، وألا ما مكان الروح هنا ؟ ( الحارس ) يجهد في أيضاح بأنه لولا الروح لما كان هناك الخوف الذي هو ما يميز الأنسان عن باقي العائلة الحيوانية. ويذكر أن هناك مستويات متنوعة لتجربة الخوف. وبرأيه أن الخوف النابع من البراءة هو الأقدم ، فهو حالة آدم قبل السقوط. ويطرح هنا شتى الدوغماءات المستّلة من ( سفر الأنواع ) والعقيدة اللوثرية والأخرى الكاثوليكية حيث يهدف الى صياغة خاصة ل( الخطيئة الأولى ) أو أعادة تفسيرها. ونقرأ : ( قبل السقوط كان آدم في حالة البراءة الأخلاقية التي رافقها الجهل بماهو الخير وما هو السوء. وفي حالة مشابهة لهذه ، وخاصة في فترة الطفولة ، قد يكون كل أنسان. بعبارة أخرى أنها حالة الأنسان الذي لم يستيقظ روحيا ، حالة ( تنويم ) للروح. فالأنسان يظل جاهلا بذنبه ( خطيئته ) ، وبهذه الصورة يرافق الخوف البراءة. أنه خوف من دون سبب ولا يزول اذا كان الأنسان في الحالة الأخرى : اللابراءة. أنه خوف قائم في أحوال الشر والخير معا. يرى ( الحارس ) أن الخير هو الحرية. لكنها ليست مقصوده النهائي. وهنا يعود الى ميتافيزيقا أفلاطون خاصة ( معضلة الوجود واللا وجود ). لكن قصد ( الحارس ) هو وجود من نوع خاص – وجود في ذاته ولذاته. أنه الروح المتوجهة الى الرب أيضا. وهنا نلقى كامل الحرية ، كامل الخير ، لكن ليس هذا وحده : هناك تجربة ما هو أبدي. ولأتوقف الآن قليلا : الأنتقال من اللاوجود الى الوجود يوائم الأنتقال من الوجود في الزمن المفهوم كتعاقب صرف للحظات التي تختفي الواحدة بعد الأخرى ، الى وجود في ( الآن ) التي هي أزلية ( أي الحاضر ). ويقول كييركيغور : أذن الزمن هو تعاقب ، حياة كائنة في الزمن ولا تقود ألا الى الزمن. أنها لا تملك أيّ حاضر. وفي الحقيقة نلقى أحيانا تعاريفا تخص الحياة الحسيّة التي لاوجود لها الا في ( اللحظة ) حسب. وهذه اللحظة هي تجريد محض منحدر مما هو أبدي ، وأذا أريد له أن يكون حاضرا فسيكون ، لامحالة ، مسخا للأبدي...

واضح أن هذا الكتاب مكرس للتأملات على مستويات معينةّ - أخلاقية على ضوء الدين : الذنب ، الخطيئة ، الخلاص ألخ. لكن المهم أن المؤلف أعاد الأعتبار لأهمية الذاتية الفردية. وكان عمانوئيل كانت قد تجاهل أهمية هذه بالنسبة لقانون الأخلاقيات الذي عليه أن يكون ( عموميا ) ومجموعة فروض ومحظورات. كما ذكرت يكون هذا الكتاب بحثا دقيقا في مصادر حرية الأنسان. ويظهر المؤلف بأن الحرية ليست من سمات الروح بعد ، ولا مجموعة ظواهر نفسية ، ولا قدرة بسيطة يمكن الأستفادة منها أونبذها. ووفق كييركيغور قد يبدو كمفارقة ، القول بأن الفرد يواجه ، في الأساس ، ضرورة أكتشاف الحرية وتحقيقها. وهذه الضرورة تعلن عن وجودها بشتى أشكال القلق الداخلي الذي ليس ممكنا الغاؤه ولا تحييده ولا تهميشه. أن ما يسعى اليه الفرد هو حالة السعادة الأبدية - أبدية الخلاص ، مطلقية الخير. وهذه هي المفاتيح لفكرة كييركيغور الرئيسية : العلاقة الغامضة والعميقة بين الدين وحضور روح الأنسان، بين معنى الدين ومعنى استقلالية هذه الروح. وقد نفسر هنا موقف المؤلف بهذه الصورة : أن يملك الأنسان وجوده أمام الله يعني أن الفرد يصبح شفافا أكثر فأكثر أزاء النفس. أما الخوف فهو رغبة موروثة كما لو أنها قوة تلاحق الأنسان كي لا ينسى الله ونفسه أيضا...

أن تقرأ ( مفهوم الخوف ) معناه أنك تمارس ، ولأكن متفكها لكن قليلا ، رياضة قفز الموانع ! بالنسبة لي لا أعتبر الوقت الذي قضيته مع هذا الكتاب ضائعا ...
أعلى