بلقاسم بن عبد الله - لاقـراء يـراقـبـون كُـتـابـهـم

.. وماذا لو جلس القراء النبلاء قبالة كل كاتب نزيه شريف يتمتع باللياقة الأدبية، يحدقون في ورقته البيضاء، ينظرون إلى قلمه المنتصب بين أنامله، ويهمسون له بالصوت المسموع: انتبه، إننا هنا معك، مادمت معنا وتفكر فينا، وتحاول أن تتخلص من رقابتك الذاتية القاسية؟.. هكذا تساءل صاحبي العزيز المعزز، وهو يقلب صفحات صحيفته المفضلة بحثا عن أكلة ثقافية شهية، وسط زحام أخبار كرة القدم.

تجاذبنا أطراف وهوامش الكلام بمقهى عمي عيسى برياض المكان، قبل أن ينضم إلينا أحبابنا الطيبون، صافحنا أولهم وهو يبادر بالقول: دعك من قراءة لا تسمن ولا تغني من جوع.

- رد الثاني: بل القراءة أجدى وأنفع من اللسان الطويل الذي يتمدد ويتمطط كالأفعى ليلف عنق الآخرين..

- رفع الثالث رأسه قائلا: لماذا نحرم المقهى من جلسة ومتعة القراءة، بعد أن حرمنا الحافلة والطائرة والقطار، وأماكن القلق والانتظار، و ما أكثرها هنا وهناك...

- هنا مسك الرابع رأس الخيط ليتـكلم برزانته المعهودة: حتى القراءة وحدها قد تتحول إلى موقف سلبي، تغرس في صاحبها داء الأنانية والعزلة والغرور. ينبغي أن تتحول القراءة بالمدمنين عليها إلى موقع أمامي مسؤول، إلى فعل فاعل، إلى حركة منظمة.

نحن كقراء ما موقعنا وموقـفـنا مما يقدم لنا في كثير من الأحيان، من رداءة وضحالة وبساطة؟.. لماذا لا نرفض "أكل السمك مع شرب اللبن"؟.. ما نصيبنا من المسؤولية؟.. لماذا لا نجلس قبالة كل كاتب أو مبدع و نحدق جيدا في الورقة أمامه، و القلم الذي يمسكه؟.. لماذا لا نشجعه على التقليل من خطورة الرقابة الذاتية القاسية التي تكبل الفكرة الصائبة داخل عقله؟..

تململ الثاني في مكانه، مضغ الكلمة مرتين، قبل أن ينطق بها بليغة حكيمة: وهل تظن بأن كلمة القراء تجد لها صداها المعقول لدى المهتمين من كتاب ومشرفين على الصفحات والقنوات الثقافية؟.. في أحسن الظروف و الأحوال، يظل صوتنا هامسا هامشيا، أمام عظمة ما يملكون من أقلام و وسائل بعيدة عن متناولنا.. صوتنا ورقة بيضاء ملغـية، فلهم حكمة القرار، وقرار الحكم. وإلا.. متى طلبوا رأينا كقراء في كتاباتهم وأركانهم وأبوابهم ونوافذهم؟..

و بينما بقي الأول على حياده، ملتفا وسط جلباب صمته الفضي أو النحاسي، تدارك الثاني الموقف ليقول: لماذا لا نجرب من الآن كقراء دائمين ومداومين في تأسيس نقابة للدفاع عن حقوقنا الشرعية، وإبرام معاهدة صلح ومصالحة مع أولئك الكتاب والمبدعين، نسأل عنهم، إذا غابت عنا أقلامهم، نتفهم أوضاعهم وأوجاعهم، نشجع كتاباتهم الجيدة والجادة، وفي نفس الوقت، ننتقد موضوعاتهم وطروحاتهم، وبالتالي علينا ألا نظل محايدين سلبيين، نخـنق مبادراتهم وكتاباتهم بالصمت واللامبالاة..

.. و كانت الساعة تشير إلى التاسعة مساء، صفق صاحب المقهى معـلنا اقتراب موعد الإنصراف.. نهض الجماعة، و لسان حال أحدهم يقول: حتى هذا "القهواجي الطيب" يحرمنا الآن من الإستمتاع بنكهة المناقشة الهادئة المسالمة..
أعلى