محمد بشكار - لمْ نخرُجْ لِندخُلْ!

لم نخرُج كي ندخل، كذلك قلتُ ببلاغة الجريح، للزميلة نزهة بولندا في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء حول الدخول الثقافي، والحقيقة أن المًثقَّف المغربي يشعر بالخجل حين يسألهُ الصَّحافيون في مطْلع كل خريف عن رأيه في الدخول الثقافي بالبلد، فيودُّ لو ينفتح أي باب يَلِجه مختفيا عن الأنظار عوض الجواب، أما إذا تحدث صادقاً دون أن يختلق واقعا غير موجود تُسوِّد بصحرائه الجرائد الصفحات، فالمحتوم أنه سيشير لأقرب شجرة مُعبِّراً بصراحة عن افتتانه بجسمها بعد أن خلعت كل الأوراق، ولكن تفكيره سيشرد خارج البلد وربما بعيدا خارج عقله جنوناً، إلى أن يصل إلى بعض البلدان العريقة بطقوس دخولها الثقافي الذي يستبدل الخريف بربيع الكتب!
لم نخرج كي ندخل، ولسْنا فرنسا بطبيعة كل الأحوال، ولكن تعوَّدْنا بالتَّطبُّع أن نتركها تلعب سياسياً دور الخَالة، لذلك نجدها اليوم تنوب عن أختها الأم في الحنان المُبطَّن بالقسوة، لا نُعاني الخَرَف لكي نتأسَّف كفرنسا بعد أن انخفض دخولها السردي هذه السنة إلى 511 رواية فقط، نحن ربما أكثر بفراغنا قليلا ومن شدَّة التواضع لا نتباهى، ولسْنا بجوائزها لنُعْلن عن كتب الشباب الأوائل الذين سيفوزون أيضا بقلوب القُرَّاء، عِلما أننا أكثر شبابا من فرنسا ولكن كل طاقاتنا مهدورة تحكمها عقلية شائخة، فلم نفُز إلا بالخُسْران !
ولا أعجب إلا ممَّن يتحدَّثُ عن الدُّخول الثقافي أو السياسي أو المدرسي، ونحن لم نخرج بعْدُ كي ندخل، ألم ننظر للاحترزات التدبيرية كيف اشتدَّ طوْقُها هذه الأيام مع اشتداد وتوحُّش الوباء، لِنقُل إن الوضع العام الذي خلْخل السَّير الطبيعي لحياتنا الاجتماعية ينعكس أيضا على الممارسة الثقافية، فمَنْ طبع كتاباً يُخزِّنه طازجاً في العلب الكرطونية كأي بضاعة كاسدة، ولا تجد له حِسّاً أو خبراً على رفوف المكتبات، لا أعرف هل بسبب سوء التوزيع أو قَطْع الطُّرُق، كما حُرم الكاتب من حقِّه المشروع في الفرح بمولوده بعد منع حفلات التوقيع ليحمل بِقُرَّاءٍ يشترونهُ أكثر من اسم، ولا يمكن حدَّ لقاء ثقافي أو فني في عشرة أنفار وهو الرقم الذي حدَّدته السلطات لتشييع جنازة !
نحن لم نخرج لندخل، لكن إذا كان المقصود بالفاعل الثقافي المغربي من يُنتج الأفكار عبْر أحد الأشكال الأدبية أو الفنية، فقد لاذ منذ الحَجْر المنزلي الأول إلى اليوم بأكثر من حيلة لتصريف ما تعوَّد على إبداعه، وهو يستحقُّ كل الإجلال والإكبار لأنَّ الحصار الكوروني لم يكمِّم صوته أو قلمه، لم يستسلم تاركاً الساحة الثقافية والفنية فارغة من عطاءاته رغم تضرُّره المادي والمعنوي، وإذا كان بعض الفنانين اشتكوا الفاقة ووصلت أصواتهم ثائرةً للبرلمان، فقد انفتح في وجه بعضهم صندوق كورونا بالدعم على أمل أن لا ينقطع المدد حتى ينجلي الغم، أما الكاتب بحنكته في التواصل الأدبي مع الناشرين فقد استمر في طبع كتبه عن بُعد، لِيتسلَّم اليوم صورة غلاف الكتاب إلكترونيا وغدا تأتيه النُسخ في شحنة عبر البريد العادي، في حين تجد الممثل كما المغني يفتح نافذة في اليوتيوب مستعينا بإمكانياته الخاصة في الإخراج والتصوير وكتابة السيناريوهات والكلمات، ولا تخلو أحد وسائط التواصل الاجتماعي من محاضرة أو ندوة مسبوقة بملصق إشهاري تعلن عن المشاركين وساعة البث، تلكمُ بعض الحِيل الفردية لمقاومة زمن كورونا ثقافيا، أما التأسيس لفعل وممارسة ثقافية تستجيب لإكراهات الحاضر، فهي مسؤولية الدولة بوزاراتها التي تُدبِّر الجائحة من جميع المناحي، ولا يجب أن تُهمل الثقافة باعتبارها خطاباً مُوجَّهاً للعقول التي ما زالت بضمير تعاني من التفكير !
نحن لم نخرج لندخل قلتُ للزميلة نزهة بولندا، وحين سألتني عن مشاريعي القادمة تحسَّسْتُ جيبي أما المسدَّس فيتحسَّسُهُ من لديه خشية من الثقافة، قلتُ بقلبي عوض لساني صادقاً، بأني لستُ من أصحاب المشاريع الثقافية المحفوفة بتخطيط مُسْبق، فمن يكتب الشِّعر ينتظره ليأتيه عفْو الخاطر، أمَّا إذا تجرَّأ وذهب إليه، فالمحتوم أنه سيهرب كغزالٍ مُرْهف أحسَّ بالخطر وهو يشرب في غدير. ولن تصدِّقي إذا قلت إن الشَّرْط الرَّاهِن رغم الخوف من التقاط عدوى، يلائمني لأني زاهدٌ في خطواتي، لا أحتاج أن أمشي بعيدا مُخالطاً الناس والكلمة قريبة تحت قلمي، أحتاج فقط أن أتغلَّبَ بعزيمة العمل على الكسل، وأجمع قصائدي في ديوان ما زال كأجمل ما في الحياة مُؤجَّلا، وألملم مقالاتي في كتاب لأني موقنٌ أن لكل أجلٍ كتاب!


.................................
افتتاحية ملحق"العلم الثقافي " ليوم الخميس 10شتنبر 2020




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى