سعد عبد الرحمن - قاهر العربان..

في سنة 1174 ھ تقلد إمارة الحج حسين بيك كشكش و خرج بركب الحجاج فوقف له العربان في أحد المضايق ، وحضر إليه كبراؤهم يطلبون عوائدهم التي تعودوا تحصيلها كل سنة من أمير الحاج نظير تركهم الركب يسير في طريقه و عدم التعرض له لا في الذهاب و لا في الإياب ، فأحضر الامير الشيخ خليل كاتب الصرة ( الصرة أموال تتضمن مرتبات رجال المحمل و أميري مكة والمدينة و أشرافهما و عوائد مشايخ العربان و ميزانية تشغيل التكيتين المصريتين بمكة و المدينة ) و أحضر الصراف و أمره بتسليم العوائد إلى وفد شيوخ العربان فشرع الصراف في عد الدراهم المقررة لهم كعوائد وقبل ان يكمل العد انطلق مدفع الشيل ( كان يضرب إيذانا بتحرك الركب ) فاعتذر لهم الأمير عن عدم إمكان استكمال أمر تسليم العوائد و طلب منهم أن يصبروا إلى حين نزول الركب في المحطة القادمة بعد المضيق فيحصلوا على عوائدهم .
و سار ركب الحجاج فخرج من المضيق إلى مكان متسع و حينئذ رتب الأمير مماليكه و طوائفه و حين حضر وفد العربان لتسلم عوائدهم أمر رجاله فقبضوا عليهم و قتلوهم جميعا و فيهم نيف و عشرون كبيرا من مشايخ العربان ، و انطلق المدفع مرة أخرى فسار الركب في طريقه ، و اضطربت قبائل العربان و راحت نساؤهم يصرخن و يولولن على المشايخ القتلى و يطلبن من الرجال الأخذ بالثأر ، فتجمع العربان على الركب من كل جهة محاولين اعتراض قافلة الحجاج و إيقافها لنهبها و قتل كل من فيها ثأرا لقتلاهم ، و كانوا يفعلون ذلك في المضايق لأنها أنسب الأماكن للنيل من ركب الحجاج ، و لكن الأمير حسين بيك كشكش راح يتصدى لهم من أمام و خلف و ظل يقاتلهم بمماليكه و طوائفه حتى وصل إلى مصر بركب الحجاج سالما و معه رؤوس مشايخ العربان محمولة على الجمال ، و دخل المدينة بالمحمل منصورا مؤيدا .
كان لبعض الأمراء من خشداشي حسين بيك كشكش ( خشداشيه أي زملاؤه الذين تربوا معه أو بالتعبير الحديث زملاء السلاح من دفعته ) و غيرهم رأي آخر فيما فعله فقد لامه علي بيك بلوط على ما فعله قائلا له لقد أفسدت علينا العربان و خربت طريق الحاج و لن يستطيع احد منا العام المقبل الخروج بركب الحجاج فرد عليهم كشكش بيك أنهم إذا كانوا خايفين من العربان فإنه على استعداد أن يخرج هو بركب الحجاج و أنه كفؤ لهم.
و خرج بالفعل حسين بيك كشكش بالركب للعام الثاني على التوالي ، و رغم أن العربان تجمعوا عليه و وقفوا له بكل طريق و على رؤوس الجبال و لكنه كان مستعدا لهم فلم يترك لهم فرصة للاقتراب من الركب و صمد في وجوههم و طاردهم من أمام الركب و خلفه و قتل منهم عددا كبيرا حتى شتت شملهم و شردهم ، لم يكن مع كشكش بيك سوى ثلاثمائة مملوك خلاف من خرجوا معه من الطوائف و الأجناد و عسكر المغاربة ، و بالرغم من أن العربان كانوا متجمعين بأعداد كثيرة و لكنه لم يبال بكثرتهم رغم قلة من معه من المقاتلين بالقياس إلى أعداد العربان المهاجمة ، و كان من الشجاعة بحيث كان يبرز إليهم بسيفه حاسر الرأس فلا يرجع إلى الركب حتى يولوا من أمامه الفرار ، و ما زال يوقع بهم الهزيمة بعد الهزيمة حتى ألقى في قلوبهم الرعب فهابوه و غدوا ينكمشون عن ملاقاته بعد أن فشلوا في مواجهته فشلا ذريعا .
كان من تأثير ذلك أن تراجع العربان عن مهاجمة ركب الحاج المصري خوفا و رهبة من الأمير حسين كشكش بيك الذي حج أربع سنوات أميرا لركب الحجاج آخرها كان سنة 1177 هـ فلم يتعرض له في ذهابه و لا في إيابه أحد من العربان.
كما أخاف كشكش بيك أيضا العربان الكائنين حوالي مصر ( القاهرة ) و كثيرا ما كانوا يقطعون الطريق على المسافرين و الفلاحين و يسلبونهم ما يجدونه معهم من أشياء و أموال ، فكان يخرج إليهم كل حين على حين غفلة فيوقع بهم و يقتلهم و يصادر مواشيهم و يرجع بما غنمه منهم و رؤوس من قتلهم في أشناف ( الشنيف شبكة من حبال الليف تعبأ بما يراد نقله على الدواب من أشياء ) على الجمال ، فارتدعوا و كفوا عن أفاعيلهم السيئة ، و أصبحت بفضله السبل آمنة يسير الافراد و القوافل بها في غاية الاطمئنان ، و شاع ذكره بذلك .

سعد عبد الرحمن

* ( من كتاب " عجائب الآثار في التراجم و الأخبار " للجبرتي بتصرف )


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى