د. صلاح السروى - ماذا تبقى من طه حسين؟

يعتبر طه حسين واحدا من أهم القامات الثقافية والفكرية فى عصرنا الحديث. وتقاس هذه الأهمية بمدى تاثيره واسع النطاق الذى طال مختلف جوانب الحياة فى مصر والعالم العربى. فلم يقتصر هذا التأثير على الجانب الأدبى وحده (وهو مجال تخصصه الأكاديمى) بل طال الجوانب الابداعية والفكرية والثقافية بصفة عامة, وكذلك الجانب التربوى, والسياسى بدرجة أقل (كتابه عن الديمقراطية). فهو كاتب روائى وباحث أدبى ومؤرخ ومفكر اسلامى ومنظر سياسى وتربوى. وقد ضرب فى كل هذه الاتجاهات منطلقا من قيم الحداثة المتمثلة فى العدل والحرية والاستنارة العقلانية والمنهج العلمى. مما جعل من طه حسين واحدا من المنورين العظام الذين حاولوا وضع مصر على خريطة العصر الذى نعيشه, سواء أمن الناحية القيمية (الأخلاقية) أو من ناحية نمط التفكير والممارسة الأكاديمية البحثية والسياسية على حد سواء.
وأظن ان نظرات طه حسين التربوية فى كتابه "مستقبل الثقافة فى مصر" تعد الأهم من بين ما طرحه فى كتبه العديدة, لأنه يوضح فيها - بجلاء - رؤيته للعلاقة بين الثقافة الوطنية (وبالتالى, الهوية الوطنية) وباقى الثقافات والهويات الأخرى. خاصة انه قد تم اتهامه بالدعوة الى التغريب والتأثر بالمستشرقين .. الخ, ومهاجمته بشراسة وقسوة منقطعتى النظير وصلت الى حد تكفيره فضلا عن محاولات فصله من الجامعة فى واقعة كتاب "فى الشعر الجاهلى" الشهيرة, او الهجوم الحاد العنيف عليه أثناء فترة توليه وزارة المعارف العمومية (وزارة التربية والتعليم الآن) من قبل المتشددين وذوى الرؤية المتطيرة من كل ما يمثل نزوعا نحو التجديد أو الحداثة أو الالتحاق بركب الزمن الذى نحياه. حيث يطرح طه حسين برنامجا تربويا بالغ الطموح والغنى يقوم على هضم التاريخ الوطنى والعربى والدولى والاطلاع على المحطات الرئيسية والاسهامات الجوهرية للثقافة العربية والعالمية أدبا وفكرا ولغة.
وفى هذا الجانب اللغوى كما فى الجوانب الأخرى كان لطه حسين موقف بالغ الانحياز للغة العربية والثقافة الوطنية. فهو القائل بضرورة ألا يتعلم الطالب أية لغة أخرى غير اللغة العربية فى مراحل تكونه العلمى الأولى ,ويقصد بها مرحلة التعليم الالزامى, حتى لاتزاحم تلك اللغة الأجنبية اللغة الأم ولا تؤثر على سليقة المتعلم فى هذه المرحلة الغضة من عمره, ثم بعد ذلك فى المرحلة الثانوية يلزم أن يتعلم لغتين أجنبيتين على الأقل على أن تكونا منوعتين بين مختلف لغات العالم, وليستا مقتصرتين على اللغة الانجليزية أو الفرنسية أو ما قاربهما من لغات أوروبية. وأخذ يعدد اللغات الانسانية التى يمكن للناشئة تعلمها فأورد اللغات الروسية والصينية والهندية الى جانب الأسبانية والايطالية .. الخ. وذلك حتى لاتستبد لغة واحدة أو لغتان, بثقافتهما ومخزونهما الحضارى, بألباب الجيل, فيؤثران على انتمائه الثقافى – الحضارى.
هكذا كان يرى طه حسين ضرورة تكريس الولاء الثقافى - الحضارى للوطن أولا, لكن دون انغلاق ولا تعصب ولا عدوان على قيمة الثقافات الأخرى ومنجزاتها الحضارية, بل بانفتاح ندى, خلاق ومبدع.
لقد انتمى طه حسين بكل جوارحه الى ما يمكن تسميته بمشروع النهضة العلمية والفكرية والاجتماعية, فعمل على تحديث البحث العلمى فى مجال الأدب وتخليصه من الاعتماد على الأساطير التى ملآت كتب المصادر وانتهاج منهج الشك والتمحيص لأى من الحقائق المدعاة وعرضها على معايير المنطقية والموضوعية وامكانية الاثبات الوثائقى - المادى, وهو تبدى بجلا ء فى كتابه الاشكالى سالف الذكر "فى الشعر الجاهلى". وعمل على اعادة قراءة أعلام الأدب العربى, القدامى والمحدثين, واستبصار مناطق القوة والضعف فى شعرهم وحياتهم من خلال مصفاة المنطق والرؤية العقلانية والمنهج العلمى فى "ذكرى أبى العلاء", "حديث الأربعاء", "مع المتنبى","حاظ وشوقى" .. الخ. كما اتجه نحو اعادة قراءة التاريخ الاسلامى وبخاصة فى مراحله التأسيسة ومفاصل تحوله الكبرى, فكتب عن "الفتنة الكبرى" بجزئيها: "عثمان: و"على وبنوه", و"على هامش السيرة", و"مرآة الاسلام" .. الخ . الى جانب كتاباته الابداعية الروائية : "الأيام", "دعاء الكروان", " الحب الضائع", "أديب" .. الخ . وغيرها من كتابات تعتمد فن الابيجرام والمقطوعات القصيرة. مثل "جنة الشوك" وغيرها. هذا عدا عن الكتابات الأخرى فى السياسة والفكر وترجماته العديدة عن فولتير ومونتسيكيو وأعلام الأدب الأوربى.
وقد بدأ هذا المشروع التنويرى الكبير بالدعوة الى بناء الجامعة المصرية (بنيت عام 1908 تحت اسم الجامعة الأهلية كأقدم جامعة فى الشرق الأوسط وافريقيا) ثم تلته وارتبطت به العديد من المشروعات الاصلاحية كمشروع تحرير المرأة وتحديث الفكر الدينى.
ويرتكز هذا المشروع التحديثى فى جوهره على رؤية أن الاستعمار لم ينتصر علينا الا بسبب ضعفنا وتخلفنا, وبالمقابل, تمتعه بالتقدم العلمى والفكرى والسياسى, ومن ثم, قوته فى مقابل ضعفنا. وهنا كانت الاجابة متمثلة فى ضرورة تحقيق التقدم العلمى والتحرر الفكرى والاجتماعى حتى يمكن ان نحصل القدرة على مقاومته وتحقيق الاستقلال. وهو بذلك واحد من مشروعات الاستقلال التى انقسمت على سؤال : كيف يمكننا الخلاص من الاستعمار وتحقيق الاستقلال الوطنى؟ حيث ووجه هذا المشروع بمشروع آخر تمثل فى الدعوة الى العودة الى نهج السلف الصالح وأن علينا أن نفكر كما كانوا يفكرون ونسلك كما كانوا يسلكون فننتصر على أعدائنا كما كانوا ينتصرون ويحققون الأمجاد التاريخية المعروفة. وأظن أن الصراع بين هذين المعسكرين ( بقدر من التجريد والتعميم ) هو الذى لايزال يرسم ملامح المشهد السياسى والفكرى - الثقافى المعاصر.
ومن هنا تنبع اهمية جهود طه حسين واضرابه من المنورين المصريين العظام من أمثال أحمد لطفى السيد وقاسم أمين ومحمد عبده وشبلى شميل وفرح أنطون .. الخ. وكذلك راهنية هذه الجهود فى الآن نفسه. فالمعركة ذاتها لاتزال قائمة وأقصد بها معركة التقدم والتخلف - الحداثة والرجعية, المرتبطة جوهريا بمعركة الاستقلال الوطنى الحقيقى, الدائرة الآن فى بلداننا.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى