مالك معاذ سليمان - الحنين الى المدن الجميلة

ام درمان .. بورتسودان .. بغداد .. طنجة .. نيامي .. فينيكس/ اريزونا , مدن جميلة بينها قواسم مشتركة قد تتطابق احيانا وقد تختلف بعض الشئ بيد انها سحرتني واسرتني لأبعد الحدود وانطبعت ذكرياتها الفريدة في اعماق وجداني.

فعندما تكون في نيامي مثلا تشعر وكأنك في ام درمان الثمانينات ببيوتها الطينينة و ازقتها المتداخلة و اهلها الطيبين

ونتيجة لتصاهر وتزاوج قبائل العرب والطوارق والفلاني والهوسا والزرما فيما بينهم فإن ملامح الناس هناك اصبحت اقرب الى ملامح السودانيين بصورة واضحة بحيث لا يشعر السوداني بأنه غريب الوجه واليد عدا اللسان .

النيجريون خريجو المعهد العلمي وام درمان الاسلامية والمركز الاسلامي الافريقي والذين عبروا السودان في طريقهم الى الحج ما زالوا يكنون للسودان وللسودانيين ودا عميقا واحتراما خاصا ويعددون بكل فخر ما لاقوه في السودان من معاملة جميلة وضيافة حسنة .

كل هذه العوامل وما يصاحبها من من مواقف جميلة وصداقات وعلاقات حميمة تجعل الانسان يحن الى هذه المدن الجميلة حنينا صادقا ويتمنى لو تسعفه الظروف لزيارتها مرة ثانية .

... تعمدت التسلل عبر استار الظلام خشية ان تفضحني اشعة الصباح متلبسا بجريمة الهروب من مدينة نيامي التي طالما احببتها وانطبعت ذكرياتها المورقة في ذاكرتي ابدا . غرفتي الطينينة اكتست جدرانها بالحزن , فقدت رونقها وبهاءها ولم تعد تقوى على مقاومة لحظات الفراق وهي التي صمدت من اجلي خريفين كاملين رغم قدمها وتآكل سقفها في وقت كانت فيه البيوت تتساقط مثل اوراق الخريف . كانت انيسي في اوقات الوحدة وحضني الدافئ حينما تنتابني نوبات الوحشة و الحنين الى الوطن الام . كانت ذلك المنول الذي نسجت عليه اجمل حروفي و عزفت على اوتاره اجمل ادبياتي وكانت ملاذا لاصدقائي من هجير نيامي ومنتدى لهم يستمتعون فيه باحتساء الشاي في امسيات الشتاء الباردة .

كانت عبارة ( غرفة مالك ) لدى اصدقائي ذات وقع خاص , اذ تعني السكينة والهدوء والدفء والفرار من صخب المدينة وضجيجها . كانت - كذلك – استاذي الذي تعلمت على يديه ان السعادة ليست وقفا على العيش في قصر فخم تتوفر فيه كماليات الحياة بقدر ما هي القناعة بأبسط الاشياء ! نعم القناعة ذلك الدواء الناجع والحد الفاصل بين امراضنا واوهامنا العصرية المستعصية والحياة الطبيعية الخالية من كل ما يعكر صفوها وجمالها . كان ارتباطي الروحي بهذه الغرفة الطينينة يعني في ذات الوقت ارتباطي الحميم بمدينة نيامي وبالنيجر قاطبة . حاولت في تلك الاثناء ان اقنع نفسي بأن ارتباطي المادي بها اصبح قاب قوسين او ادنى من الانقطاع وأن فراقي لها اقرب من حبل الوريد الا أن جيوش الذكريات تدافعت علي من كل حدب وصوب وشرعت روح الوفاء تهز اوصالي هزا عنيفا كأنها تعاتبني على وأدي لهذه العلاقة الحميمة فانتحبت نحيب الوليد المفارق امه .

حاولت كبت دموعي وانفعالاتي لكن الموقف كان اشد من ان يحتمل . كانت كل قطعة من محتويات غرفتي الطينينة تربطني بذكرى خاصة او موقف فريد , وكان كل ركن فيها يثير في لواعج الشجن والمرارة . عقارب الساعة كانت تنتظر مني اتخاذ قرار المغادرة . ولكم تمنيت حينها لو توقف الزمن من اجلي ساعة لكنه كان قاسيا كالسيف فقطعني اربا اربا ! . اخيرا وجدتني خارج الدار لست ادري كيف كان ذلك . ها هوذا محرك السيارة التي في انتظاري يصدر صوتا اشبه بالنحيب ... ازقة نيامي ما زالت تتوشح بالحزن والصمت والسكون . الطريق المؤدي الى المطار خالٍ من السيارات تماما . زحمة الاعلانات على جانبي الطريق كانت تثير في التقزز والاشمئزاز , وعبارة " وداعا نيامي " كانت آخر مسمار يدق في نعش مراسم وداعي لهذه المدينة التي ستظل محفورة في ذاكرتي الى ما شاء الله .

مع وصولي للمطار كانت الشمس هناك قد خلعت معطف الليل وتتأهب الآن لارتداء رداء النهار . مطار نيامي المتواضع يخرج الآن رويدا رويدا من قوقعة صمته الطويل ليعلن للملأ عن تمسكه بالحياة . حركة العمال هنا وهناك تضفي على الجو روح الحياة والتجدد . البساطة تكتنف كل شئ في هذا البلد المضياف . كنت اول القادمين الى صالة المغادرة فتملكني احساس بالحياء لأن ذلك يعني سرعة مغادرتي لهذا البلد العظيم . انغام الموسيقى الغربية تلبس قاعات المطار ثوبا لا يناسبها . تمنيت ان يكون آخر ما تلتقطه اذناي موسيقى محلية بحت . وعلى متن الخطوط الملكية المغربية اسدلت الستار على آخر فصل من قصة عشقي لمدينة نيامي مدينة الحب والسلام

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى