د. نعيمة عبد الجواد - الرأي العام وفخ الحرية

عندما يواتيك الحظ بصورة عفوية، وتحظى بشهرة غير مسبوقة على شيء لربما لم تقصده، أو حتى قصدته، فإنك حينئذ تتجرع حلاوة الرأي العام. وذلك بالفعل ما حدث مع العالم الفرنسي بلاز باسكال Blaise Pascal (1623-1662) الذي حالفه الحظ، على عكس كثيرين غيره من العلماء، بسبب إجماع الجمهور على عبقريته، واعترافهم بنجاحه، وتمجيدهم لأعماله. وقد فطن بلاز باسكال لهذه الحقيقة، ما جعله ينعت إجماع الجمهور هذا، الذي يعرف باسم الرأي العام، بأنه: «ملكة العالم».
وعلى النقيـــــض تمـــامــــــاً، تجــــرع الكاتب المسرحــــي ويلـــيام شكسبير William Shakespeare (1564-1616) مرار انقلاب الرأي العام عليه، بسبب تغير المناخ السياسي، بعد أن أذاقه حلاوة الشهرة في ما سبق، مما دفعه لأن ينعت الرأي العام بأنه: «محظية النجاح». فلقد استوعب شكسبير ذلك الدرس بسبب ما شهده، وكان يشهده حينئذٍ، من تقلبات بطلها الرأي العام. وعلى ضوء ما تم ذكره في الجزء الثاني من كتاب «خمسة عقود من الدين» Five Centuries of Religion ، الذي قام بتأليفه جورج كولتون George Coulton عام (1927)، فإن تكوين الرأي العام، أو رأي العامة، كما هو مذكور في الكتاب، ذو أهمية اجتماعية وقانونية قصوى، وقد اشتدت أهميتها خلال القرون الوسطى؛ حيث كانت تدعى في ذاك الوقت بالتقرير العام Communis Fama الذي يحمل في طياته معنى ما يفضل أن «يثرثر به العامة». ويذكر أيضاً أن القضاة لتكوين الرأي السديد قبل النطق بالأحكام في القضايا الجدلية، كانوا يعطون الأولوية لما هو سائد من أحاديث عن تلك القضايا، بالتقرير العام، الذي تم نعته في ما بعد بالرأي العام، ولأخذ ذاك الرأي السائد يجب وجود جماعة ما تجمع على شيء واحد، بحيث لا يقل عدد أفرادها عن ستة من الأفراد المشهورين بحسن السمعة. وقد أضاف على هذا المعنى الكاتب أولبرشت كلاسن Albrecht Classen في الجزء الثاني من كتابه «كتيب ثقافة العصور الوسطى Handbook of Medieval Culture عام (2015) أن التقرير العام، صار قوة ضاربة ضاغطة، لدرجة أن الحكام صار يأخذونه بعين الاعتبار، ووصل الأمر إلى أنه تم تغيير العديد من السياسات بسبب هذا التقرير العام.

إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أن التقرير العام دوماً لا تشوبه شائبة، فعلى الرغم من اتساع مجال الحريات وشعور الشعوب بأنهم قوة تأثير ضاغطة، ولها القدرة على الإصلاح والتغيير وتقرير المصير، في تلك العصور، لكن كان من السهل جداً التلاعب بالتقرير العام خلال عصور ازدهاره في القرون الوسطى؛ فحينها صار قوة مؤثرة بطريقة سلبية، على عكس ما كان الوضع عليه. فعمد الساسة إلى تغذية التقرير العام بمعلومات خاطئة؛ لإضفاء صفة الشرعية لما يتم اتخاذه من قرارات، من شأنها الإضرار بمصلحة الشعوب، ولعل أبرز مثال للتلاعب بالتقرير العام – أو الرأي العام كما سبق ذكره ـ هو شن الحروب الصليبية على دول المشرق. فتم تبرير الهجوم، وأضفيت صفة الشرعية على الحملات الصليبية، عندما تم التوكيد على أن تلك الحملات ما هي إلا أداة لخدمة الدين، في حين كان الهدف الرئيسي منها، كما تم اكتشافه في ما بعد، أن الحملات الصيليبية تسعى إلى هدف رئيسي وأوحد، وهو تحقيق أطماع حكام الغرب في الاستيلاء على ثروات المشرق العربي، باتخاذ الدين ذريعة. ما يعني أن تلك الحرية التي يوفرها الرأي العام ما هي إلا حرية زائفة، وبالطبع التاريخ يسطر العديد والعديد من الأقاصيص حول ذلك، لكنني أفضل أن أسوق أمثلة من العصر الحديث؛ لأننا نلمس آثارها، فعلى سبيل المثال، حظيت قمة الأرض Earth Summit التي أقيمت في مدينة ريو دي جانيرو، في البرازيل، في الفترة من 3 إلى 14 يونيو/حزيران عام 1994 بترحيب عالمي واسع، وتم الترويج لها بأنها بداية عصر جديد، عصر أخضر، يهتم بالبيئة ويراعي شؤونها.
وبناء على ذلك، تم الترويج لهذه الأفكار عالمياً، ويتم الترويج لها حتى يومنا هذا، إلى أن تكون رأي عام عالمي يحتم الحفاظ على البيئة، للتقليل من الآثار المناوئة للاحتباس الحراري. لكن بدراسة أوراق الدول المختلفة المشاركة في قمة الأرض، نجد أن دول العالم الثالث كانت تشكو من تعاليم وبنود وإشكاليات وتوصيات واقتراحات القمة. وكذلك، أوضحت تلك الأوراق بالدليل القطعي، أن تلك القمة لا تسعى إلا للحفاظ على مصالح دول العالم الأول، في حين تتجاهل الآثار المناوئة لاشتراطات وتعاليم وتوصيات القمة، التي من شأنها إفقار دول العالم الثالث، خاصة دول إفريقيا السمراء، لكن بالتأكيد، تم إسكات جميع هذه الأصوات، وصارت أوراق تلك الدول المنددة حبيسة الملفات؛ حتى لا تحظى بأي رأي عام على الاطلاق.
وعلى إثر تعاليم قمة الأرض، انطلقت اتفاقية الجات GATT ، أو اتفاقية تحرير التجارة العالمية مرة أخرى في ثوبها الجديد، بعد أن مهدت لها الطريق تعاليم، وتوصيات، وإشكاليات قمة الأرض في ريو دي جانيرو. ومن الجدير بالذكر، تم إطلاق اتفاقية الجات لأول مرة في 30 أكتوبر/تشرين الأول عام 1947 في جنيف، في سويسرا، ووقع عليها ثلاث وعشرون دولة فقط، ووضعت في حيز التنفيذ في غرة يناير/كانون الثاني عام 1948، لكن إلى ذلك الحين، لم يكن لها آي أثر على الصعيد العالمي. لكن قمة الأرض التي تؤكد أن العالم صار قرية صغيرة كانت من مهد الطريق لحث مئة وثلاث وعشرين دولة للتوقيع على اتفاقية الجات في 14 إبريل/نيسان 1994 في مراكش، ضمن اتفاقات دورات أوروغواي Uruguay Round Agreements. وعلى إثر ذلك، تم إنشاء منظمة التجارة العالمية WTO في غرة ينايرعام 1995.
وبالنظر أيضاُ لأوراق الدول المشاركة في اتفاقات دورات أوروغواي، نجد أن، دول العالم الثالث، خاصة دول إفريقيا السمراء، كانت هي التي تشكو من تلك الاتفاقات الجائرة التي لا تراعي إلا مصالح الدول الصناعية الكبرى فقط، في حين تعمد إلى إفقار دول العالم الثالث، وتخريب اقتصادها، الذي سوف يتأثر سلبياً عند التوقيع على هذه الاتفاقية الجائرة. ولعل من أبرز تلك الأوراق، كانت الورقة المقتضبة المقدمة من زيمبابوي، وتشرح بكل وضوح تلك الآثار المناوئة. وكالعادة، تم إسكات تلك الأصوات المناوئة.

وفي المقابل، تم فرض المزيد من العقوبات الاقتصادية على دولة زيمبابوي. وعلى الصعيد الآخر، كان يتم تمجيد إنجازات منظمة التجارة العالمية WTO. لكن يذكر أنه تكون رأي عام خامل حيال تلك الاتفاقية، والرأي الخامل يعني الرأي الذي وقف موقف اللامبالاة من الافصاح عن تلك الآثار المناوئة، على الرغم من تعيينه إياها. وفي مصر، تم إطلاق اسم «حزب الكنبة» على الرأي الخامل في خضم ثورات الربيع العربي عام 2010. وبالتأكيد، أثبتت الأيام صحة الآراء الإفريقية المناوئة لاتفاقية تحرير التجارة العالمية، أو الجات، التي أيضاً تم كبتها؛ لتنفيذ مخططات اقتصادية كبرى، جميعها تصب في مصلحة الدول الصناعية الكبرى.
ومن الواضح أن الرأي العام صار أداة في أيدي ولاة الأمور، تمام كما صار الوضع عليه أثناء التبرير للحملات الصليبية على دول المشرق العربي؛ حيث أنه يتم استخدام الرأي العام لتحقيق مصالح كبرى بعيدة كل البعد عن حرية الشعوب للتعبير عن آرائهم. ولا يقف التلاعب بالرأي العام عند هذا الحد فقط، لكن أيضاً نجد أنه تم استحداث فوائد أخرى لتكوين رأي عام. فمثلاً، وهو شائع جداً، تتم إثارة قضايا رأي عام، سواء على الصعيد المحلي أو العالمي، للإلهاء والتضليل. ويحدث ذلك كثيراً، خاصة في هذه الأيام، عالمياً ومحلياً، لتنفيذ مخططات لا تخدم إلا مصالح، ومخططات كبرى. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، حظت مذبحة المصلين في نيوزيلندا أثناء إقامة شعائرصلاة يوم الجمعة، التي حدثت في 12 مارس/آذار 2018 بتغطية إعلامية دولية مكثفة وواسعة، استهلكت تكوين أي رأي عام عالمي آخر يدين قرار الولايات المتحدة بالاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان المحتل، الذي تم إعلانه في 25 مارس 2019، أي بعد أقل من أسبوعين من المذبحة. فالأصوات العالمية التي نددت، ولا تزال تندد، بالمذبحة تعلو على الأصوات التي تشجب قرار واشنطن بالاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان المحتل.
يتضح مما سبق عرضه أن الرأي العام، تماماً كما نعته شكسبير، ما هو إلا «محظية»، تخدم آراء لا يهم كونها صائبة من عدمها. فالرأي العام صار بمثابة فخ لخدمة أغراض محددة، أو لإلهاء الشعوب عن مخططات يتم التحضير لها منذ أمد بعيد، لإطلاقها في الوقت المناسب الذي يتم فيه ضمان إما إخماد، أو استهلاك، أو إلهاء الرأي العام العالمي. بمعنى آخر، يجب أن تفكر مرتين قبل البدء في نشر رأي عام ما، معتقداً أنك تعبر عن رأيك، الذي هو طرف أصيل للتعبيرعن حرياتك، ومنها حرية الرأي. الحرية الحقيقية هي التي تبدأ بعد دراسة جميع الأحوال والظروف المحيطة قبل إطلاق، أو مؤازرة، آراء غير مدروسة عواقبها. فإذا لم يتم ذلك، يقع الفرد، وبكل سهولة في فخ الحرية الزائفة، ويصير هو وآراؤه أداة طيعة يحركها القائمون على زمام الأمورلتحقيق أهداف بعيدة كل البعد عن حرية الفرد.

٭ أكاديمية مصرية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى