أمل الكردفاني - بين مغفلة تشيخوف ونيتشة والشعوب الفاشلة..

تداولت الوسائط قصة قصيرة لتشيخوف تسمى ب"المغفلة"، ولقد وجدت أيضاً فيديو تمثيلي لها، ربما أقصى من روعتها الكثير، وذلك لعدة أسباب، من ضمنها:
كانت الخادمة (المغفلة) ممثلة جميلة جداً. وهذا لا يتناسب مع القصة البتة وإن كان طبيعياً في دول القوقاز أن تكون الخادمات حسناوات. لقد سألني صديق لماذا تطلب حسناوات القوقاز الزواج بنا نحن القبيحين. فأخبرته ضاحكاً بأن الوفرة تقلل الأسعار. فروسيا دولة ظلت تحتفظ بنظام الأقنان أو عبيد الفلاحة حتى وقت ليس بالبعيد.
السبب الثاني، لضعف المنتج الفيلمي، وهو أن الفيلم تطبيق مباشر للقراءة، والقراءة بطيئة السرعة، وليست كالحوار المسموع، مما يضعف من التمثل بالهدوء القرائي المتأمل. كذلك الإخراج لم يكن جيداً. فقد تم إختيار شاب للقصة، وهو شابٌ متحمس، والقصة كانت تستدعي رجلاً يقترب من الستين، وشبيه بتشرشل، أي كلورد او دوق أو خلافه..رجل ذو وجنتين منتفختين ومتوردتين، صوت عميق وبطيء، نبرات استفزازية اكثر بروداً. نظرات لا إكتراثية (متعجرفة). مع تقليل للحركة. إذ لا يجب أن يتحرك السيد كثيراً امام خادمه.
على أية حال، سرعة الحوار لم تؤدٍّ إلى جعل الخادمة مغفلة، بل مستسلمة، جبانة، خائفة من مقاومة السيد. ولكن ليست مغفلة. ومع ذلك، فالتمثيلية، بسوء إخراجها هذا، قد أدت إلى فصل القصة عن مسماها، وبالتالي -أي بما أن الخادمة ليست مغفلة بقدر ما هي مستسلمة- تكون قد أعادتنا إلى جوهر القصة، فالمغفلون كثر في هذا العالم، ولا حاجة للحديث عن الغفلة وهي ضعف في ملكات العقل. وإنما الأجدى هو الحديث عن الخوف، والاستسلام، وعدم المقاومة، والبقاء في الظل.
قبل سنة، تعرض شرطي لاستفزاز من فتاة ذات نفوذ، كان قد اوقفها لمخالفة مرورية، تابع الجميع القصةالتي انتهت بإصابة الضابط بالجنون وجريه في الشارع وهو عارّ تماماً ، لكن الأطرف هو أن أحد عساكر المرور، والذي أخبر صديقه بالواقعة عبر تسجيل صوتي، قال بأنه بعد الذي حدث لن يوقف أي سيارة فارهة، لأنه يفضل (المشي جنب الحيط)، وقديما قالت الحكمة (الخوف ربا عيالو).
كائن بلا ظل..
هكذا يعطنا تشيخوف مثالاً معاكساً للإنسان السوبر عند نيتشه. لقد رفض نيتشه المسيحية، واعتبر تعاليمها إنهزامية، حاطة من قدر الإنسان، حيث من يصفعك على خدك الأيمن أدر له خدك الأيسر. وربما كان تيشخوف يعلن تضامنه مع نيتشه، أو يعلن إستحالة الطرح النيتشوي.
الإنسان بلا ظل.
(ليسوا) قلة من هم بلا ظل في هذا العالم. إن أغلبية النساء بلا ظل، وأغلبية البشر، يداخلهم الخوف الذي داخل تلك الخادمة من سيدها. قليل من الفقراء يتجرأون على دخول محلات مؤثثة تأثيثاً غالياً، بعض رجال شرطة المرور، يخافون من إيقاف سيارات فارهة ومظللة، وربما يزداد خوفهم لو كانت بلا لوحات. هذا هو الإنسان المقهور. لقد قرأت منشوراً لفتاة روسية كانت طالبة، عن خوف أغلب الطلبة من أحد الأساتذة القساة في إحدى جامعات روسيا. أخبرتها بأن هذا هو الفارق بين روسيا وأوروبا، الفارق الرئيسي،هو أن روسيا مثل دولنا العربية والأفريقية، لا زال إنسانها يخاف من السلطة. نحن نتعلم الخوف من أساتذتنا في المدرسة، ومن الشخص الكبير، ثم يتم تهديدنا ونحن أطفال بالبوليس، ثم نظل نكبر ونحن خائفون من السلطة، لذلك عندما كنت أستقل حافلة في شروني، رأى كل الركاب وكل من كان بالمحطة من المحتشدين، شرطيا يصفع رجلاً عجوزاً ويقتاده إلى جهة نجهلها. دون أن ينبس أحد ببنت شفة، لا أثناء الضرب ولا بعده ولا حتى بعد اختفاء الشرطي والعجوز. أدركت أهمية انشاء المجرمين لعصابات بدلاً عن العمل فرادى، فالجماعة تمنحك الشجاعة.
ويتكرس الخوف من السلطة، (لتشمل) السلطة اللا قانونية (أي سلطة القوة)، فالعديد من حالات خطف حقائب النساء، لم تجد من يتصدى لها من الشباب، رغم تواجدهم في مسرح الجريمة، هناك خوف من التواجد في مسرح أي حدث قد يضع الشخص في موضع الإلتزام بعمل قانوني، كأن يكون شاهداً. فلو حدثت مشاجرة، لن يجد صاحب الحق شاهداً واحداً من المتجمهرين يرغب في خسارة وقته والذهاب معه للشهادة على الحق. وكما يخاف الشرطي من النافذين، فإنه يستغل خوف العوام للقيام بتمرير مصالحه. سنلاحظ كيف أن ضابطاً من لجنة التفكيك عندما اتصل بتلك الصحفية، أخذ يمارس إرهاباً سلطوياً عليها، وقد خافت في بادئ الأمر ثم استجمعت شجاعتها بعد ذلك، ربما لأنها صحفية ويجدر أن تكون مثقفة قانونياً.
ليس الأمر بتلك البساطة، إذ أن ذلك التعرض للخوف السلطوي، هو ما أفضى للواقع السياسي والإقتصادي والأخلاقي المتردي منذ أن منح البريطانيون الحكم لأيادٍ سودانية، فمن الروح الحرة، أضحت الدولة تحت ثقافة العبودية، وهذه الثقافة تنشيء شعوباً مزدوجة بصفتي السادية والمازوخية، ولذلك فهي تتصارع على السلطة من أجل إحتياز مُكنة قهر الآخرين ونهبهم. لذلك يتم تبادل التصفيات الجسدية والمعنوية باستمرار. لقد قُتل الكثيرون، منذ الإستقلال الملعون، وحتى قبل أشهر تم قتل شابين مناهضين لحكم الشيوعيين الجديد. تم اغتيالهما، كما تم اغتيال المعتصمين، وكما تم اغتيال جون قرنق وانقلابيي رمضان، والأنصار في الجزيرة أبا، بل والضباط في بيت الضيافة بيد الشيوعيين ذات الدم البارد، ثم الشيوعيون الإنقلابيون أنفسهم قد تعرضوا للقتل بما اكتسبت أيديهم، وبين هؤلاء وهؤلاء آلاف ممن تم قتلهم بإسقاط الطائرات كالزبير والفنان خوجلي عثمان، وملايين في دارفور، والنيل الأزرق وشرق السودان، والآن كل من يناهض الحكم الشيوعي الحديد يتم قتله وفي أحسن الفروض الزج به في المعتقل بدون تهمة أو محاكمة، والساقية لسة مدورة. وستستمر في الدوران بسبب ثقافة العبودية، (الساد-مازوخية)..
إن مغفلة تشيخوف المقهورة بخوفها، ليست قصة، بل هي إعلان رفض إنتاج كائنات بلا ظل، تنتج كائنات مقهورة، كالطالبة الروسية التي تخاف من أستاذها. وهي ذات ثقافة العبودية المتفشية في الدول العربية والإفريقية والآسيوية، واللاتينية، إنها ثقافة انتجتها أمهات من نوعية تلك الخادمة التشيخوفية.
لقد رفض نيتشة روح العبيد، ودعا إلى روح المقاومة. وصورَّها تيشخوف في خادمته، التي وصفها بالمغفلة، لكي يضع ثقافة العبيد كعنصر في النقص العقلي للإنسان الذي كان من المفترض أنه ولد حراً..وكذلك يجب أن يعيش وأن يدافع عن حقوقه.
الغفلة والجبن:
عنوان قصة تشيخوف هو المغفلة، لكن لماذا مغفلة؟ دعونا نتابع ما يحدث في العالم الآن، إن العالم منقسم لأحرار وعبيد، لكن أي نوع من العبودية، إنها عبودية ليست مادية، بل عبودية مفاهيمية. لقد تحركت الثورات في العالم العربي، لكنها انتهت على نحو شامل بالفشل، إذ تقلد السلطة الإنتهازيون، وضاعت أرواح القتلى سدىً، كما حدث عندنا ايضاً، إن أخطر أنواع الغفلة، تلك التي تكون قصوراً عن فهم الواقع، وعن حقيقة المعطيات، وهذه الغفلة الخطيرة، لم تؤدِّ إلى فشل الثورات فقط، بل إلى خضوع الإنسان العالمي للإستغفال المستمر، فجعلته إنساناً قليل الفهم وقليل التساؤل. ما تعمد إليه الأنظمة القمعية هي قتل روح النقد، بقتل شغف التقصي والبحث، لتلقيه في غيابة الإستسلام للدعاية السياسية الفجة، التي تتحد مع الدعاية الرأسمالية المتوحشة. هكذا يضحى الإنسان العربي والأفريقي البائس، يتلهف لشراء آخر أنواع الجوالات، حتى لو على حساب لقمة عيش أبنائه، بل حتى على حساب مقاومته للأنظمة التي تحيل حياته جحيما، بحيث يترسخ هو داخل الفقر إلى حد الحلم بهاتف محمول، لا بالتعلم والإبتكار والطموح المعرفي. في البدء، تحالفت الأنظمة السياسية مع الرأسمالية، ولكننا اليوم تحت الحكم المباشر للرأسمالية، (مو إبراهيم، اسامة داوود، أبراهيم الشيخ) مع مخابرات الإمارات وبريطانيا وإسرائيل..مع حمدوك، البرهان وحميدتي. وهكذا في باقي الدول العربية والإفريقية. لقد تم التخطيط لنظام عالمي جديد، ثم بدأ التنفيذ بالفعل. وهو نظام يعتمد على خلق أنظمة بديموقراطيات مزيفة صورية، وبتوجيه من القوى الرأسمالية الكبرى وصغار الرأسماليين الذين تمت صناعتهم مع جوقة من المسرحيين. فعهد الأطروحات الطوباوية قد إنتهى، وحانت لحظة تحويل الشعوب إلى مغفلة تيشخوف...
لقد ادت روح العبيد في الشعب إلى ضعف ثقته في قدراته، ومن يفقد ثقته في قدراته يتحول لكائن حقود يعمل على تدمير الآخرين، ولذلك فشعوبنا هي التي أنتجت حكوماتها الفاشلة والتي بدورها انتجت دولهم الفاشلة.
إن تشيخوف يحذر الإنسان من الإنحطاط إلى هذا الحضيض، ويدفعه إلى المقاومة بروح الأحرار، بروح جيفارا، وغاندي، ونيلسون مانديلا، وسبارتاكوس، والنبي محمد ص، وبهبوذ صانع أول إمبراطوريات العبيد...
إن من يحرر العبيد لا يمكن أن يكون عبداً. إن من يحررهم لا بد أن يكون حراً ولو كانت الأغلال تحيط برسغيه وكاحليه...أي بروح نيتشه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى