بسمة حاج يحيى - قراءة في قصيدة "لو لم يخفق قلبي" للشاعر والأديب مصطفى الحاج حسين

المسيرة تبدأ بخفقة تعطي الوليد حياة ، تطلقه على إثرها الى معنى الوجود ، وتملي عليه سرد الحكايا والتيه والأنات ..
شاعرنا ، تربع عرش القصيدة منذ العتبات الاولى ، تبنى لغة الخلق والابداع ، فتألّه ليعطي الحياة لروح هي نابعة من اعماقه و تسكن فيها و ابدع ليحيي قصيدة هي الروح لروحه و هي السكن فيه و فيها ..
ليزيد من قوة خلقه والانفراد بالألوهية ، تعمد لغة سكب على بساطتها وسلاستها منطق القوة و السلطة ؛ « لو » ، إن دلت على سحر وجمالية ، فإنها تحمل كذلك في طياتها سرّ الالوهية والقوّة فلا خلق لو لم يكن لخفقة قلبه ولادة لكامل القصيدة ، بل ويستدعي عناصر الطبيعة ؛ جلّها و أجملها ليشهد خلقه ما ابدع لإضافة مسحة الجمال بهذا الكون ، و ليحقق كنه العشق في شرايين تحمل روح الوجد وتحاكي الشّفافية......
فأين منّا بدفء الشمس جاءت حثيثة تلقي مهمّتها شعاعا دافئا لاجل حبيبته و نستنير بفضل عشيقة لأجلها رذاذ الاشعة يتقاطر علينا ضوء ونورا!!
شاعرنا طوّع الابجدية نوارس تحلّق فوق أعتاب الحروف ، تخفق كلماتها أجنحة تحملنا وتحمل معشوقته الى سماء الأحلام ، تهدينا ألف جناح يحلق بنا عاليا بين النجوم والكواكب والسحب الشفافة ... فهل نحتسب وقوعا او هبوطا مفاجئا!! طالما نسق التحليق ياخذنا الى اقسى سرعته ، فاحتمال الوقوع او الاستفاقة من عمق المسافة قد يخلق لنا ارباكا إن لم نتحصّن من فوارق الزمن والمناخ بذي عالم!!
لكن الشاعر ، احكم سَنّ قوانينه ، فبنود الرّبوبيّة لا تحتمل الخطأ ، لاسيّما و ان المحبوبة معنا على نفس السفينة تعتلي اغوار القصيدة ، فقد خاطبها من علياءه أن الارض ازهرت ليكون النزول بسلام و تنتهي الرحلة بأمان على سطح بساطه سندسي الالوان، يرفل بكساء الطيب و الزهر و عبق الاقحوان ، حتى تلين البسيطة لتستقبل حبيبته ، بعدما ارجحها بين سماء و بيض السحب و بين التيه و الاحلام ..
لكن بين كفيه حياتها و بلمسة من انامله نجاتها ، فمازال شاعرنا يتلاعب باللغة فتطيعه بلا مقاومة ، فكل هذا السحر آية مسبوقة ب "ما" و آية اخرى سبقتها "لا" ، كأنما ينفي الحياة التي ما صارت لها نكهة الا بما خفق بفؤاده و ما كانت ليكون لها طعم في غياب ما اعتمل في قلبه ..
فــ "ما صار لإسمك كل هذا المعنى" ؛ فهو معنى الحياة ومعنى الوجود ومعنى الحيوية ، بفضله ، تقبّل الجبين له و اليد و حلم السّنين ..
فلتقبل حبيبته يد من الهمها الحياة وسكب الالوان بروحها وزادها من نفسه فالهمها جمالها وثباتها .. ونفى عنها الظلام حتى صارت اوصافها ؛ خليط فراشات لونها ولين الندى ملمسها ، وصيّر النّبيذ معتّقا من مبسمها ، أفلا يحق بعدها ان يخضع القمر لحراسة الكنوز موصوفة على اوتارها حبيبته!!!
فبإشارة منه يمتثل البدر و النجم و الشجر ، أو ليس من حباها الحياة و اعطاها الاسم واختار لها الممات "لو" لم تمتثل لهواه ، "لو" لا يكون لها شأن داخل مجرته الكونية ، "لو" ما سخر عناصر الطبيعة لتغدق عليها من روحه!!
فهل يحق لإله في عظمته أن يتنازل عن عرشه أو يتساوى في التكوين بمعبودته !!؟ فاللغة ، سلاحه و مصدر إلهامه وقوته ، أدارت له وجهها الثاني ، فصارت هي من تتحكم به بعدما كان يسيطر على الكلم والمعاني ، فمن نفي وجزم وحروف شرط بالابجدية ، نزلت او هي تهاوت حروف العشق ، فتمردت على اثرها حركات النَّصب والجزم على إله القصيدة وبقافيتها تربعت لتتولى الحكم و سَنّ الاوامر وكذا البنود فسرقت الموسيقى عذبَ الرحاب من صوت معبودته ، وتباهت السماء بعبق رذاذها يبلّل التّراب بتيهٍ فريحُهُ يلثم الذّرّات من ريح ساحرة اهدت عبيرها الطبيعة او هي تآمرت واتحدت معها لتعلن ثورة ضدّ ربّ القصيدة!! ام تراه ربُّ الكلم الطيب و سفير الحروف بالصّدر و العجز ، تهاوى عن عرشه لما خرق قانون الكون و وقع في عشق عبده و أمته ، فصار الخالق عاشقاوالمخلوقة معبودته!!؟
تنازل عن عرشه والألوهية ، وخانته اللغة وسحر حروف الابجدية ؛ "ف" ... "ف" كانت الطامة الكبرى ؛ بعد كل عملية خلق طوّعها لأجل سيدة الكون ، بعد كل عنصر سخّره لخدمة سيدة القلب ، بعد كل "كن" لأجل ان تكون مختلفة عن كل نساء الكون ، وقعت منه الحروف ليعتلي حرف "الفاء" سر الكونية ، فيسبق الجنّ و يطوّع الموسيقى والسّماء والاشجار والبحار وحتى البوح والسّكينة وكذا الطير والينابيع والانهار ..
لاغراضه ، لمآربه ، ليغيّر نمط العشق ويحدّد الإله من المألوه المؤله ، فصارت الاشجار ملهمة الندى بوحي من الحبيبة ، اعتلت عرش القصيدة فصارت الآمرة ، من تعطي الحب ، من تمنح قطر الندى للاغصان ، صارت الحالمة تُهدي جمالها تعكس صورته الانهار فيغار الكوثر ويسبق بالعشق النهار، يطلبه حثيثا ويعزف اللحن فريدا ، تستعيره نوتات الموسيقى فتكسيه الأوتار .. لعمري ، هذا عشق مُدمّر ، أردى القتيل إلهًا و الإلهَ عبدا يبني حروف القصيدة ..
فإن لم يحكم تسيير مركبته برّا وبحرا كربّان أضاع المسير ، فتاهَ عن بوصلة العشق وتوغل لُجّ الزمهريرا ، انّى لصخب عيون المخلوقات أن ترديَ قتيلا ، وتُأنسِن الجان فيضطربَ الموجُ لُجيّا وبعنفوان ، ثم تلين لها الملائكة فيتّحد الاثنان ؛ وتصير ملاكا قتلت بلحظها رَبّ البيت والقافية واعتلت صدر القصيدة ، فلاذ بالفرار ، يتوسّل ثم يتساءل هل من مزيد!!؟ تخلّت عنه الابجدية ، فعار على إلهٍ يعشق فيتيهُ عن الربوبية فتلهو العصافير و تترقرق الينابيع لسيّدة في الحسن أطاحت بسلطان ، ليعود فيتحسّر مجدّدا ب "لو" بعدما كانت سلاحه و شرط منْحِه الحياة لمن صارت الآن بالعلياء ترمقه ، ينعي حظه فيبكيه ،" أن " :
(( لو لم يخفق قلبي لك
لما كان للحب وجود
و "ما" كان من داع لأحيا
لأكتب كل يوم عن عذابي
من هجرانك المميت .))
فانقلب السحر على الساحر ، و صار القاهر مقهورا ، و خلقت حواء من إلهها و معبودها عبدا يسعى لرضاها ، و يتمنى "لو" ترحمه برحمتها من عذابه ، ف"لا" يموت اليوم ، بل تحييه " لو" "لا" تهجره هجرا خفيفا و "لا" مطولا فحياته رهينة بخفقة ؛ إما تحييه أو ترديه قتيلا ..
فالحياة رهينة خفقة واحدة ، إما تحييه او تميته .. الحياة و الموت بفوهة قصيدة .. فجاءت القصيدة بثراء ما بين مسيرة تقفز من فوق مهد و تتهاوى على لحد ، بين السماء و الأرض ..
القصيدة ثرية جدا ، فالشاعر الاستاذ ( مصطفى الحاج حسين ) ، توخى الحذر في سرد تراتيل عشق عجائبي ، فكانت له السلطة على عناصر الكون ساعدته في ذلك لغته العميقة وتحَكُّمه بالمعجم ، فمن «لو» الشرطية الى «لم» الجازمة و«لا» النافية وكذا الشأن مع «ما» ، تنقل خلالها ليفرض قانونا ابجديا يخول له التحكم في الحياة والممات وكذلك السيطرة على مكونات الجمال ومبيحات العشق ليضع لمساته الاولى والاخيرة على حروف قصيدة ولدت ناضجة ، حلقت بنا بسماء ومجرات وكواكب ، تحملنا اليها اشعة شمس مطيعة تؤرجحنا برفق فلا نخشى الوقوع ولا النزول اضطراريا فربان المركبة إله وبيده الأمر والنّهي ، وهو من يعطي الحياة ويقرر الموت ، بل ويخضع مخلوقاته للاعتراف بقدراته ، لكن ما إن حطّ بنا على الأرض ونزلنا بأمان، بجنة الرحمان وبساط سندسي وزهر ومرجان ، حتى انقلب السحر وصارت السماوات والشمس و الانهار وكذا البحار والموسيقى والطيور والشجر و حتى المحيطات ، صارت كلها بكفّ الحبيبة ، رهن إشارتها وطوع يدها ؛ سلّمتها مقاليد الحكم و مفاتيح الربوبية لتجلس على كرسيّ العرش، تأمر بكل عفوية ، ملاك عشقه رب القصيدة ، فانبرى على الحروف والكلم الطيب ، لكن خانته الأبجدية فصارت «لو» تحمل معنى مغايرا ، ينشد عبره أن "رفقا بي ، ليتك تنصفيني ، آه لو تنصفيني ..!" فــ "لو" لم ينبض قلبه لما كان مآله الهلاك و رحمة ينتظرها من ملاك !! ف سحر حروف اللغة غيرت شكلها واكتست بالمعاني الثنائية ، خلعت معنى الشرط والجزم لتركن الى التّوسل والاستفهام عن ولمستقبل مبهم ، مجهول التوقعية ..
الشاعر اتقن استعمال اللغة وطوعها ، فكان اجمل ما يحسب له، نفس البيتين بدأ بهما القصيدة ثم قفل عبرهما أواخر النص ، لكن على العتبات الأولى، كان منطق القوة هو السائد ، هو ما يلفّ المعاني ، في حين حلّت المفارقة بالنهاية لتكتسي نفس الأبيات نفَسا مغايرا فصارت نبرة التوسل هي المسيطرة .
فما اعظم اللغة لما يتفنن بها شاعرنا فيجعل من نفس العبارات والتراكيب وظاهر المعاني آيتان متناقضتان ، تحملان في طياتهما برزخا يفصل الفوارق بينهما ما يفصل بين السماء والارض .. فلمّا كانت الحروف رتقا موحّدا لمن بسطح اللغة يسبح ولا يفقه ، فإن لكاتب النص سلاح ذو حدين ؛ فبقدر ما تآمرت عليه الأبجدية ، إلا انه ومن موقعه كناظم لحروف القصيدة فقد سبح بأعماق اللغة فكان له أن فتق ما رُتّق وخلق ذاك التنافر الجليّ في المعنيين ، من عتبات القصيد الى نهاياته ، من سلطان متحكّم بيده الحياة والموت الى عبد مسكين يرجو الحياة ويخشى الممات ، وتتلاحق المتضادات في بنائه للقصيدة ممّا يكسبها رونقا وسحرا يضفي عليها قوة التوغل بمكونات النحو والصرف لتنحو الأبيات بحرا من الشعر والنظم يحدوهما برزخ يفصل بينهما فيشكّل ضفاف موجها .. يتنازع المدّ والجزر بحكم من العاشق الذي صار هو نفسه في مدّ و جزر تحكمه قوى الحب و قوى فاقت قدراته قوى العشق و عاشقة خاوت الملائكة واتّحدت في جمالها بعناصر الطبيعة لتزيد من إرباك الشاعر ، فأنّى لعاشق أن يتخلّى أو ينجوَ من جبروت ملهمته ، أو يفكّرَ في عصيانها وقد أخذت عنه زمام الأمور ، فما عاد بإمكانه أن يتخلى عنها أو ينساها ..! فهل ينسى الجمال سحر الملائكة ترفل في حلة العفة والطهر بعفوية !!! .

بسمة حاج يحيى .
تونس

* من ديوان ( أجنحة الجمر


===============================

// « لو لم يخفق قلبي ...»
شعر : مصطفى الحاج حسين .
لو لم يخفق لكِ قلبي
ما كانت الشّمس تنبّهت إليكِ
ولا استدلَّت عليكِ أسراب القصائد
وما صار لاسمكِ كلّ هذا المعنى
ولا الأرضُ
أزهرت كلٌ هذا العطر
ولظلّ الظّلام
مغلقاً على أوصافكِ
أنا من أخبرَ النّدى
عن خصالكِ
ومن نبّهَ الفراشات
على نبيذِ ضحكتكِ
ومن أشار على القمر الشّقي
أن يسهر على حراستكِ
وصفتُ للموسيقى صوتكِ
فسرقت منهُ الرّحاب
أعطيتُ للسماءِ رائحة أنفاسكِ
فأنجبت المطر
وكشفتُ للأشجار عن قطافكِ
فتراكضَ النّدى على أغصانها
أنا من كلّم الأنهار
عن ريقكِ
فتعلّقَ بكِ الكوثر
وحدّثتُ البحار عن صخبِ عينيكِ
فهاجَت أجنحة الموج
رويتُ للبوحِ مافي أصابعكِ من هديل
وللسكينةِ ماتسكنهُ يداكِ
كلّ العصافير ترفرفُ حولَ مداكِ
والينابيع تترقرقُ لتشرب منكِ الابتسام
لو لم يخفق قلبي لكِ
لما كان للحبِّ وجود
وماكان من داعٍ لأحيا
لأكتب كلّ يوم عن عذابي
من هجرانكِ المُميت .

مصطفى الحاج حسين .
إسطنبول


L’image contient peut-être : feu et nuit

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى