مقتطف إبراهيم قيس جركس - شرح كتاب فريدريك نيتشه [هكذا تكلّم زرادشت] -28- (عَنْ المرأة شابّةً وعجوزاً)

-28-
(عَنْ المرأة شابّةً وعجوزاً)

على غرار نهاية القسم 24 "عن الصديق"، يشكّل هذا القسم إشكالية بالنسبة لقارئ القرن الحادي والعشرين لأنّه يستخدم صوراً نمطية شائعة في أواخر القرن التاسع عشر المتعلّقة بالجنس والتلاعب بها دون تحطيمها بشكلٍ كامل. وقد أعرَبَ العديد من النقّاد عن أسفهم للكليشيهات والعبارات المبتذلة وغير المستساغة التي تدلّ على هيمنة ذكورية.

يرى آخرون أنّ النظام الرمزي الذي يبنيه نيتشه أكثر دقّة وأقلّ قيمة ممّا يبدو للوهلة الأولى. ما هو مؤكّد فعلاً أنّ حِسَّ الفكاهة المنحرف إلى حدٍ ما لدى نيتشه كان في أوجِهِ وبخاصة في هذا المجال. يحتوي القسم الحالي على عدد من العناصر الغريبة والهزلية الماجنة أكثر من أيّ قسمٍ آخر.

يتمّ تقديم زرادشت هنا على أساس أنّه شخصٌ ماكر ومحتال يتحدّث وجهاً لوجه (كما يتّضح من نهاية القسم). الأمر الغريب فعلاً هو أنّنا لدينا راوٍ غير زراشت أو أي بطلٍ آخر من رواية زرادشت، وهو صوت مؤلّف مجهول (مثل الصور الصادر من السماء في مسرحية فاوست لغوته، على سبيل المثال). يسأل هذا الصوت زرادشت عن المكان الذي يمضي إليه متسلّلاً عبر الغروب وما الذي يخبّئه بهذا الحذر تحت معطفه؟. أمّا زرادشت الذي توقّف على الفور وكأنّه تمّ القبض عليه بالجرم المشهود ليبرّر نفسه. يروي نقاشاً مع "امرأة عجوز شابة": يُنظَرُ إلى المرأة العجوز في بعض الثقافات على أنّها كناية تأليفية، جزء من الميثولوجيا الإغريقية "مويرا" التي تلفّ خيوط القَدَر، أو نورون في الميثولوجيا الشمالية، أم الرّبّ المقدّسة، والراهبة والساحرة. لكن نلاحظ أنّ المرأة لم تتحدّث معه كشخص، بل تحدّثت إلى روحه، على غرار أحاديث زرادشت مع "قلبه". وهذا بالتأكيد يميّز المرأة العجوز عن أيّة شخصية أخرى في الكتاب. مايلي هو خطاب قصير باعتباره "قصّة داخل قصّة" لايشرح فقط فلسفة زرادشت عن الجنسين بل أيضاً ما يخفيه تحت معطفه وإلى أن يتّجه. تطلبُ منه المرأة العجوز أن يحدّثها عن النساء. وفي نهاية حديثه معها تقدّم لها المرأة العجوز نصيحة تتعلّق بحقيقة النساء "الشابات".

إنّ التعقيدات التي خلقتها هذه الوسائل السردية (راوي غريب، إحراج زرادشت كما لو أُلقيَ القبض عليه بالجرم المشهود، حقيقة أنّ حكمته تتعرّض للخطر من خلال تحوّله إلى متلقّي للحقيقة عن غير قصد، والتطور الدائري للحبكة "الثقيلة" التي تنتهي بحكمة ظريفة ختامية). لقد أصبحت كلها تثير الشك حول زرادشت، الآن فجأةً لم يَعُد ذلك المعلّم الحكيم للإنسانية العليا، بل تحوّل فجأةً إلى راوٍ غير موثوق لديه ما يخفيه.

وهكذا فإنّ شكل السخرية السردية يلقي بالشكوك أيضاً على المحتوى الشوفيني والنمطي لخطابه الأساسي، والذي حُبِكَ ليبدو مغروراً ويخدم الذات. من الممكن رؤية كل الكليشيهات المُبتَذَلَة على حقيقتها: الكليشيهات المتعمّدة، لأنّ النص يُنتِج قراءة. مفادها أنَّ كل هذا الكلام هو نتاج عقل ذكر يفكّر بأعضائه التناسلية. زرادشت لا يستعدّ لبناء الإنسانية العليا طوال الوقت. إنّه أيضاً "إنسانٌ مُفرطٌ في إنسانيته!" والمرأة هي التي تجعله يَفقد رباطَة جأشه. لقد تمّ تصويره هنا على أنّه بعيد كلّ البُعد عن فلسفته وآرائه العميقة والسبب هو أنّه "ذهب إلى النساء".

المرأة العجوز تمتلك الحقيقة عن "المرأة". وقد ردّت على حديث زرادشت بردٍّ ساخر: ((كثيراً من الأشياء اللطيفة قال زرادشت، ...[لكنه] لايعرف النساء كثيراً)). وتوبّخه باختزال القائمة بأكملها بجملة ((ليس هناك من شيء مستحيل لدى المرأة)) وهذا تصريح مهم للغاية، يردّد صدى مايقوله لوقا في إنجيله 1: 37 الذي يصوّر الملاك جبريل وهو يقول لمريم ((لاشيء مستحيل مع الله)). لقد تمّ "إدراك" الحقائق، فعلى الرغم من "معرفة" زرادشت الضئيلة (مثل مريم العذراء) وعمر المرأة (مثل أليزابيث) لكنّ هذه المعجزة تنشأ من المرأة وليس من الرجل.

أخيراً تقدّم له حقيقة صغيرة تترك للقارئ لغزاً يحيّره عمّا يحمله زرادشت تحت معطفه. هناك عدد من الاحتمالات، وكلّها مسلّية. أولاً، هناك إحدى النظريات التي يصرّح بها أحد مترجمي نيتشه أنّ هذه يمكن أن تكون إشارة إلى فايدروس الذي يخفي لفافة أسفل معطفه تحتوي على "خطاب عن الحب"، ويُلفت انتباهنا إلى مقطع في محاورة فايدروس لأفلاطون (والذي كما يجب أن نلاحظ هو عبارة عن محاورة مشهورة في نقدها لطبيعة الكتابة وكونها عرضة لسوء التفسير والتأويل). ويشير صوت الراوي الغامض الساخر المتدخّل إلى ثلاثة إمكانيات مثيرة للعجب: ((هو كَنزٌ وَهَبْتَهُ؟ أم صبيٌّ قد وُلِدَ لك؟ أم تُراك الآن تسلك درب اللصوص؟))، أي أنّه بدأ ينحاز علانيةً إلى الأشرار من خلال وصفه ((صديق اللصوص)).

االسيدة العجوز تمسك بمفتاح حَلّ لغز ما يحمله زرادشت تحت معطفه. فهي تقدّم له عربون شكر على فشله في إلقاء خطابه، وهذا العَربون هو عبارة عن "حقيقة صغيرة" وتتساءَل ((هل أنا مُسِنّة بما فيه الكفاية لمثل هذه الحقيقة؟)) ثمّ تصرّح بها له ((إذا ذهبتَ إلى النساء، فلا تنسَ السوط))

هذا القسم ماهو إلا جزء من نكتة أوسع تتجاوز نصّ زرادشت ذاته. يجب أن يتمّ وضع المقطع بكامله في سياق علاقة نيتشه، أو بالأحرى انعدامها، مع لو سالومي. فبدلاً من الزواج منها، سافر في صيف عام 1882 برفقتها يرافقهما صديقهما المشترك بول ري عبر جميع أنحاء أوروبا، في مزيج من "علاقة ثلاثة" غريبة من "الأرواح الحرة". في ذلك الوقت، وبناءً على رغبة نيتشه، استأجر الثلاثة مصوّراً محترفاً ووقفوا لالتقاط صورة توضّح السيناريو التالي: مركز المسرح يصوّر عَرَبَة خشبية صغيرة تتّجه نحو اليمين. ركعت لو سالومي على متن العَرَبَة على اليسار، مُلَوّحة بسوط، أمّا الرجلين فواقفين على اليمين، بينما ينظر نيتشه إلى خارج نطاق الصورة جهة اليمين وإلى الأعلى.

المشهد بأكمله مجرّد تمثيل ومزحة، ممّا يوحي بأنّ المجموعة تستريح للحظة وأنّ المرأة ستجلدهما مرّةً أخرى لإخضاعهما لنيرها. القراءة ألأكثر شيوعاً لهذه "الواقعة" هي: خُذْ سوطَكَ معك عندما تذهب لمُلاقاة امرأة لأنّك ستحتاجه لأغراض تأديبية أو لفرض سيطرتك أو هيمنتك عليها.

لكنّ قرائتي تختلف تماماً عن هذه القراءة السطحية، إذ قترح كاتب سيرة حياة نيتشه السويسري البارز كيرت بول يانز أنّ هذه النصيحة تعني أنّها هي، "المرأة"، التي تملك سوطاً، وهذا مايجب أن يضعه الرجال في الاعتبار.

إذا لم يكن زرادشت يخبّئ سوطاً تحت معطفه (بما أنّه في يد المرأة)، فما هي "الحقيقة الصغيرة" التي يحملها زرادشت؟... يتمّ حَلّ هذا اللغز من خلال عملية الإقصاء. فزرادشت، الذي يذهب إلى النساء، يخفي أنتصاب قضيبه". كتصوير للعلاقات الجنسية الحقيقية بين الأفراد، وتلك النكتة عبارة عن تهكّم ذاتي أو سخرية ذاتية يسخر فيها نيتشه من نبيّه مؤكّداً بشريته ليس أكثر.

إذن، حلقة كوميدية _ولكن أين هو المغزى الفلسفي الكامن ورائها؟
هناك نوعان من الأفكار الهامّة هنا. الأول ضعيف نوعاً ما: إذ لايمكن تجاوز بيولوجيا الجنس البشري في مجال على النفس أو الثقافة. الرجال والنساء مختلفون من الناحية البيولوجية، وبالتالي لايمكن إلا أن يكونوا مختلفين من الناحية الروحية أيضاً. ((وَمَنْ ذَا الذي يُدرِك جيداً كَم غريبان عن بعضهما هما المرأة والرجل!)) يسألنا زرادشت بصورة بلاغية في الكتاب الثالث، القسم العاشر "عن الشرور الثلاثة". لكن هذا لايعني أنّنا يجب أن نترجم هذا الاختلاف إلى عدم مساواة أو تفاوت من الناحيتين الاجتماعية والسياسية. ولكن قد تكون هناك أيضاً دوافع لأشكال من المساواة من شأنها أن تخفي أوجُه الاختلاف. أمّا الفكرة الثانية فقد تمّت صياغتها بشكلٍ أفضل وبعناية أكبر: الكوميديا الاجتماعية والجنسية في القسم هنا هي استعارة لمشكلة التغلّب على الإنسان وتجاوزه. لقد اقترحتُ سابقاً بأنّ العنصر المركزي في تحليل نيتشه النفسي للإنسان هو العلاقة الداخلية بين الدوافع/الغرائز الذكورية والأنثوة (انظر مناقشتنا للقسم 25 "عن ألف هدف وهدف").

تتحدّث المرأة العجوز إلى عقل زرادشت _فهو جزء من زرادشت. وهي كناية لجانب من جوانب النفس البشرية. هذا القسم إذاً يتعلّق بالصراع (ربّما يكون السوط متبادلاً بين أيدي الرجال والنساء) واستحالة قيام أي تفاهم متبادل (أشار إلى هذه الفكرة خطاب زرادشت العدواني) بين هذه الدوافع المتنافسة. الكوميديا الاجتماعية هي إشارة إلى كلٍ من هذا الصراع الأساسي، والأهم من ذلك، أنّ زرادشت لم يتمكّن بعد من جعل هذا الصراع مثمراً. ليس من الجانب الذكوري، بل فقط عندما يسلّم هذا الجانب الذكوري زمام أموره للجوانب الأنثوية للحصيلة الكلية للكائن الحي السليم، "فلا شيء مستحيل".

تأتي إمكانية الحمل والولادة من الجانب الأنثوي للكائن الحي _حرفياً ورمزياً: الحفاظ على الحياة ضمن ضمن سياق الخلق والإبداع. هذا التأويل "الميتافيزيقي" لرمزية الجنس يسمح لنا أيضاً بإعادة قراءة ومراجعة جميع الكليشيهات التي نطق بها زرادشت في وقتٍ سابق (ومع ذلك، إنّها لا تراجع زرادشت المشتّت جنسياً الذي قال هذه العبارات المُبتَذَلَة عن المرأة البيولوجية بدلاً من المؤنّث الرمزي، ولا نيتشه المكبوت جنسياً الذي اعتقد أنّهم كانوا مضحكين). سنحاول تطوير هذا التفسير لجنوسة الدوافع لاحقاً خلال شرحنا لباقي فصول الكتاب.

إبراهيم قيس جركس 2020

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى