د. محمد حماسة - رحلتي مع الشعر (الجزء الثاني)

في المرحلة الثانوية عرفت دار الكتب بفضل بعض أساتذتي في المعهد الديني، فبدا لي أن الباب الذي ظننته من قبل واسعًا ما هو إلا كوة صغيرة جدًّا على عالم الشعر، ووجدتني أمام تيارات جارفة، وأرفف عالية تحوي كنوزًا من المعرفة تحتاج إلى أعمار مضاعفة حتى ينال المرء منها قسطًا محدودًا. ولكن الاختيار كان واضحًا لي، إذ توجهت إلى كتب الأدب في هذا الوقت، وكان هذا الجانب نفسه واسعًا جدًّا، فكنت أقرأ ما يتاح لي منه على غير اختيار. ولم أكتف في هذه المرحلة بما يتيحه الوقت المحدود من قراءة في دار الكتب، بل كنت أقتطع مما يعطيني أبي لإقامة الحياة في القاهرة قروشًا قليلة أشتري بها بعض الكتب المستعملة التي كان باعتها يعرضونها أمام مسجد الجامع الأزهر، حيث كنا نذهب إليه قبل صلاة العصر إلى ما بعد صلاة العشاء للمذاكرة في معظم أيام الأسبوع. وكلما قرأت شيئًا أدركت أن بيني وبين ما أريد من الشعر بونًا بعيدًا تتقطع دونه الأنفاس.
وفي المرحلة الثانوية تكشف لي كثير من الأمور. أدركت وزن الشعر دراسة بعد أن عرفت بعضه اجتهادًا، وبدأت أكتب كلامًا موزونًا مقفى أعرضه أحيانًا على زملائي فيستحسنه بعضهم، ولا يراه بعضهم حسنًا، وليس بين زملائي وقتها من يقول الشعر أو يهتم به أو يحاوله. في هذه المرحلة كانت نفسي تتطلع إلى من أجلس إليه يستمع إلى ما أكتب من شعر، ويبدي لي فيه رأيًا. وفي شهور الصيف في قريتي لم أجد أحدًا يمكن أن يكون له هذا الاهتمام، ولذلك كنت أسير على قدميَّ مسافات طويلة لأجلس إلى صديقي عبد الفتاح علام – عليه رحمة الله – الذي كان يسبقني في الدراسة بسنوات، ويكبرني في السن بأكثر من سنوات سبقه الدراسي، وكان له اهتمام بالشعر، وكان يحاول شيئًا منه، ولكن محاولاته لم تكن على مستوى محاولاتي، ولذلك أعجب بي، وأفسح لي مجال مصادقته برغم فارق السنّ، وكنت أذهب إليه في قريته المجاورة، وأقضي معه وقتًا طويلا، وأحيانًا أعود إلى قريتي وحدي في ظلام الليل الدامس، وفي الطرقات المخوفة المحفوفة بعدد من المخاطر، وأذكر أنه زادت علاقتي به وثوقًا عندما كتبت إليه مرة قصيدة أهنئه فيها بالعيد وأشكو له لواعج الشوق من حب من أحبها في هذه الفترة، وفي ختام هذه القصيدة أقول:
أشكو إليك وما أخاف ملامةً * فمِن اسمها قد رُكِّبت أتراحي
فالزاي زادت في هواي تضرما * والياء قد جلّت عن الإفصاح
والنون نلت من الصبابة ما ذوى * بنضارتي فَدُرجت في الأشباح
والباء بعد وابتلاء أحبة * فاحفظه سرًا بين صدرك صاح
هذي الشكاة زفرتها ومدامعي * تهمي كصوب الهاتن السحّاحِ
فأجابني العيد السعيد بقوله: * أبدلت منها عابد الفتاحِ
فامرحْ وغنّ وكن بيوميَ نَاعمًا * واملأ فضاء الأفْق بالتصداحِ
كان الحب في هذه المرحلة خيالاً أعيشه وحدي، لا يدري الطرف الآخر عنه شيئًا على الإطلاق، وأجد هذا الحب وقودًا يذكى نار الشعر ويلهب أوراها. وفي هذه الفترة كان هناك شاعر يحضر كل عام ينشد قصيدة في حفل بمناسبة المولد النبوي يقيمه أقارب لي، كان اسمه عبد المنعم عبد الله، وهو والد المطرب الذي توفي شابًا واسمه عمر فتحي، كان هذا الشاعر صديقًا لأحد أقاربي هؤلاء، وكنت أحسّ أن فقرة إلقاء القصيدة في الحفل تخصني وحدي، ومن المؤسف أن هذا الشاعر توفي شابًّا أيضًا، فرأيت أن أخلفه في فقرة الشعر، فكنت أستعد للمناسبة بإحدى القصائد التي أسعد بإلقائها في هذا الحفل السنوي، وكنت أغرب في اختيار الألفاظ، وكأني منفلت من العصر الجاهلي، ومثال ذلك ما أقوله في إحدى هذه القصائد عن الهجرة النبوية:
لبستْ قشيب الذكر ذكرى تعبقُ * بشذا البطولة كلّ عام تشرقُ
ذكرى بصاحبها تهيم تلهّفا * مضغٌ تلَظَّي في الضلوع وتحرقُ
وترنّ إرنان الرَّقُوب قلوبنا * شوقًا إليها، والكرامُ تشَوَّق
ولكن ملاحظة والدي – رحمه الله – على هذه القصيدة جعلتني في العام التالي أجنح إلى شيء من السهولة واليسر وأبتعد عن الألفاظ المقعقعة إذ قال لي: إنك تكتب لنفسك لأن أحدًا من الحاضرين لم يفهم عنك شيئًا.
حاولت بالحب أن أليّن لغتي، فكتبت لذكاء – وهي الفتاة التي تزوجتها فيما بعد – عددًا من القصائد، وعندما أقول كتبت لها أقصد أنني كتبت عنها؛ لأنها لم تر شيئًا مما كتبته في هذه المرحلة حتى الآن، كتبت أهنئها بالنجاح:
إذ رفّ النسيم مع الصباح * وداعب غض أوراق الأقاحِ
وسال النور من شمس ضحوك * ليوم باسمٍ كالحب ضاحِ
وغردت البلابل لحن فوز * جميل في الغدوّ وفي الرواحِ
فلا تنسَيْ فؤادا ذاب وجدًا * يزف إليك تهنئة النجاح
نجاحك يا ذكاء روى صداه * وأطفأ فيه آلام الجراح
هنيئًا يا ذكاء فكل حدّ * حريّ أن يكلل بالنجاحِ
وكتبت فيها أيضًا :
طلعت ذكاء بحسنها تتألق * وبدتْ فخلت ذُكاء أخرى تشرق
تزجي برقّتها القلوب لساحها * سِيّان من يهوَى ومن لا يعشق
والشمس إن طلعت ترى عبادها * ولّى إليها الوجه حيث تحلق
طلعت ذكاء فهبّ قلبي كي يرى * ذوب الجمال بوجهها يتدفّق
فرأى الضلوع تحول دون مراده * فمضى طوال الليل فيها يخفق

كنت أحتفظ بهذا الشعر، وغيره من شعر هذه المرحلة في أوراقي الخاصة، ولكنه ضاع جميعه مع أوراق أخرى غالية على القلب بعضها يتضمن خطابات والدي وبها شيء من شعره عندما انتقلنا إلى بيتنا الذي نقيم به الآن. وفي المرحلة الثانوية اقتربت من عدد من أساتذتي الذين كانت لهم شهرة في المجتمع الثقافي والاجتماعي. وأول هؤلاء المحقق العلامة السيد أحمد صقر، وأحمد الشرباصي، وفتحي عبد المنعم، وعبد الفتاح سالم، وعبد المنعم النمر. وكان للسيد صقر أسلوب مختلف عن زملائه في التدريس وكان يدرس لنا البلاغة؛ إذ كان يعتمد على إقرائنا نصوصًا من أمهات كتب الأدب ويطلب إلينا أن نبين فهمنا الأدبي لها، وكان لا يلتفت إلى الكتاب المقرر، وإذا التفت إليه فلكي يبين ما به من أخطاء.
وكان مما لفت نظر الأستاذ السيد صقر إلىّ أنه طلب مني أن اقرأ أبياتًا في كتاب ( يتيمة الدهر) للثعالبي، وهي أبيات لسيف الدولة الحمداني يقول فيها:
أقبِّلُه على جزعِ * كشرب الطائر الفزعِ
رأى ماءً فأطمعه * وخافَ عواقَب الطمَعِ
وبعد قراءتها طلب إليّ التعليق عليها، ولم يكد يسمع مني الجملة الأولى التي قلت فيها: “هذه أبيات راقصة” حتى قال: “كفى، عرفنا من تكون”، وقربني منه بعد هذه العبارة القصيرة، وقال لي بعد الفصل: أنت تكتب الشعر؟ فقلت له: نعم. كيف عرفت؟ قال: التعليق الذي قلته على أبيات سيف الدولة لا يقوله إلا من يحب الشعر ويحاول كتابته، وسألني أن أسمعه شيئًا من شعري، فأنشدته قصيدة مطلعها:
جاءت إلىّ وكان الشوق حاديها * والحب أنشودة كانت تغنيها
فأخذني معه وجعلني أنشدها للطلاب في الفصول الأخرى. رحم الله هذا الأستاذ الشجاع الذي كان يشجع تلاميذه ويأخذ بأيديهم. وكان يطلب إلى بعض الطلاب – وكنت واحدًا ممن طلب إليهم ذلك – أن يذهب إلى قسم المخطوطات بدار الكتب ليحقق إحدى القصائد المقررة ويقارن بين الأصل الموجود في الديوان المخطوط والنص الموجود في الكتاب، ويكشف مدى التجاوز والتغيير، ويعرفنا النتائج التي تترتب على هذا التصحيف والتحريف. وقد أفدت من تدريس السيد صقر ما لم أفده من الكتاب المقرر الذي كان بعض الطلاب يحتجون به على السيد صقر ويتنادَوْن من آخر الفصل: “الكتاب!” فيرد عليهم قائلاً: “يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم”.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى