أ. د. محمد حماسة - رحلتي مع الشعر (الجزء الرابع)

في الشهور الأولى من السنة الرابعة الثانوية دعانا السيد أحمد صقر نحن الثلاثة، وطلب إلينا أن يعد كل واحد منا قصيدة في مدح الأستاذ العقاد لكي نزوره ونلقي عليه شعرنا في مدحه والثناء عليه، ولم نعرف الغرض من هذه الزيارة إلا أننا سعدنا بالفكرة، ونهضنا للمهمة التي كلفنا بها، واتفقنا فيما بيننا أن تكون قصائدنا من بحر واحد هو الكامل، وأن يكون الروي واحدًا هو الدال المكسور المردفة بالألف – وهذا بالطبع حتى تسمح بالكلمة (العقاد) – وألاّ يُطلِع أحدُنا الآخرَ على القصيدة إلا يوم إلقائها أمام العقاد نفسه.

وبعد أن انتهينا من قصائدنا أبلغنا أستاذنا السيد أحمد صقر، فحدد لنا يوم الجمعة إذ كانت ندوة العقاد تبدأ في الحادية عشرة من صباح يوم الجمعة كل أسبوع، وحدد لنا المكان الذي ننتظره فيه في ميدان روكسي بمصر الجديدة، وذهبنا إلى المكان المحدد، وانتظرْنا أستاذنا وقتًا طويلاً، فقررنا الذهاب إلى بيت العقاد بدونه، وذهبنا، وكانت القاعة غاصة بكثير من زملائنا الذين تسرب إليهم خبر هذه الزيارة، وهناك وجوه طبعًا لمشاهير من رجال الثقافة والأدب والفن، وكان العقاد حين دخلنا هائجًا غاضبًا، يتكلم بكلام ثائر، وعرفنا من خلال حديثه الغاضب أن بعض الحاضرين أثاره بسؤال عن الشعر الحرّ، فكان مما يقول إن القافية ضرورية للشعر، لأن الشعر فن له قيوده، وكل فن له قيوده، ولا يكون الفن فنًّا إلا إذا حقق هذه القيود، وإليك ديوانًا من دواوين الشعر الصيني، انظر في آخر الأسطر وأنت لا تعرف الصينية، فسوف تجد أن الحرف الأخير من كل بيت – وهو حرف الْقافية – يتكرر في كل بيت، أي إن الشعر الصيني يلتزم بقاعدة الشعر والقافية فيه استجابة لهذا الالتزام. وكان هذا الكلام جديدًا عليّ تمامًا، ولما سكت عن العقاد الغضب عم القاعة سكون شامل مهيب، وكان هناك شاب يتحرك بين الجالسين ويشير لحامل العصير أن يوزع عليهم، وعرفت بعد هذا أنه عامر العقاد ابن أخي الأستاذ العقاد، فانتهزت فرصة مروره بجانبي، وقلت له إنّ معي قصيدة في مدح العقاد وأريد أن ألقيها عليه، فقال لي مرحبًا: إن الأستاذ لا يهدأ إلا بالشعر، وقَدَّمني لجمهور الحاضرين، ووقفت متشجعًا بما قدمني به، وبدأت أنشده قصيدتي، وكانت هناك مقدمة، بعدها أقول:

يا سيدي هذي تحية مبتدٍ * متعثِّر في ساحة الإنشاد
حار اليراع براحه متهيبا * وتعللت شفتاه: جف مدادي
فهناك قال القلب خذني ريشة * واكتب بها من لوعة الأكباد
ساح الملام بما سأملي ضيّقٌ * لا سيما في ساحة العقاد

وعندما ألقيت البيت الأخير رجّ تصفيق الحاضرين – وأغلبهم كما قلت من زملائنا بالمعهد – أرجاء القاعة، فازداد تماسكي وقويت شجاعتي ومضيت:

لكن ترى ماذا أقول ومدحه * شدو الصوادح واستمار النادي؟
أأقول نبع ترتوي في غبطة * منه العقول كنهر نيل الوادي
أأقول شمس للمعارف أشرقت * أأقولها والشمس دون مرادِي
فالشمس تشرق ثم تغرب وهو من * إشراقه أبدًا سنًا متهادِ

وقد قوطعت بالتصفيق أكثر من مرة، ولما أنهيت إلقائي هبّ العقاد واقفًا فرأيته عملاقًا شامخًا، ومدّ يده إلى مصافحًا وقال لي: هات القصيدة، فأعطيته إياها، ولم يكن عندي نسخة أخرى منها، وما بقي منها بقى في ذاكرتي. بعد هذا قدم أحمد درويش نفسه قائلاً: وهذا مبتدئ آخر، وألقى قصيدته، وقام حامد فألقى قصيدته. وحضر أستاذنا بعد أن فرغنا من إلقاء قصائدنا، وعرفنا بعد أنه تأخر لصلاة الجمعة، وبعد أن انتهت الندوة استبقانا الأستاذ العقاد مع السيد صقر، وسألنا: هل أنتم طلاب في دار العلوم؟ فقلنا له: إننا مازلنا في الرابعة الثانوية بالمعهد الديني، فنصحنا بدخول دار العلوم وظل يتكلم عن دار العلوم ودورها في الحياة الثقافية وأن الحركة إليها ذهابًا وجيئة أشبه بخط النمل، مما جعلنا نعقد العزم على الالتحاق بدار العلوم. وقال لنا عن السيد صقر: إن أستاذكم هذا رجل مجهول القدر في هذا البلد!

خرجنا من بيت العقاد قرب العصر ونحن نكاد نطير من النشوة والسرور، فقال أستاذنا: سنذهب الآن لزيارة شخصية أخرى مهمة لا تقل عن العقاد أهمية، وسألنا: من؟ فقال: الأستاذ محمود شاكر. ولم نكن نعرف عنه حتى ذلك اليوم شيئًا، وذهبنا معه طائعين. وفي بيت الأستاذ شاكر وجدنا جمعًا أقل عددًا ولكنهم – فيما بدا من سمتهم – من الصفوة، ومن أسمائهم عرفنا أن بعضهم من البلاد العربية فكان من سوريا راتب النفاخ، وإحسان النص، ومن الأردن ناصر الدين الأسد، ومن السودان عبد الله الطيب، ومن مصر عدد أولهم الشاعر محمود حسن إسماعيل. والمضحك في هذا اليوم أن أستاذنا السيد صقر طلب منا بعد أن ذهبنا إلى بيت الأستاذ شاكر أن نخلو إلى أنفسنا في “الفرندة” ونكتب تحية بالشعر للأستاذ محمود شاكر. واستجبنا وحاولنا، وكتب كل منا أبياتًا في غاية الغثاثة والرداءة. وكان هذا حدثًا ظللنا نضحك له ونخجل منه زمنًا طويلاً. عندما أذن لصلاة المغرب هبّ جميع الحاضرين للصلاة، وأمَّهم صاحب البيت الأستاذ محمود شاكر وبعد الصلاة استنشده الحاضرون قصيدته الفريدة (القوس العذراء) وبدأ في الإنشاد، وتلبسه روح مختلف أثناء الإنشاد، وبعد قليل فك رباط عنقه، واستمر في الإنشاد وبدأ يتصبب عرقًا مع أن الوقت كان شتاء وبعد أن انتهى من إنشاده قال: (إن الشعر العربي ينبغي ألا ينشد إلاّ في زي عربي، لأن هذا الزي لا يناسبه).

عندما استمع إلينا أستاذنا فتحي عبد المنعم قال: لابد أن نعقد لكم ندوة بالمعهد لكي يسمعكم زملاؤكم، وطلب من شيخ المعهد أن يوافق على عقد هذه الندوة ووافق شيخ المعهد على أن تكون يوم الخميس بعد انتهاء اليوم الدراسي. وتحدد اليوم، وأعلن عنه، وعن القاعة التي ستكون فيها الندوة، ولما جاء الوقت المحدد لم يكن في القاعة معنا نحن الثلاثة سوى فتحي عبد المنعم. وانتظرنا بعض الوقت ولم يحضر أحد، ولست أنسى حزن فتحي عبد المنعم يومها وأسفه الشديد من أجل ما آلت إليه أمور الطلاب وأمور إدارة المعهد التي تعسفت في تحديد هذا الموعد، مع أننا كنا نضحك ساخرين.

اكتشفنا أنه لم يكن بالمعهد غيرنا يكتب الشعر عندما دعا شيخ المعهد – وكان اسمه الشيخ محمد سباق – كل من يكتب الشعر من الطلاب للالتقاء به في مكتبه في موعد حدده لذلك. في الموعد المضروب لم نجد أحدًا سوانا نحن الثلاثة في مكتب شيخ المعهد، وألقى إلينا بالمهمة المطلوبة وهي أن يكتب كل منا قصيدة عن (الميثاق) الذي أصدره المؤتمر الوطني في عهد جمال عبد الناصر، وسوف يقام احتفال كبير بهذه المناسبة ويوزع فيه أيضًا جوائز المتفوقين دراسيًا – وكنت منهم طوال سنى الدراسية بالمعهد – وسوف نختار قصيدة واحدة فقط للإلقاء في هذا الحفل، عندما خرجنا من مكتب شيخ المعهد بادرنا أحمد بأن عنده قصيدة جاهزة في الميثاق – وكان عضوًا بالمؤتمر الوطني – وقال حامد: إنه ليس لديه الرغبة في المشاركة في هذا الحفل. وليلة الحفل سألني زملائي الذين كنت أسكن معهم عن قصيدتي التي سأقدمها لشيخ المعهد غدًا، فقلت لهم إن هناك قصيدة واحدة هي التي ستلقى، وأنا لم أكتب شيئًا حتى الآن فاستحثوني على الكتابة، وقالوا: إن شيخ المعهد سوف يدعكم جميعًا تنشدون قصائدكم إذا قدمتموها له. فأخذت – وكان ذلك في التاسعة مساء – في كتابة قصيدة أذكر منها في المطلع :

من وحي عبد الناصر العملاق * صيغت إليك مبادئ الميثاق
وحيٌ تنزَّل كي يشيد دعامة * للمجد، والتاريخ، والأخلاق

وأنهيتها ببيتين أحيي فيهما شيخ المعهد قائلاً:

وإليك يا شيخي الكريم تحية * فلكم نرى من عطفكم ونلاقي
ولقد سبقت إلى المحامد كلها * حتى دعيت محمد بن سباق

وفي الصباح أعطيت القصيدة لشيخ المعهد، وقبل بدء الحفل بدقائق وجدت شيخ المعهد بنفسه ينادي على من اسمه محمد حماسة فدخلت مكتبه وكان حوله مجموعة من المشايخ، فقال لي: إن قصيدتك هي التي اختيرت وسوف تلقيها في الحفل بشرط واحد هو ألا تلقي البيتين الأخيرين منها، فقال أحد الحاضرين وهو الشيخ عبد الوهاب فايد – وكان معروفًا بمعارضته لكثير مما في النظام الأزهري – يا مولانا، وهل اختيرت هذه القصيدة للإلقاء إلا من أجل البيتين الأخيرين؟ وأعجبت بجرأة الرجل وصراحته. وفي هذا اليوم تكشفت لي أمور كان مغطَّى على بصري فيها لم يزدها توالي الأيام إلا تأكيدًا. في صبيحة اليوم التالي أدار الدكتور عبد الفتاح سالم – وهو أستاذنا في التفسير – الحصة على قصيدتي، وكانت أول مرة أسمع فيها نقدًا على عمل لي، وكان لطيفًا متسامحًا، يقيم نقده على المعطيات اللغوية، وقد وقف طويلاً أمام (فلكم نرى من عطفكم ونلاقي)، وكان يضحك كثيرًا وهو يتهمني بالمكر في حذف مفعول الفعل (نلاقي) ويقول: حددت ما يُرى وهو العطف ، وحذفت ما “نلاقي”، إن الفعل “نلاقي” لا يستعمل إلا فيما يدل على معاناة ومشقة، فلعل التقدير (ونلاقي صنوف العنت) أو (أنواع الهوان) ويغرق في الضحك أكثر، وهو يقول : أية محامد سبق إليها شيخ المعهد، لقد أغرتك مادة (الحمد) ومادة (السبق) فجعلت منه سبَّاقا إلى المحامد كلها، إنه سباق لغوي، وحمد لغوي، وهو كذب، ولكن أعذب الشعر أكذبه. ويسترسل في شرح معان لم تخطر لي على بال بطبيعة الحال، ولكن كان لكثير مما قال أثر كبير في نفسي المتطلعة، وكان ما قاله أحسن ما حظيت به في معهد القاهرة الديني الذي ظفرت فيه بصحبة رفيقي درب الشعر حامد طاهر وأحمد درويش، وكانت مناقشتنا المستمرة إحدى وسائلنا في تطوير أدائنا الشعري.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى