مقتطف سعد عبد الرحمن - ثورة أبي ركوة..

أبو ركوة هو الوليد هشام بن عبد الملك بن عبد الرحمن الأموي ولد بالأندلس و قدم القيروان و اشتغل بتعليم القرآن للصبيان مدة من الزمان ثم تراءى له أن يتلقب بأمير المؤمنين الناصر لدين الله و أخذ يتردد ما بين الإسكندرية وبرقة يدعو إلى نفسه و يأخذ البيعة حتى عظم أمره و حينذاك بعث إليه الحاكم بأمر الله (996 - 1021 م) جيشا يقوده ينال الطويل التركي في النصف من شعبان سنة 395 هجرية فواقعه أبو ركوة و قتله و قتل معظم عساكره و ظفر من الأموال و الخيل و السلاح و النعم الجليلة ما قوي به أمره و اشتد بأسه.
و شرع الحاكم في تجريد حملة جديدة لقتاله و ندب لتلك المهمة القائد أبا الفتح فضل بن صالح و لقيه أبو ركوة بذات الحمام ( منطقة قريبة من الإسكندرية ) و دارت بينهما عدة معارك كانت الغلبة فيها لأبي ركوة الذي احتوى على ما لعساكر الفضل من مال و سلاح.
و كان من تدبير الحاكم أن دعا بوجوه رجاله و قواده فأمرهم أن يكاتبوا أبا ركوة و يعرفوه أنهم على مذهبه و رأيه و أنه إن توجه إليهم و قرب منهم صاروا في جملته و قاتلوا معه و ذكروا ما يقاسونه من قتل وجوههم و أكابرهم و أنهم لا يأمنون على أنفسهم في ليلهم و لا نهارهم ، فلما تواتر ذلك عليه وثق به و لم يشك فيه و حشد جموعه و وعدهم بأموال مصر و نعمها فساروا معه إلى مصر.
عندئذ انتدب الحاكم عليا أبا الحسن بن فلاح لمهمة القضاء على أبي ركوة و سيره إلى ضبط بركة الحبش ( بركة كانت في ظاهر الفسطاط من الناحية الجنوببة ما بين الجبل و النيل و قد تملك أرضها بعض الرهبان الأحباش فنسبت باسمهم ) في عسكر فأقام بها أياما ثم عدى إلى الجيزة و تلاحقت به العساكر برا و بحرا ، و اضطربت الأسعار بمصر و شح الخبز و بيع مبلولا ستة الأرطال منه بدرهم.
و خلع الحاكم على القائد فضل بن صالح الذي سار من الجيزة بينما أقام ابن فلاح في مضاربه بالجيزة ، فلما كان في الثامن عشر من ذي القعدة وقع في الناس خوف في الليل و ضجيج فنزلت العساكر طائفة بعد طائفة و الناس جلوس في الشوارع و على أبواب الدور ليلهم كله يبتهلون بالدعاء بالنصر فلحقت هذه العساكر بابن فلاح و هو بالجيزة فسير عسكرا إلى الفيوم و أقام على خوف و وجل ، فبلغ أبا ركوة ذلك فداهمه و كبس عسكره و نهب سواده و وقع قتال شديد بين الفريقين فقتل خلق كثير من أصحاب ابن فلاح و جرح خلق لا يحصى ، و لما نزلت خزانة السلاح ( مكان لصناعة الأسلحة و حفظها أيضا و المقصود بنزول الخزانة هنا نزول محتوياتها من السلاح ) من عند الحاكم مع قائد القواد و عظم البكاء و الضجيج على شاطئ النيل لكثرة القتلى من العساكر منع ابن فلاح من حمل الموتى إلى مصر و أمر بدفنهم في الجيزة و افتقد كثير من العساكر فلم يعلم لهم خبر و لم يسلم من العساكر إلا القليل فغلقت الأسواق و جلس الناس في الشوارع غما و حزنا على ما جرى لعساكر ابن فلاح و تزايد بكاء الناس على من فقد من آبائهم و معارفهم.
ثم ورد الخبر بدخول أبي ركوة في جموعه إلى الفيوم فسار إليه الفضل بن صالح و معه علي بن صفوح بن الجراح لقتاله فالتقى معهما في الثالث من ذي الحجة و كانت بين العسكرين وقعة عظيمة قتل فيها ما لا يحصى كثرة و كانت الدائرة هذه المرة على أبي ركوة و كان عدد رؤوس القتلى التي حضرت من الفيوم أكثر من ستة آلاف رأس و مائة أسير فطيف بهم في البلد ثم قتلوا بالسيوف بعدما لحقهم أنواع البلاء بيد العامة ، يصفعون أقفيتهم و ينتفون لحاهم ، و تواتر مجيء رؤوس القتلى و الأسرى من عسكر أبي ركوة.
و بعد هزيمته المنكرة في الفيوم هرب أبو ركوة إلى الجنوب حتى دخل بلاد النوبة و اختفى في دير أبي شنودة و تتبعه القائد فضل بن صالح و كتب إلى ملك النوبة بالقبض عليه فقبض عليه في ربيع الأول و أتى به القائد فضل إلى بركة الحبش ثم سار به إلى قصر الحاكم و اجتمع الناس من كل جهة فكان جمعا لم ير مثله كثرة و ازدحمت الدور و الحوانيت بالناس طول الطريق ليتفرجوا على أبي ركوة ، و عند باب القصر أوقف ساعة مع الإهانات البالغة ثم سير به إلى مسجد تبر ( مسجد كان يقع ما بين الجبل و القرافة و سمي على اسم أحد الأمراء الإخشيديين) و العامة يصفعونه و ينتفون لحيته و يرجمونه بالحجر و الآجر حتى بلغ المسجد فضربوا عنقه و صلبوا جثته فكان يوما عظيما مهولا من كثرة اجتماع الناس.
من كتاب " اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا" لتقي الدين المقريزي بتصرف


سعد عبد الرحمن

- من الكتاب المخطوط " مائة حكاية و حكاية من التاريخ " :


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى