إبراهيم محمود - النسخة المفقودة : لو أن أمل الكردفاني كان قاصاً فقط "2"

أي حياة يعيشها أمل الكردفاني، وهو يطرح هذا الكم الكبير واللافت في الكثير منه، من القصص؟ وأعني بالحياة، تلك التي تضمن له كتابة ما يقارب الـ" 130 " قصة، طويلة في مجموعة منها، في أقل من أربع سنوات، وهي ذات مناخات نفسية، اجتماعية، سياسية، وبأساليب قص مختلفة؟

هذا التوصيف يجري التشديد عليه، لحظة اعتباره كاتباً في مجالات أخرى، كما ذكرنا، وهذا يضع قارئه، وهو ناقده بالمقابل، لأن يقرأه قصصياً، وما يحفظ له حق البروز كاتباً متعدد الاهتمامات في النقد الحياتي والفكري، وتلك التعالقات القائمة بين هاتيك الحالات .

إذا قلنا بمنطق فرانك أكونور، عن أن القصة هي فن اللقطة الخاصة، أو النادرة، فثمة لقطات كثيرة، عدا عن أن هذا التعريف لا يخلو من تقريرية، إذ من الطبيعي أن تكون هكذا، وإلا لفقدت صفة القصصية.

ثمة عبارة لفاليري، أراها مؤثرة، وهي أن " الأدب أسلوب دفاع عن إهانات الحياة ".

ما قرأته في كتابات أمل، وفي قصصه هذه، هو هذه " الخندقة " المفتوحة والمتحركة والمنفتحة على الحياة، دون ذلك، كيف يمكن رؤيته في أبعاده الشخصية الكتابية المختلفة ؟

ربما كان أمل في قصصه، يعيش مخاضات الحياة التي يتوق إليها، ليس لأنه يخطط لها، وإنما يضع نصب عينه " الثالثة " الكتابة، وهو أمل الآخر، أمل المأخوذ بكيمياء السرد المشعة.

ربما ما يستوقف قارئه، ما يصدُمه في شعوره، فكره، قناعاته، ويوقظ هوامياته أحياناً، كما لو أنه يستجيب لما ألمح إليه في مقال إليه ، وهو يلعب مع نصه القصصي بأسلوب الصدمة، حيث يظهر ذا نفَس طويل في قصص مختلفة، كما لو أنها هي التي تحدد في ذاته مساحتها وأفقها.

في وضع كهذا، وفي هذا المقام المحكوم بالزمان والمكان، لا يمكن متابعة كل هذا الكم الكبير من قصصه التي يمكن وضعها في عدة مجموعات قصصية " خمس منها على الأقل ".

سأشير إلى نماذج منها، دون أن أتجاهل سواها من خلال إشارات جامعة فيما بينها، حيث أضع أمامي قصته الأقدم في هذا الموقع " تورمالين، 27 تشرين الأول 2017 " والأحدث " حطام، 7 آب 2020 "، دون أن أغفل عن ملاحظة جديرة بالتنويه، وهي أن أمل في بعض الحالات، يضع تاريخاً لكتابة قصصه، ليس هو تاريخ نشرها، وكثيراً ما يتخلى عن ذلك، وفي الحالة الأولى، يمكننا ملاحظة ذلك في قصص البدايات هنا، وثمة مسافة زمنية معتبرة " تورمالين، مكتوبة، كما أشار إلى ذلك كاتبها، في 4 كانون الثاني 2014، ومنشورة في التاريخ السالف ذكره، وطلاسم أمومة، مكتوبة في 20 شباط 2015، ومنشورة في 21 تشرين الأول 2017، وهذا ما لا نجده في الكثير من قصصه الأخرى، وفي الأحدث مثلاً، كما في " عرَق، رجل في الحضيض، سمك في سفينة، حطام...الخ " ما تفسير ذلك؟ هذا متروك لكاتبها طبعاً، وما يمكن قوله، هو مكاشفات، ربما تكون لاشعورية، أو استنطاقية تسمّي ناطقها وليس الكاتب نفسه.



مع القصص

قولة أن الكاتب يكتب عما هو حياتي، ليست اكتشافاً، إنما حقيقة أدبية طبعاً، دون ذلك لا يمكن أن ينال موقعاً يسمّيه، إنما أي حياة، أي واقع هنا، يتم تسجيلهما باسمه؟

ربما هنا يكون الرهان، أو المحك. وما يمكنني قوله، هو أنه يتعامل مع حيوات، وقائع كثيرة، لكل منها شهادتها، أو لسان حالها، طريقتها في طرح نفسها سردياً.

وما يستشرف هذه الحيوات، والوقائع، هو خاصية المرارة التي تتخللها، الصدامات التي تتسينم لديه، إن جاز التعبير، حيث تتكثف لقطات سيمائية متعددة المساحات أو الزوايا في استدراج شخصياته المأهولة بالعذابات، بالقهر، بالتعقيدات، بشبقيات القتل، أو شغف العنف...الخ.

في " تورمالين " الطويلة نسبياً، ثمة دكتور، رجل غريب، زير نساء، ومنقسم على نفسه. لا يستفز في أحرج المواقف، إنما يتخذ القرار الذي يريحه، كما في علاقته مع كوثر، زوجته (ثم كانت تفرض عليه طرقاً محددة للممارسة دون أي تفاوض . وكان ذلك يجعله فاتر الهمة . أدرك أنها تحب القيادة في كل شيء ، كانت خالية من الروح ، وربما قاسية ، وهي فوق ذلك تعشق المال عشقاً جماً ، ورغم عشقها له إلا أنها لم تكن تنفقه ، بل تشتري به ذهباً وتخزنه ، ثم علم أنها استأجرت صندوقاً خاصاً بالبنك أودعت فيه ذهبها الذي بلغ أوزانا كبيرة وحين وصلت به أفكاره إلى هذه النقطة ..).

قصة مألوفة، غير أن طريقة سردها تمنحها بقاء في الذاكرة، ذاكرة من يعيش مناخات السودان، حيث يكون بلد الكاتب نفسه .

في " طلاسم أمومة " يشار هنا، ومنذ البداية، بطريقة سردية مختلفة، إذ يحضر الكاتب نفسه من خلال سارده، متحدثاً بأسلوب فلسفي، لا بل وتحليلنفسي، وحتى تاريخي ( لم يستطع أحد أن يؤرخ لبدايات انبعاث الحب في النفس البشرية ، فربما قد بدأت منذ الكلمة الأولى ، ولكن أمونة متأكدة بأن تاريخ الحب قد بدأ معها ، وربما أيضاً قد انتهى بها ،وهذا إحساس مشترك عند العاشقين ، فالحب يتحول إلى كائن آخر داخل جسد العاشق ويمارس سطوته عليه ووسواسه القهري وهواجسه اللعوب في العقل.


وبالحب يتشكل جنين سوريالي في رحم ظلمة الوحشة الإنسانية وفردانيتها البائسة ، ثم يأتي طلقه إلى الوجود حاملاً ملايين الرسائل المقدسة والسرية والغامضة إلى عالم متوتر متوحد مشوش وهائم في سيرورته بلا هدى.أو كما قال سارتر بين نقطتي الملل والأمل... أمونة هذه الفتاة العشرينية التي تعيش في قرية الشميخة على أطراف مملكة محمد علي باشا السودانية المصرية في أواخر عهدها ، صفراء البشرة صغيرة الشفاه ذات شعر طويل تميل فيه الخصلات بسوادها إلى اللون البني هذا الشعر الذي لم تره حتى نساء القرية ، ناهدة الصدر ، متوسطة الطول بقوام ممتشق كالرماح الأفريقية ، ولو أنها تخلت عن ملابسها التقليدية لما كان جسدها أقل رشاقة أو شبقاً من موديلات باريس . وإن لم تكن أمونة – رغم كل هذا- شاذة الجمال ، فهذا حال أغلب نساء هذه القرية التي يتشارك أهلها عذوبة النساء كما يتشاركون الفقر وصلاة الجماعة وعروبة هلامية المصدر. وكان حبها خطأً بكل المعايير ، فالحب لا يخضع للمعايير ولا للقوانين كعادته ، فهو آمور العربيد المتلاعب بصنيعة الآلهة عبر الحب. وهو نفسه الذي سقط فيه حتى كاد أن يموت بحسب أبوليوس.)

بينما حين نقرأ " رتق على جرف القارات 7 نيسان 2018 "، فنتعرف على لا تاريخ للكتابة

رجل يعيش مخاضات سياسية وفي مهب الخيارات الحزبية، وهو في مواجهة من يخاطبه باتخاذ قرار حاسم:

( لا تنظر لي بدهشة فلم يحن بعد الوقت لكي تكتب قصة حياتك فهي لم تبدأ بعد ، لقد قال دولوز بأن صنع حدث ما ؛مهما بلغ صغره؛ هو الأمر الأكثر صعوبة ، ومهمتي هي صنع الأحداث ، كما ستكون هذه هي مهمتك أيضاً ، أرى التساؤلات في عينيك الصامتتين دوماً .)

وما يشكل توصيفاً للمشهد المجتمعي السياسي ( لم يكن الصف الثاني من قيادات الحزب خالياً من الصراعات بل كانت الصراعات أكثر عنفاً لأن كل عضو منهم كان يستند إلى شخصية قوية من الصف الأول وكان يرغب في الحصول على منصب سياسي يمكنه من إدارة أعمال تجارية تدر عليه مالاً يضمن به مستقبله ، وهكذا تكونت مجموعة بقيادة (م م) في مواجهة مجموعة بقيادة (ت ع) ، كان (م م) يستند إلى رئيس جهاز الأمن والمخابرات ، في حين أن (ت ع) كان يستند إلى أحد مستشاري الرئيس ، وكان محل الصراع صفقة سلاح ذات تعقيدات شديدة ، وإزاء هذا الصراع لم يعد وقوفك فوق خط عدم الانحياز ممكناً بل كان عليك أن تتخذ قرارك الحاسم بالانضمام لإحدى المجموعتين ..).

وإذا انتقلنا إلى " يوم متمرد جداً 8 نيسان 2018 " فثمة نموذج حياتي مسرود من نوع مغاير لما ذكرتُ، حيث الموقف اجتماعي- سياسي، ومن خلال فتاة تعرّف بخاصيتها ( سأحكي لكم اليوم عن قصتي ، أنا جورجينا الفتاة ذات الثلاثة وثلاثين عاما ؛ غير متزوجة ، اقطن في غرفة صغيرة مستأجرة بحمام مشترك في حي فقير...، حلت في أميركا: يقولون ان امريكا هي الحلم ، وانا اقول انها الكابوس ، يقولون انها بلد الحرية ولكني اقول انها بلد العنصرية واضطهاد المرأة على اوسع نطاق ، المجتمع نفسه عنصري هذا اذا كان هناك مجتمع أساسا ..جرّاء قهرها قتلت أشخاصاً...: وجدت نفسي في السجن ، متهمة بعدة جرائم قتل من الدرجة الأولى وجريمة شروع في القتل .. ها أنا احكي لكم قصتي وانا من خلف القضبان ؛ لكي اخبركم كم انا سعيدة بذلك اليوم الذي لن انساه ولم ينغص علي سعادتي سوى فشلي في قتل مارك ، لكنني في كل الأحوال اشعر بأن الثلاثة والثلاثين عاما التي انقضت من حياتي لم تذهب هباء .... لقد قتلت ... نعم قتلت .. وهذا ليس بالشيء الهين... فكم شخصا منكم قام بقتل اعدائه منتقما من قبل.. كم منكم فعلها ايها الحمقى..).

من المؤثّر هنا، معاينة طبيعة النص المكتوب بوصفه قصة، وطبيعة الكاتب الذي لا يمكن القول عن أنه يطرح نفسها من خلال ساردها، إنما هي حقائق حياتية، ولكن، يبقى للكاتب ظل معين، بعض مما يفكّر، أو يتحسس، أو يعيشه داخله فيما يودَعه نصه هذا أو ذاك، لحظة ربط ما تقدم بكتاباته الأخرى، مقالاته، كما سنرى، وما في ذلك من تقارب وتباعد بين شخصية النص، وشخصية الكاتب، وما في هذا المضمار من مسارات خفية أحياناً، تمرّر رؤى معينة للكاتب.

وفي " على حافة الظلام 11 نيسان 2018 "، تكون الصدمة قائمة، رغم أن المسرود ليس فريد مجتمعه وعصره، جهة المثْلية، سوى أن قصقصة الموضوع، يضفي عليها نكهة، لا تُسمّي، وعلى مستوى الوصف بهذه السهولة. إنها قصة رجل زوج، مثْلي لا يطيق النوم مع زوجته، إنما في غرفة أخرى، ومع أمثاله يختلف الوضع، كما في علاقته مع الشاب الكوري ( لم يمضيا اكثر من اسبوع منذ الزواج ، لكنها لم تشعر بذلك الحب الذي كانت تحلم به ، ان تنام في احضان رجل وان تشعر بأنفاسه في انفها .. ان يمسد شعرها ليلا ويمنحها الامان قبل ان تنام ... كل تلك احلام الرومانسية انتهت منذ اول اسبوع لها معه ، هو يحبها وهي تدرك ذلك ، لكن نومه في غرفة اخرى شيء لم تحسب له حساب .)

وما يأتي نهايةً ( شعر بحرارة جسد الكوري على صدره مد اصابعه واخذ يمسح صدر الشاب الذي انقلب على جنبه ببطء ، احتضن جسد الشاب الكوري ... واغمض عينيه وغط في نوم عميق( ...

بالطريقة هذه، ربما يرفع أمل من سقف المسئولية الأخلاقية ككاتب في تعرية وقائع قائمة .

ولنجد تنوعاً في قصص مختلفة، ففي " هايبر ماركت، 13 نيسان 2018 ، يجري الحديث عن شاب يرفض الإهانة في العمل، وفي " الهوية المقدسة، 14 نيسان 2018 " نكون إزاء إعلان عن إلهة جديدة لأميركا وفرضها باسم القوة ..وما في ذلك من غزز ولمز سياسيين ومباشرين كذلك. وفي " الراقصة اليابانية، 21 نيسان 2018 " نكون في مواجهة بداية تفصِح عن نبرة منشغل بالتاريخ والأسطورة والموقف منهما، أي عن ثقافة خاصة تسم القصة ( خلق الخوف من الموت أغلب الأساطير ولا يزال ، يبدو الموت كمطلق ، رغم أن هناك فرق بين الموت والألم ولكن الناس يقرنون بينهما ؛ الألم سابق على الموت فلا يكون إلا في الحياة ، أما الموت فهو ببساطة انطفاء الطاقة المحركة للفرد (.

وليقول بلسان مختبر ما للحياة( جسدي يرتعش وأشعر بأن العالم أضيق من خرم إبرة .. وأنه شديد الظلام .. وأنني وحيد .. بلا أمل في المستقبل ... تنهار الأحلام .. بطن قدمي يتشنج .. وأكتافي تصاب بالتنميل .. أشعر بأن الزمن سيفترسني .. لا أعرف هو خليط من كل هذا وأكثر..)

ولنعيش مناخات صدمة جديرة بالتسجيل، إنها جريمة اغتصاب موظف، ومن عامة الناس الثائرين وأمام أعين البوليس، وما في ذلك من مكاشفة فظيعة لنخر الواقع المجتمعي والسياسي، أي قصة " موظف الحسابات، 6 أيار 2018 "

عبر تحويل موظف إلى ضحية اغتصاب، على مرأى من الحكومة، وهم ينفّسون غضبهم، وتلبية لصياح المرأة:

( قالت المرأة... لستم رجال ان لم تفعلوها به.... تراجعت الى الخلف ... وتزايدت حشود الجماهير محيطة بالموظف .. ورأيت بنطال الموظف يطير من ورائهم... سمعت صراخه المرعوب.... وسمعت صوت المرأة الحامل وهي تقول: افعلوها به ... يا ليتني كنت امتلك ما تمتلكون لما ترددت في ذلك...).

وفي " الشمس العروس.. قصة قصيرة ربع حقيقية، 18 حزيران 2018 " ثمة قصة فانتازية عملياً. بينما في " أنثى، 29 حزيران 2018 " فنتعرف على فتاة مقبلة عن الحياة ومترددة، في السن المحير( انها انثى كاملة ..كاملة أيا كانت طبيعة هذا الكمال... تقنع نفسها بذلك.. ثم تواصل البكاء..). وفي " أنوات 5 تموز 2018 "، وهي تدور حول

زوجين كبرا عمراً، ولم يعد بينهما سوى الذكريات ومعاناة التالي، وفي " عناكب الفوضى.. قصة حقيقية، 9 تموز 2018 " ما يستحق التعليق على الأقل، إذ إن مفهوم " قصة حقيقية " يخضع للمساءلة عن مغزاها، وما يكون مطلوباً من قارئها، إذا أراد التعرض لها، أي إنه من الأجدر ترْكها هكذا، وإلا لفقدت قيمتها الفنية، كما هو موقفي من ذلك.

طبعاً هناك مقالات وقصص عديدة، مكتوبة تحت اسم " بانياسيس " حيث الجانب المكاني- الزماني، يؤخَذ بعين الاعتبار، أي ما يصل بين كتابة أي قصة من هذا النوع، وأي مقال مشارك في هذا التنسيب .

في " الكف - 21 آب 2019 " يختلف السرد، وهو يأتي بأسلوب الضمير المتكلم، حيث المناخ ثقيل الوطء، وربما كابوس في حقيقة أمره ( إنني أتذكر يوم لقائي الأول بها حتى الآن رغم مرور أربع سنوات على طلاقنا . لأنه كان لقاءا غير عادي ، بل أقل من عادي. كنت جالسا على أريكة ناقلة ضيقة ، وهناك أريكة أخرى أمامي ، عربة النقل الضيقة كانت ترتجف وتئن وتصرخ ومن يقودها طفل في الرابعة عشر من عمره.).

هذا الأسلوب يغيّر لونه ومساره ومحتواه في " حنجرة الشوك، 14 تشرين الأول 2019 " وما يمزج السؤال بالجواب، التوصيف النفسي، بالوصف المشهدي الاجتماعي- السياسي كذلك ( ماذا تعنيه الذكريات؟ لقد اكتشفت أن الذكريات ليست صورا ، ليست وجوها بل ولا حتى مشاهد تغوص في ضبابية الوعي ، الذكريات وخزات من ألم.


... إنها لا تذكر سوى وخزات من الألم قد ارتبطت بوقائع فقدت أبعادها وبقيت الوخزات. تنخس القلب خادعة إياه فيظن أنها مواقف ما.


... كانت ملكة الوخزات ؛ عندما تلفتت لجنة الاستماع وبغير تداول -حتى- بل طردوها باحترام فائق بحيث يبلغ الاحترام حد الاحتقار.)

وفي نطاق سرد آخر يحيل الموصوف إلى غائب، في " عَرَق.. قصة قصيرة، 18 تموز 2020 " ( قطرات العرق تنولد من مسام جلده، مالحة جداً، العرق مخاض حقيقي ومستمر، مخاض للتعفن، تحت إبطيه، وبين فخذيه وإليتيه، وفروة رأسه. مكسواً بزحام اللزوجة، تلك التي تمتص الأتربة من الجو ، وتمتص أيضاً رائحة المنسحقين. سيمفونية متكاملة، يعزفها الجسد متنافراً مع محيطه. دقات القلب السريعة، الوخزات التي تتبادل أماكنها على ظهره وثدييه وباطن ذراعيه..

... ليس هناك خيار آخر، يقول الكيان، ويقهقه، فيقهقه معه. لن ينتهي حلمك أبداً..تقول الكثبان، الحلم بأن يكون لك خيار آخر..


...يطلق صرخة رعب أخيرة...فينطفئ المشهد.)

وما يأتي فانتازياً، ما يذكّرنا بأجواء قصصية كافكاوية، كما في قصته " تحقيقات كلب " أو سرديات فأر في " جحر " عندما نقرأ: أقرأ أنا قصة أمل " مكعب الثلج.. قصة قصيرة، 5 آب 2020 " وذلك عن حياة سرعوف، عاش ملايين السنين في ثلج صخري حبيس الظلمة طي كرة ثلجية، وهو يراقب متغيراته عبر خيوط الضوء المتسللة.

وتالياً يصعد إلى السطح، يراقب خيوط الضوء، أكبر مما رآه، " إنه يعيشها الآن "

( يبدأ العصر الجليدي فجأة؛ بهبوط سريع مباغت فيغمر الصحارى والغابات بالثلج..، لكنه باغت سرعوفاً شاباً، فجمده داخل مكعب ثلج.وعبرت الريح الباردة، فدحرجت المكعب حتى سقط تحت ثلم صخري مظلم.


سيظل السرعوف في حالة الموت والحياة حتى يبلغ عصر الجليد منتهاه.

لا شيء يخفف عنه انحباسه سوى دراسته لتلك الخيوط، عبر التأمل فيها، والتفكير العميق في سرها. كان مضطراً للتفكير، فقبل ذلك كانت حياته نشطة، إذ لا شيء يدعوه لإعمال عقله. أما بعد ما حدث، فقد أضحى التأمل ملاذه الأخير.

... لم يكن أمام السرعوف خيارٌ آخر. وفي آخر ساعة للعصر الجليدي، أحس السرعوف أن بإمكان فخذيه الصدفيتين خلخلة الثلج المحيط بهما. ازداد اتساع عينيه من الدهشة، فأخذ يرفس بقوة، أصبح مكعب الثلج هشاً، ومن زواياه رأى السرعوف، قطرات ماء تنساب وتتزحلق لتغيب في الظلمة. كانت رؤوس القطرات المنحنية تلمع، وداخل القطرات المتساقطة رأى السرعوف انعكاس صورته. أخضر الجسد بعينين واسعتين. بدأ مكعب الثلج ينصهر برتابة أسرع.)

وما أشير إليه في أحدث قصة " الحطام The Wreckage"

حيث المشار إليه في القصة يعيش بين مشهد سفنية محطمة على الشاطىء وصورة غريمه المقتول، وما عايشه من خيالات على الشاطىء: الخشب المتآكل، الدور تحته...صنعه لعريشة وتهاويها .

وربما جاء المقابل بالانكليزي ذا دلالة مغايرة أو معمقة جهة التفاعل مع النص نفسه. إذ يحيلنا العنوان إلى كلمتين، أو مفردتين أساساً " Wreck" وتعني " حطام السفينة الغارقة " التي يقذفها البحر إلى الشاطىء، و" Wreck-age " أي بالفصل بينهما، وهذه في تركيبتها تشير إلى الباحث عن سفينة كهذه، بغية نهبها أحياناً، أو قد يكون ذلك دالاً على المنبوذ اجتماعياً " ينظَر في المعنى بتوسُّع في قاموس المورد الحديث، بيروت، طبعة 2008 ". هناك علاقة بين السفينة الموصوفة سالفاً، والغريم المقتول. حيث كلاهما مقذوف خارج الحياة، سوى أن " الشخصية الشاطئية " إن جاز التعبير، هي من ينبغي النظر في أمرها، لمقاربة الحطام القيمي، أو النفسي والاجتماعي فيه .

مناخات القتل، الفساد الحدّي، المسوخيات النفسية، وتراكمات الكبت في النفوس، من الموضوعات الآخذة نصيباً ملحوظاً في قصص أمل، ولعلها مؤشر تاريخي، اجتماعي، ثقافي، على مدى انهمامه بمجريات أحداث مجتمعه، وبلده .

أهي خلاصة، إن قلت، إن أمل الكردفاني كاتب قصصي مقروء، وربما سيُقرأ في الغد وبعد الغد أكثر، من خلال المعمول والمهضوم، بطرق شتى في عوالمه القصصية، وهي ترفد ناقد المجتمع، مؤرخه، محلله، بأمثلة نافذة الأثر مما ذكرتُ.



أمل الكردفاني، في مهب الثقافي العام " 3 "

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى