محمد ابراهيم الصومالي - ذهب ليقتبس ناراً فعاد نبياً

ما الذي يجعل كتاب ما رفيقاً مصاحباً ملاصقاً لقارئه؟.
ومن أين يحصل على شرعية المصاحبة وهو يتخطى السنوات التي تمر على هذا القارئ؟ كأن هناك هاجساً كبيراً يدفع القارئ الى التخلي عن كتاب
ما ظناً منه أن ذهنه بدأ ينغلق على هذا الكتاب، وهذا الكتاب الذي ملك لبّه سيحرمه من استقبال كتب أخرى قادمة.
لكن بمرور السنين اتضح أن هذا الانطباع خاطئ.
ويصبح الحنين الى كتاب معين قائماً لا ينكسر، لأنه كتاب مجنّح لا يحط على الرفوف.
القرآن الكريم: هدى وبصائر
يظل القرآن الكريم سيد النصوص والكتب، وبوابة شامخة تفضي الى الرؤية الواسعة أمام الوجود والذات، بدأ بكلمة (إقرأْ) وهي في كل الاحوال لم تكن تعني فك الحرف أو قراءة الكلمة المكتوبة، بل تعني (أنظرْ بعين البصيرة)، وإذا كان القرآن قد نزل على عدّة أحرف تعني عند قوم ما (أحرف القراءة والتلاوة) فهي تعني عند قوم آخرين (المبادئ) لأن القرآن كتاب تدويني لكتاب تكويني هو الوجود باتساعه.
ومبادئه هي ناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه وحلال وحرام وترغيب وترهيب وقصص وأمثال.
ومن هذه المبادئ جاءت إحاطته التامة بكتاب الوجود، رؤية وبصيرة ومواقف (َمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام : 38).لذلك ما من قارئ أو أديب إلاّ ظل في وجدانه وشغفه حبل يدله على هذا البئر الثر بالابداع. وظلت ثيمات كثيرة منه تقتحم نصوص المبدعين لتسند به ابداعها، لأنه كتاب حياة وهداية وثقافة
(َهذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ [الجاثية : 20)
يدفع بوجود الفرد من الطقوسية الراكدة الى العمل المنتج، اضافة الى تحسس المطلق الواسع في الواقعي اليومي العابر ليجعل الدنيا مزرعة الآخرة ويحيل الحياة الى احتفال يومي بالجديد المدهش حيث تتجسد الافكار والاشياء في آن واحد ويأخذ كل شيء دوره الجمالي المتواصل المشوق
(تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً [الإسراء : 44)
ولهذا نجد أن القرآن الكريم كتاب لا يحرم قارئه من جرعات لذيذة من جرعات السعادة والبصيرة والرؤية الواضحة، فهو للذين (إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ [الأعراف : 201).
زوربا اليوناني: دم أخضر حي
في كتاب آخر عجزت الذاكرة عن طرده وتخطيه واحصاء أسباب الاستحضار الدائم له. حتى يجد القارئ في نفسه حرجاً أمام نفسه وهو يسأل: ما الذي يدفعني الى أن أحن الى هذا الكتاب؟ فلأقض عليه بقراءة أخيرة تطيح به من ذاكرتي، ولكن اللعبة تتجدد إذ بعد آخر قراءة يعود هذا الكتاب مطالباً قارئه بالعودة اليه. ويعود القارئ ليقرأ ويقرأ ولا يرتوي. وكأن هذا هذا الكتاب مثل المرأة التي قال عنها زوربا اليوناني أنها نبع تشرب منه وتشرب حتى تطق ضلوعك ولا ترتوي.
علمتني رواية زوربا اليوناني لمؤلفها (نيكوس كازانتازاكيس) أشياء كثيرة، أولها: أن الحياة لا يمكن أن تدرج في اللغة والكتب، حتى أنه كان يسمي معلمه ورئيس عمله بـ ( فأر الكتب).
فزوربا على الرغم من أميته الواضحة استطاع أن يقرأ كتاب الحياة ويصوغ نفسه على عكس رئيس عمله المثقف (كتبيا).
أن رواية زوربا سفر كبير مختصر للحياة التي تندلع ولا يمكن اخمادها،فكل شئ يمتلك روح المغامرة والتأسيس لمدى جديد تنطلق فيه هذه الحياة، وهي ايضا اكتشاف لهذه الشعلة المتوقدة فينا.
في هذه الرواية إحاطة بكل ما يكتنف ذواتنا من آمال وأفعال وأحلام لا نجرؤ على البوح بها، وكأنها كانت رواية عن المسكوت عنه فينا، والانفتاح الهائل العفوي على الحياة بطابع يوناني وطني يتخطى التحديد ليصل الينا حتى صرت بعد قراءتها مرات عدة أنظر الى بعض الاشخاص وقد سكنتهم روح زوربا ومنهم أبي.
ما في الرواية مثير وما حولها أكثر اثارة. فبدءاً من الفيلم الذي جسد الرواية وقام بدور البطولة الممثل العالمي انطوني كوين ورقصته المشهورة على شاطئ البحر، وليس انتهاءً بمذكرات المؤلف نيكوس كازانتازاكيس التي عنوانها (الطريق الى غريكو) والتي أفرد فيها فصلاً خاصاً عن زوربا. فقد اتضح أن زوربا شخصية يونانية شعبية عاشرها المؤلف، والمثير أن زوجة زوربا الحقيقي أرسلت رسالة الى المؤلف تخبره عن موت زوربا الذي فتح النافذة قبل موته وراح يصهل كالحصان.
وهذا المشهد يتطابق مع مشهد موت زوربا بطل الرواية، وأيضا يتطابق مع موت مؤلف الرواية الذي فتح النافذة قبل موته أيضا.
وظل هذا المشهد يشدني الى قصيدة للوركا إذ يقول:
عندما أموت
دع النافذة مفتوحة
لأرى طفلاً يأكل برتقالة
هذه الرواية درس في البساطة والحياة والتلقائية، في السهل الممتنع، وفي الوضوح عندما يتدفق صانعاً حياة تترقرق فيها حبات المعنى والجدوى على الرغم من التعب والمشاق، وهي درس في الوطنية التي هي غريزة من غرائز الانسان.
ولم تستهلكها إلاّ تبجحات السياسيين بها وهم يخرجونها من مكمنها البتولي الى المشاع الرخيص ليحولوها الى شعارات فارغة، وكما قال اوسكار وايلد (الوطنية منقبة الاشرار).
ورواية زوربا أول كتاب علمني حب وطني واكتشاف ما أنا فيه، وأن العابر الذي يمر بنا منحة من منح المطلق الذي تتجسد فيه الحياة أفكارا وأشياء بدم أخضر حي.
يوليسيس: أفعى السرد تتلوى
أن تقيم الاسطورة فيك وأن تجد نفسك في واقع اسطوري بمجرياته ومتغيراته وصراعاته، هو ما تجده في رواية يوليسيس لجيمس جويس، حيث أن مؤلف هذه الرواية قد استخرج هموم الأبد من المؤقت والعادي ليثبت لنا حقيقة مفادها أن الاسطورة لم تعد ماضياً، وأنها ما تزال تسكن نفوسنا وحاضرنا، وهذه الرواية رحلة عصرية مضافة الى رحلات البشرية القديمة كالمهابهارتا وجلجامش وايزيس اوزوريس والاوذيسا والكوميديا الالهية ورسالة الغفران. ورواية يوليسيس اشتغال متعدد المظاهر على كل ما وقعت عليه عينا المؤلف وما سمعه وما شعر به وسخر منه منذ طفولته.
لذلك تجد فيها تفاصيل مدينة دبلن من أرقام العقارات الى الشخصيات والامراض والعلوم المختلفة والحانات والاساطير والمعتقدات والاغاني وهي تتحرك منذ أول صفحة في الرواية التي تبدأ يوم الخميس 16 حزيران 1904.
هذه الرواية صدرت عام 1922 وقد استغرق تأليفها سبع سنين من1914-1921. ولم نقرأها إلاّ في بداية الالفينات، إذ سبقتها موسوعة جيمس جويس التي اعدها مترجم الرواية د.طه محمود طه عام 1975 ولكنها وصلت مع صدور الطبعة الاولى 1982.
كانت التفاصيل التي حوتها الموسوعة عن جيمس جويس وعن روايته يوليسيس مذهلة لنا ونحن في الدراسة الجامعية .
أدهشنا من هذه التفاصيل أن الرواية تمثل رحلة أو تجوالا في شوارع دبلن على مدى 18 ساعة، وأن مؤلفها قال في رسالة لأخيه أنه وضع في الرواية ما يشغل النقاد على مدار مائة سنة قادمة على الأقل وهذا ما حدث فعلاً، وأنه نحت مفردات خاصة بالرواية تناهز 14 ألف مفردة.
حصلنا على نسخة للرواية بالانكليزية صادرة عن دار بنغوين من المعهد الثقافي البريطاني في الخرطوم ، أنا وصديقي الاستاذ حسن محمد صالح الذي كان يدرس الخط العربي في معهد جلي للخط العربي بعمارة الامارات بالسوق العربي الخرطوم .
وكانت محاولاتنا تبوء بالفشل بعد كل محاولة قراءة، حتى وصلتنا نسخة من الطبعة الاولى مترجمة الى العربية عام 2010.
لم تكن روايات جيمس جويس غريبة علينا، ففي الدراسة الثانوية قرأنا مجموعته القصصية الاولى دبلنيون1914 ثم صورة الفنان في شبابه1916 .
التي وجدنا فيها صورة طبق الأصل عنا، فهي تمتلك الجرأة والقوة للدخول الى اطلاق صفارات الانذار الاولى التي تعلن هبوط هواجس الفن على ذات الفرد الذي لديه نزوع الى الحرية والفن، انها تيار وعي متدفق يمر بأدق التفاصيل ويصطادها كما يصطاد ما هو في عداد المطلق.
لكن رواية يوليسيس ظلت رواية تتقطع قراءتها،وهي تمد قارئها بتيار السرد الذي يتفلت ويتلوى كالافاعي،كما في فصل السرينيات الذي يشبهه المترجم بآلة ميكانيكية تشتغل ولها تروس وعجلات ومسننات ونواقل حركة.
إلاّ أن هذا كله جعل الرواية مصدر تحد للقارئ.لأن قراءتها غير منوطة بالتفرغ أو تخصيص وقت كامل لها كما يحدث لباقي الكتب،بل يبدو أن قراءتها مثلها،فهي تتطلب فصلا معينا من فصول السنة لقراءة جزء خاص منها، أو ربما صباحاً معيناً لقراءة حوار منها.
لأنها رواية حفلت بكل شئ مع المبالغة.
ولكن يشعر قارئها أن الكتابة لا يمكن أن تولد ولادة معافاة إلاّ إذا كانت خامات البيئة وموادها مكوناً مهماً لها، ونأسف تماماً ان قلة من مبدعينا عدا الطيب صالح هضموا تفاصيل بيئتهم وانتجوا منها أعمالاً حرة ليس لظلال اعمال عالمية هيمنة عليها.
هذه الرواية التي تطلبت ترجمتها 14عاما يليق تشبيهها بأنها خضرة تدب في خشبة يابسة، فهي ولادة عسيرة للجدوى من رحم التافه اليومي الممل المكرر المغيب، ومحاولة للتماهي بين الاسطوري والعابر.
وفي كل شعور بالسأم أعود لأقرأ فصلاً من هذه الرواية وأنا غير معني بكيف دخلت الى الفصل أو بماذا خرجت.
ولكني بقراءتي الحرة لها اصطاد من خلال ايقاع سردها الافعواني ولادة شعوري بهيبة وبهجة الحياة واحتمالات خضرتها التي لا تنتهي.
وهذه الرواية من الكتب التي لا أملّ صحبتها واصطحابها. لأنها تشعرني بقوة الوعي وتلهمني ببعد الهمة التي كان يتمتع بها مؤلفها فهو قد ملأ حقبتي سفر من دفاتر الملاحظات عن مدينة دبلن وأخذها معه الى زيورخ واستمد من هذه الدفاتر وذاكرته كل ما يخص مدينته من معلومات. وتضعني هذه الرواية أمام تساؤل مفاده هو: متى أتعلم التدوين قبل التأليف. قد يمرّ علي عصفور،أو حادث مرور، أو امرأة جميلة، أو سقوط ورقة، أو لحظة صمت أكون فيها مرشحاً الى الاسطورة وممسكاً بزمامها أو مقيماً فيها، مما يتوجب علي تدوينها، ولكني لا أفعل لأنني كغيري كثرين لم نتعلم جيداً أن التدوين يسبق التاليف، ولهذا تجد في اللحظات العابرة الاسطورية راداراتنا مطفأة لا تلتقط. وأذكر قول احد الحكماء:لا تيأسوا من مواهب الله فإن موسى ذهب ليقتبس ناراً فعاد نبياً.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى