أمل الكردفاني - حياة أولياء الله الصالحين

١-الركائن:
(أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (62) "يونس"
عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير البجلي ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من عباد الله عبادا يغبطهم الأنبياء والشهداء " . قيل : من هم يا رسول الله ؟ لعلنا نحبهم . قال : " هم قوم تحابوا في الله من غير أموال ولا أنساب ، وجوههم نور على منابر من نور ، لا يخافون إذا خاف الناس ، ولا يحزنون إذا حزن الناس " . ثم قرأ : ( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون )..

٢- من التخيير للتسيير:
يعتقد الناس أن حياة اولياء الله هي حياة يسيرة سلسة، فهم يخرقون ناموس الأرض، ويفعلون الأعاجيب، وهم في ذلك من الواهمين.
فلا يتمنى أحدكم أن يجرب حياة هولاء، وانتم لا تعلمون، فأولياء الله لا خوف عليهم، لأنهم خرجوا من دائرة التخيير خروجاً مطلقاً، ودخلوا في دائرة التسيير دخولاً مطلقاً. ودائرة التسيير، لا مكان فيها إلا لعالِم الغيب وعالَمه. يُسَيَّرُ فيها الولي بلا سؤال. فالتساؤلات ليست لأولياء الله بل لعامة البشر، الذين ينظرون للعالم بقوانينه العامة المجردة. ولذلك كان أول شرط وآخر شرط ألقاه الوليُّ الصالح على موسى هو ألا يسأل عن شيء حتى يبينه له فيما بعد:
(قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا) (70) "الكهف".
إذ لا مكان هنا للمنطق المجرد، بل لمنطق شديد التعقيد، يرسم دروبه المتعرجة علم غيبي كامل؛ وهذا ما لا سبيل لعقل بشري الوصول إليه البتة. وبرغم أن موسى عليه السلام، ما كان ليفهم منطق تلك الأحداث الغريبة، رغم أنه لم يرَ ما هو أكثر تعقيداً منها، لكنه أدرك أن تسيير هذا الكون ليس بسيطاً كما كان يعتقده. ولذا سنجد الفلسفات والعلوم الحديثة، تحاول اللعب في منطقة التوقعات، والتأثيرات، والتقاطعات، والمفارقات، والإحتمالات. فنجد مثلاً تأثير الفراشة The Butterfly Effect.. ، ونظرية اللعب game theory في التحليل الرياضي..وغير ذلك من نظريات تأسست على جهلنا كبشر بالغيب، وعلى العكس، فقد تأسس فعل الرجل الصالح على علم الغيب (فَوَجَدَا عَبۡدٗا مِّنۡ عِبَادِنَآ ءَاتَيۡنَٰهُ رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِنَا وَعَلَّمۡنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلۡمٗا) (65)
وهو العلم المٌعطى بقوة ذي الطَّول، المهيمن على كل الزمن (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا) (82). ولذلك ارتبطت القصة بالصبر، أي بالزمن، حيث تنكشف الروابط والتأثيرات والتعالقات رويداً رويداً.
كانت قصة موسى والرجل الصالح بسيطة بأحداث بسيطة، ولكنها كانت كافية ليدرك موسى عليه السلام، بأن المسألة أكثر تعقيداً مما كان يتصور...فآثر الصمت.
وهكذا فالولي الصالح، يخرج من التخيير إلى التسيير المطلق، وهذا هو جوهر التسليم. وأزاء هذا التسليم يمتنع على الولي السؤال، منعاً إرادياً، قائماً على فهم الولاية.
فلو مات كل أبناء ولي الله دفعة واحدة، ولحقهم أزواجه، ثم كسدت تجارته، وافتقر، وناله من الداء العضال ما نال، ظل خاضعاً بلا مسألة، ولذلك كان أيوب يرفض السؤال حتى لا يخرج من دائرة التسيير المطلق. وقد أورد ابن حجر في فتح الباري، أن أيوب قضى في البلاء ثمان عشرة سنة. وقيل أقل من ذلك، فدائرة التسيير تلقي بالولي في عوالم تخالف السير العادي للأمور، فإن عمل أي عمل فاحسن قوامته فمآل عمله ليس لقانون الجودة، ولا لقانون السوق (العرض والطلب)، فهو خارج ذلك التصريف والتصنيف البشري والوجود بالقوة أو بالفعل، وإنما ليس أفضل للولي إلا أن لا يفعل شيئاً؛ ذلك أنه إن فعل أو لم يفعل سيان. وأن فعل لم يفعل بما يريد أن يفعل، فليس للأشياء إرادة في ذلك العالم، لا الأحياء ولا الجمادات (فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا (يُرِيدُ) أَن يَنقَضَّ) (77). وإرادة الجمادات إرادة السببية، لا إرادة الرغبة؛ فالأولى للأحياء والثانية لغيرهم. فالولي لا يفعل بل يُسَاقُ سوقاً للفعل، ويُضيَّق عليه حتى لا يجد من الفعل بُداً، فهو إن فعل فعل ولو بغير إرادة الفعل ولا النتيجة (وما فعلته عن أمري). فالرجل الصالح إن لم يقتل الطفل ولم يخرق السفينة ولم يُقم الجدار..عانى معاناة شديدة حتى يفعل، فإن فعل تخلص حينئذٍ من معاناته، فهو أداة وليس فاعلاً أصلياً، أو ما نسميه في القانون بالفاعل المعنوي.
٣- العيش المُر:
ليس لأولياء الله كرامات، بل لهم العيش المرير، ولا التيسير والمهل بل القهر والقسر، لأنهم عبيد الله في الأرض، عبودية مطلقة بالروح والجسد، وهم مع ذلك ليس لهم خيار الرفض، وإن رفضوا لم يجدوا مهرباً إلا القبول. وهذه هي العبودية المطلقة (ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (11) "فصلت".
فالولي الصالح عليه من العبودية ما للجمادات وغير العاقل بغير إختيار، وعليه من عبودية الآدميين سواء.
ولقد تفنن المتصوفة في ذكر كرامات الأولياء، وفي تفننهم الكثير من عدم الدقة، والأصدق في أقوالهم، أن الولي قد يفعل أشياء لا يتصور من مثله أن يفعلها، كالقتل وإتلاف الممتلكات، ولكن ذلك في حدود الولاية ومناطات الغيب.
٤- الرزق:
وليس للولي الصالح من رزق الآدميين شيء، فهو يرزق حد الكفاف، ولو اغتنى خرج من ولاية الله، لأن الفقر يعصم من القنوط، ويوجئ من التمرد. وأما الغِنى فهو لا يكون إلا في قعر الناموس الوضعي، ولو تفتحت الأبواب كلها دل ذلك عن نهاية الحظوة الربانية. ولذلك يقول الشاذلية على لسان ابن عياد الشافعي في المآثر العلية أن الفقر من لزوم السالك. فالغنى منتج من عمل المرء، والعمل إرادة، والإرادة محجوبة عن الولي فلا يجتمع بالعمل مطلقاً. ولذلك كانت السيدة مريم ترزق بلا عمل (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (37) "آل عمران"، وحينها أدرك زكريا أن مريم قد بلغت الولاية، فتبرك بمكان وجودها (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ۖ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) (38). فهنالك وليس (حينئذ)، دعا ربه، فكانت الإستجابة ببركة المكان الذي تبارك بغيره. فالمباركة إما بذاتها أو بغيرها، أما بغيرها فما ذكرناه عن مريم، وأما بذاتها فكالمسجد الأقصى الذي بارك الله ما حوله، ببركته هو.
ولذا فلم ترزق مريم إلا ما يقيم أودها، فليس لها أن ترزق أكثر من ذلك ولا أقل. فلا تُذل بالفقر المدقع، ولا تستغني فتثبط همتها؛ إذ أنها مأمورة، وهو أمرٌ في عبودية غير العاقلين كناقة الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد أسلفنا في التمييز بين العبوديتين، إذ لا تضيق على الولي في أمر غير العاقلين كما في أمر العاقلين لأن في هذا الأخير خيار.

(يتبع).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى