موسى غافل الشطري - سرير في سويداء القلب.. قصة قصيرة

قبل حضوره مراسيم العزاء هذه ، و منذ خمسون عام و نيف ، كان يوسف قد انقطع عن زيارة المدينة التي هي مسقط رأسه ، و هي روضته التي تفتحت بها أكمامَهُ .
كانت زيارته السريعة ،عادة ما تختصرُعلى قضاء بعض الأعمال الرسمية ثم يقفل عائدا على أعقابه .
زيارة لا يتجاوز مداها ساعات النهار ، دون أن يمر على أقرباء أو أحبة .
مدينة تضاءل معارفه فيها إلاّ ما ندر . و قد اعتادت عيناه في كل مرة أن تلاحق الرؤوس التي اشتعلت شيبا .عله يجد من يعرفه من جيله السابق . و لكن .. حتى اولئك الذين تركهم أطفالاً هم أيضا ابيضت رؤوسهم ولحاهم . و من ضمنهم إبنَيْ الفقيد الذَيْن تعرف عليهما وواساهما في مأتم والدهما.
كانت مراسيم العزاء قد عمروا لها خيمتين كبيرتين . على بعد أمتار من قصر منيف مكسو بالسيراميك الجذاب . يتماثل للرائي بخُيلائه ، بواجهة شملت باباً مطرزاً بالنقوش الجميلة . يرتقى إليه بأربع درجات . و من الجهة اليمنى ، وُضِع باب ( سلايد) لدخول و خروج السيارات .
كان يدور بباله .. متخيلاً أن ( وَفِيَّة) سيدة الدار التي ترفل بحياة باذخة . بان يوسف لم يخطر ببالها ، سوى ذلك السؤال العابرٍ ، تساءلت به ، ذات مرة، أمام أقربائه عن أحواله . و كم خلف من أولاد .
أكيد .. عندما ازدهت لها الدنيا ، نسيت أيام زمان من ذكريات تراكم عليها غبارالزمن . نسيت عندما عزموا أهلُها على مغادرة المدينة إلى مدينة أخرى ، تبعد مسار نهار كامل بالعربات ، فطالبته بصورته لكي لا يغيب عن عينيها .
أيام أن كان لم يختط شارباه بعد . فهامت بملامحه الجميلة . وقد بدأ تعلقها به منذ صغرها .
و كانت لا يحلو لها اللهو إلاّ معه . و كانت الابتسامة لا تفارق ذلك الثغر الجميل و الغمازتين . و العينين الباسمتين على طول ، ما يضفي على الوجه الخمري المكلثم سحرا آسرا .
و تذكر ذات يوم ، و هما مندمجان بالمزاح ، عندما عبثت بشعره المسترسل الجميل ، الذي طالما امعنت نظرها بإعجاب فيه ، فشدّته من الخلف إلى صدرها ، شداً موجعاً ، و أطبقت شفتيها عليه ، ثم حررته و هربت .
لا حقها وقد أضفى مسحة غضب على محيّاه ، و هي تدلف لأحدى الغرف ، كانت تلوذ بالزاوية ، و هي تكتم ضحكتها .فأمسك بكتفيها من الأمام . فجأة انبعث من عينيها بريقٌ ، سرعان ما استجابت له عيناه .
إكتشف .. ان شيئا ما يحدث بقلبه و جسده . شيئا غير مألوف من قبل ، أذهله و كأنه فقد القدرة على التحكم بأنفاسه و ضربات قلبه . في حين أطبقت بصدرها على صدره ، و طبعت قبلتين حارتين على طرفي شفتيه و لا ذت بالفرار .
تلك اللحظات الخاطفة ، ظلت ذكراها ألذ ما ذاقه طيلة حياته . و ذلك البريق المدهش الذي لم يألفه ، و لم يسأل أحدا ممن خاضوا غمار الحب ، لكي يفسر له ما حدث .
كم أسرف بخجله و تهيبه ؟ فأضاع على نفسه أن يجاريها ، و ينال من شغفه بها ؟
***
إنه يستبعدُ ، حتى بالأيام الاعتيادية ، إنشغال بالها بشأنه ، بعد هذه السنين التي تغير فيها كل شيء ، البشر و الجدران و الشوارع ، و حجم المدينة ، و انمحت الذكريات و رحل من رحل. و شاب فيها الذي كان رضيعاً . فلا يعقل ان يمرّ طيفُهُ ببالها و لو مر الكرام .
ربما يُخجلها الآن ، أن تتذكر قبلتيها . و السهرات في أطراف الليل . عندما عادت عائلتها من الغربة و هي متزوجة .
لقد اندثر كل شيء و لم يبق حال على ما كان عليه . فهي خَلَّفت و كبر شأنها . و هو تزوج و خلف و عاش حياته في الغربة و لم ينصفه الحظ لكي يلتقيها . كل شيء يلقي بدثاره على تلك الأيام الحالمة لكي تندثر ذكرياتهما .
مع ذلك من الصعب عليه أن ينساها . ستعتكف بحدادها على زوجها لمدى اربعة أشهر . و لذلك حتى لو حاول أن يواسيها ، فإن ذلك لا مجال فيه .
كان عليه أن يقرأ الفاتحة و يعود إلى مسكنه . فالطريق طويل جداً ، و يحتاج إلى وقت .
***
بعد مضي سنوات على سفرته تلك، استضافه أقاربه ، الذين جاؤا لزيارة كربلاْء .
فباتوا في بيته ، و عبر أطراف الحديث صُعق بالخبر: المحزن ان (وفيَّة )قد أصيبت بالعمى المفاجئ الكلي .
و في أطراف الحديث ، قيل له : إنها تكرر عتبها عليه كلما التقوها .
فتقول و هي تبكي :
ـ ماذا يخسر لو طرق بابي لبضع دقائق ، ثم تردد هذا البيت الشعري بنغمات حزينة باكية :
(على غفله يالعزيزتغير الحال وراحت كل سوالفنا و الامال ).
***
ربما هي أيضا كانت تحلم ، حالها مثل حاله ، بإتاحة اللقاء .. لإحياء تلك النظرات التي افتقداها عشرات السنين ؟
فهذه الامور قد تسترجعها الذاكرة لتلك الأيام . و ربما تبكيها ، و تحزنه هوأيضاً. لأن الدعوة التي وجهتها إليه ، كي يلتقيا و يطفئا أشواقهما .ويتحسس هو لذة الجلوس معهاً هي لكي يستذكرا، و لو مجرد كلمات و نظرات لا أكثر ، ليستعيدا أيام حبهما الغابر .
لكن .. كيف الحال و هي لا تبصر ؟ كيف يعبر لها بنظراته الصامتة التي اعتادت على فهمها . لكي يترك للغة العيون أن تبوح بما ظل خفياً ؟
***
كلما خلا مع نفسه ، دار في باله السؤال المُحيِّر : إذن كيف يلتقيها و الحالة هذه ؟ ألم يكن من المناسب أن يستعرضا نفسيهما بعد هذا الفراق الطويل ؟ أن يشاهدا ما الذي عبث به الزمن وغيّر فيهما ما غَيَّره ؟ و أي شيء تبقى لهما لكي يُطفئ شوقهما و يستأنسا به ؟
***
استدرج الذكريات ، و هو يستلقي على فراشه :
أيام رحيلهم، و هي تحتفظ بصورته ، و ذهابه للعاصمة لإكمال دراسته . و استذكرعودتها مع اهلها ، وبين ذراعيها طفلة . عادت العائلة بأجمعها لكونها لم تتطبع على عالم الغربة .
وتذكر لقاءهما ، بعد عودتها ، بنفس الغرفة التي قبلته فيها و هربت . إلتقيا لوحدهما .
كان يريد أن يطفئ ندمه لكونه لم يُقبِّلها كما قَبَّلته قبل زواجها . فأمسك بها و قربها إليه ، و لكنها انتزعت رأسها من بين يديه ، و لم يحظ سوى بانتزاع قبلة على جبينها غصبا .
تلك القبلة لم تُطفئ شوقه ، و لا تعبر عن أي معنى من معاني الحب ، بل هي أعلنت عن رفضها لها ،وأحرجته بما فعلت . رغم انها .. ليست سوى قبلة اعتاد الأقرباء أن يؤدياها تعبيرا عن عرفٍ اتّسَمَ بطابع الاحترام و المجاملات الرسمية.
هذا كل شيء . أما هي و حسبما صعق به ، فقد أرسلت له رسالتها الواضحة : أن ييأس و لا يفكر بأي تنازل منها لكونها مرتبطة بزوج .
و كان في باله أن يعاتبها على زواجها من غيره . فألجمت ممانعتها لسانه . و لم يحظ بأي رد شاف سوى أنها قالت : إن اقترانها بزوجها الغائب حدث دون إرادتها .
***
و رغم ما حدث .. فقد التزما ، أن يلتقيا بحجة زيارتها لعائلته ليلاً ،كلما عاد من العاصمة يوم العطلة الاسبوعية ، ليقضيا الليل جنباً إلى جنب و يسهران بملء حريتهما .
يتحرقان لقدوم الليل . لكي يلتقيا ، فتضع ابنتها في حضنه . فيتلقفها وهي تطوقها بيديها ، و يطبق صدره على ذراعيها و هما يطوقان البنت . ثم تسحبهما ببطء. و تنشدُّ لما يستعرضه أمامها ، من إسراف في لثمٍ خدي الطفلة و فمها ، ثم يتنقل بقبلاته العميقة و(وفية) منشدة لذلك و هو يرسل رسالته التي تفهمها بلغة القلوب : و كأنه يتمنى أن يفعل ذلك معها . و كانت رسالة واضحة المعالم . لأن نظراته ، و هو ماض بقبلاته ، كانت منصبة على وجه الأم .
قالت و هي تستعيد طفلتها من يديه :
ـ هل أعجبتك الأجواء هناك ؟ يقال أن الكلية فيها أولاد و بنات .
فابتسم :
ـ أنا لم أتعود بعد هناك . كنت أفكر متى ينقضي الوقت لكي أعود .
كانت تحاول أن تقترب منه أكثر ، و كانت سعيدة جداً .
قالت مازحة :
ـ قلها بصراحة ... ألمرء ليس معصوماً .
ـ لا . لا شك إن الحياة هناك جميلة جداً و مغرية لمن تطبع عليها . أما أنا .. فما زلت أحن إلى هنا . لم أتطبع ، و ربما أبقى أحتاج أن أنسى كل شيء . و لكني سأفشل .
ـ لماذا تفشل ؟ لأنك تحن إلى ثدي أمك ؟
و ضحكت .
ـ لا
كان بوده أن يقول لها : لك أنت .
و ضحكا معا . فالموضوع و أسبابه ، الذي يشغل بالهما واضح لديهما .
ثم مضى يحكي عن الأجواء هناك . كان يتفنن في اختيار المفردات . و كان يدفعها لكي تنشدّ إليه . في حين يفتر تغرها عن ابتسامة إعجاب ، ببراءة استُلِبَ لبه ، بينما هو يتأجج شوقاً .
كانت كلماته تتدفق رقراقة عذبة ، منبعثة من بين شفتيه . كأنه هيأها بإتقان شديد . كلها عذوبة ، تنبعث مع أنفاسه المتلاحقة ، بنغمات أشبه بالغناْء .
فتذوب و ترتخي بإستسلام كامل لنغمات كلماته ، و كأنها على أعتاب أن تلقي بنفسها بين ذراعيه .
و لكي تعرب عن استجابتها الكاملة .. دفعت بطفلتها إلى أحضانه مرة أخرى، ليمضي باحتضانها و لثم كل أجزاء جسدها . مضيا إثنيهما بسيل من التأمل و الإبحار بالمكنون المملوء بالنشوة ، كأنهما يغرقان بطغيانه ، فينشدّ قلبيهما إلى بعض ، وسط هذا التيار الجارف ، دون أن يستعينا و لو بكلمة واحدة .
كانت أنفاسها تتلاحق بصوت مسموع ، فيشعر و كأنها تمرر نسيمها على خديه . و كان يتعمد أن يثير هيامها .
أناملها.. و ثغرها .. و عيناها .. و أنفاسها .. تنشد بإستجابة كاملة ، لهذه المناجاة الصامتة .
بالتأكيد ان زواجها لم يطفئ جذوة حبهما . في حين كان يفترض قبل زواجها : أن يكمل دراسته و يتزوجها .
يمضي الوقت . و يمضي هو بحديثه عن العاصمة ، و أشيائها التي لم يألفها هنا. و حدائقها ، و السينمات و أبنيتها الشاهقة .و هو يمعن نظره بضفيرتيها المنسرحتين من تحت شالها الشفيف ليسفرعما ورائه ، و ليستقرا في حجرها .
قالت متحسرة :
ـ الوقت يداهمنا سأنهض .
***
أتعبته هذه الذكريات . و لم تغره أجواء العاصمة المكتظة بأنواع الجمال لكي تروّضه و يقلّ شوقه لهذه السويعات القليلة التي لم تزح الخجل جانباً لكي يتنعم بثمالة الحب.
أما الآن ، و عبر عشرات السنين ، فعبثاً يحاول أن ينسى كل ذلك ، وقد تطرف عمراهما ليغادرا عقد السبعين .
لقد ظلمها ، عندما انتابته الشكوك بانها نسيت كل شيء طيلة الأعوام الماضية .
إنه لا يعرف عن ماذا يتكلم حين يلتقيها و هي الكفيفة البصر ؟
إنه قد تغير كل شيء في ملامحه تلك . و ذبل ما عشقته فيه .
بقي يتقلب على سريره و جَفَاه النوم ، حتى بواكير الصباح .
***
جلس مبكراً ليتهيأ للسفر. كان جاهزا ، أنيقاً و مهندماً . و انطلقت سيارته ، لكي يكون بوسعه أن يصل في الوقت الملائم ، و ينفردا معاً .
وضع سيارته في مرآب المدينة و جاء راجلاً .
اعتلا الدرجات الأربع ، و ضغط على المنبه بحذر . ضغط مرة أخرى و سمع بعد لحظات صوت امرأة تجيب :
ـ من الطارق ؟
أجاب :
ـ أنا يوسف .
فتحت الباب و تطلعت إليه بابتسامة ، و رحبت به بحرارة :
ـ ياه... أنت العم يوسف ؟؟؟ ما هذه المفاجأة يا عم ؟؟؟ فقط .. دقيقة .
و بعد أقل من دقيقة عادت مرحبة و هي ترتدي عباءتها :
ـ تفضل عمي .عرفتني من أنا؟
إمرأة تخطت الخمسين ، لكنها بدت بحيوية أكثر ممن يبلغن مرحلتها العمرية .
عاتبته بدعابة مؤدبة :
ـ هل نسيت (مريم) التي تطوح بها و تغفو على صدرك ؟
رحب بها بشوق . ثم قادته إلى غرفة الاستقبال ، ألتي اكتظت بالنفائس و الأرائك القيّمة . أشارت له أن يستريح .
كانت الأريكة التي يجلس عليها ، تقع على يسار الباب المؤدي إلى الداخل ، و قالت له على عجل :
ـ أمي لا زالت مستلقية في فراشها ، سأخبرها حالاً .
لاح له سقف الاستقبال مزدانا بالنقوش المغربية المبهرة و الثريات و مصابيح الزينة التي أنيرت بأجمعها ، لكي يكون كل شيء مبهرا . وَضَعَت أمامه طبلة و عليها كأسا من العصير و غابت .
بدأ يشغل نفسه بالتطلع للمحتويات . الدار تبدو له صامتة . ربما الأفراد الآخرون نائمون أو غائبون .
بدا له أن الوقت قد طال .
ربما ان (وفية) تهذب نفسها . كل النساء تفعل ذلك .
ظل يتسقط الحركة في الداخل . سمع خطوات متأنية . و انفتح الباب . نهض . كانت ( وفية) تفتح ذراعيها كأنها تبحث عن شيء . تركتها البنت على مسافة من يديه و قالت :
ـ لحظة عمي و أعود .
غابت تلك المعاني السابقة و لاح ما تبقى ( كباقي الوشم في ظاهر اليد).استمرت تهوم بذراعيها بحثاً عنه ، وهي تميل بإذنها منصتة ، أمسك بها و أجلسها بجانبه. و مالت بجسدها و هي تحرر يديها لتحتويه و تقبله بوجهه و شعره ، و ألقت برأسها على عنقه و هو يلف ذراعيه على عارضيها ، و تعالى نحيبها عنيفاً .
كانت تمسك به و تمرر كفها على وجهه و جسده و قفاه :
ـ يوسف .. لماذا كل هذا الغياب ؟
كانت تمسك بذراعيه و تتلمسهما . ثم تمرر يديها على شعره . بدا له جسدها ممتلئاً ، وقد تغيّر فيها الشيء الكثير .
كانت كل حركاتها و انشدادها إليه ، توحي له و كأنها نادمة على تَمَنُّعِها حينذاك . و حرمانه من قُبلةٍ حاول أن يغتصبها من خدها أو شفتيها . و يتوضح له الآن أنهما كانا لوحدهما . أما الآن فقد وضعت نفسها أمامه في غياب ابنتها : بانها حاضرة أن تعوض ما حَرَّمَتْه عليه و على نفسها .
قُبلاتها الحارة ، و احتضانها له ، و التساقها ، و بكائها . كل ذلك ، و كأنه تكفير عن رفضها ذاك : أن تسمح له بقبلة و لو واحدة. فأباحت له الآن : أن يلثم خدهاو يستنشق عبيره .
كل ما تكتمت عليه تخطته الآن ، و ألصقت خدها على كتفه ، و أنفها يتنسم عبيرعنقه ، بحيث اتاحت عن عمد فرصة لشفتيه أن يلثما .
كانت تحاول ،و هي تترنم بكلمات العتاب الشجية ، عن طول غيبته . تعمدت أن تغمض عينيها ،اللتين تبحر بهما أيام زمان ، لكي تخفي عنه ابيضاضهما ، و لكي لا تؤلم قلبه فتكشف عن فداحة خسارة امنياته. لكنها تنسى و هي في ذروة الشوق و البكاء ، فتفتحهما على سعتهما متطلعة إليه .
***
عادت البنت ووضعت كرسياً قرب والدتها وواصلتا بكاءهما و صوتاهما يعلو بانسجام ونغمات رخيمة حزينة ، وما زالت الأم تتشبث بيديه .
كانتا تنعيان بصوت رخيم للومه على عمره الذي قَضّاه غريبا عن أحبته .
ثم توقفت فجأة و سألته :
ـ طالت غيبتك كثيرا .ألم يطرأ ببالك : ان لك أهلاً و أحبة ؟
ثم بدأت تواصل أنينا خافتاً كأن قلبها أُضناه البكاء، و فقدت قدرتها أن ترفع صوتها . ثم فجأة ارتفع عويلها حاداً و هي تمسك بأحشائها التي أضناها البكاء . توقفت ثم قالت عاتبة :
ـ هذه (مريم) التي كانت ترقد بين ذراعيك ، نسيتُها ؟ أسفاً على قلبك الذي غيّرته الغربة .
كانت البنت و كأن أمها قد حرضتها لكي يتعالى نحيبها بوجع و هي تنظر إليه .
كان هو يقترب من الأم و قد بدا حزيناً جداً .
استأذنت ابنتها ثانية، و غابت في الداخل ، بينما أمها ما زالت تمسك بذراعه ، و تضغط عليهما :
وأخذت كفه و قبلته و بكت .
ـ ها أنت ذا جِلْداً على عظم ، ماذا كسبت من طرادك ؟ أنظر ماذا فعلت بك الغربة ؟ من الذي يحتضن تابوتك هناك و يبكي عليك ؟من التي تلطم خديها و تشق ثوبها ؟
و امتدت يدها لشعره :
ـ أما زال على حاله ؟
قالت ابنتها التي عادت :
ـ كل شيء فيه قد تغير .
كررت :
ـ مالهن حبائبك ؟ غدا جَداءهُنَّ(2) .كم رجوتهن أن تأتي قبل أن يكف بصري ؟ما الفائدة ؟ هل هذا كثير عليك ؟ إنها مجرد لحظة مضغ سجارة ، ثم تعود إلى غربتك دون أن تفقد شيئاً من خيرها ، هنيئاً لك على خيرها .
انظر إلى ( وفية)السعيدة كم تَلّلَ عليها الخير بلحمه ؟ لماذا لم يقسمه الرب بيننا ؟ كم أوصيت لك كي تأتي و أراك ؟ يا له من حظ عاثر . أتيت بعد أن كف بصري و ابيضت عيناي ، و حُكِمَ عليّ أن لا أُكحّلهما بمشاهدتك .
و استمر نحيبها .
قال :
ـ لم تصلني أية وصية منك . أقسم على ذلك. فقط هذه الأخيرة ، و لم أمكث طويلا فأتيت مسرعاً .
قالت بحرقة :
ـ سوّد الله وجوه أعداء حبائبك . ماذا يكلفهن لو أوصلن لك طلبي قبل أن أفقد بصري ؟ كم اْنقطَعْتَ عنا ؟ حتى الأطفال الذين خلفتهم وراءك شابوا ، و خلفوا . و أبناؤهم أيضاً خلفوا و أنت مستنأنس بغربتك.
ثم عاودت أنينها .
كانت قد فقدت رشاقتها و الكثير من جمالها و هيمنت على ملامحها مسحة الحزن. و رغم أنها حاولت أن تبدو محافظة على ملامح أيام زمان ، لكن الأعوام الكئيبة لم تنصفها . و مالَ كل شيء فيها إلى ما يثير الحزن ، و يوجع القلب .
قال :
ـ أتيت لمواساة الولدين عند وفاة أبيهما .
قالت بعتاب :
ـ كان هذا قبل أكثر من ثلاث سنوات . بينما أنا رجوت من حبائبك أن تأت قبل أن أكون عمياء .
تناول قدح الشاي من يد البنت التي كانت تبدو سعيدة بحضوره . ووضعت قدحاً آخرَ بين يدي أمها . و أثناء حديثهما و هما يرتشفان الشاي قالت :
ـ يبدو أن شايك قد برد . إعطني إياه و هاك هذا .
قال :
ـ ليس بارداً.
و لكنها أصرت و امتدت يدها تبحث عنه .
تناولت قدح الشاي ،و أعطته قدحها . كانت الغاية واضحة لديه. راقبها و هي تلثم القدح من كل جوانبه .
وبعد أن أنهيا تناول الشاي .. طلبت من ابنتها أن ترفع القدحين .
كانت البنت قد مضت إلى الداخل بينما هي شرعت تسحب شيئاً مخبأً في مخبأ ثوبها ملفوفا بحجم الحِرْز (1)، و دسته بجيبه قائلة :
ـ لا تفتحها هنا . كانت هي ضَمَدي الوحيد . أما الآن فلم أعد أبصر شيئاً .و ربما أنا على أعتاب الرحيل .
كانت عباراتها الأخيرة كأنها تعلم ، بقرب رحيلها الآتي .
لم يعرف ما هذا الذي وضعته . هل هو حرز أم ماذا ؟ بيد أنه حينما تلمسها ، أحس أن هناك ورقة أو ما يشبه في الداخل .
بعد أن أمضى وقتاً وافياً ، حاول الإثنان عبره أن يُطفِئا فيه أشوقهما ، كان عليه أن يغادر مودعا .
و رغم انقضاء عشرات السنين ، و البعد ، و الشوق ، و هذا البكاء ، و رغم تطرف عمريهما فإنه أدرك أن هناك ما يثير لديه ، إحساساً بأن هذه اللحظات هي بداية افتراقهما الأبدي ، إلاّ أنهما ، رغم كل هذا ، بقي عصياً عليهما أن ينطقا كلمة ( أحبك) التي شدّت أواصر قلبيهما كل هذا الزمن الطويل و عصي عليهما أن يحلاّ عقدة من لسانيهما .
أسرع للمرآب مستقلاً سيارته. و قبل أن يشغل المحرك ، رأى من المناسب أن يفتح الملفوف ، لكي لا يبقى مشغولاً بأمره طيلة الطريق .
فتح الملفوف كانت هناك اوراق ملفوفة بإتقان ورقة فوق الأخرى ثم فوجئ بوجود صورته التي اهداها إليها من قبل .

11/5/2020

ـــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ جدا أو جدى : العطاء
2ـ دعاْءلجلب الحظ او العافية ، يكتبه الملالي ثم يلف عليه خرقة و يخيّط

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى