بلقاسم بن عبد الله - وطار ونضال الكلمة -2-

[SIZE=26px] [/SIZE]وإلى أي حد يستطيع الأديب أن يتحكم في أدوات كتاباته الإبداعية، لتتحول إلى وسيلة نضال بالكلمة المنيرة الحكيمة؟.. تساؤل موضوعي صافحني هذه الأيام، بعد مساهمتي الفعلية في ملتقى عنابة لتخليد الأديب المرحوم الطاهر وطار، وأعود الآن من جديد لأنقح تكملة المقالة النقدية عن وطار رائد القصة النضالية في الجزائر.

.. ونلاحظ بأن الالتزام بالخط الثوري، والالتحام بمسيرة الطبقات العمالية يتخذان طابعا أعمق في قصته «اليتامى» ضمن مجموعة "الطعنات"، ويتجلى ذلك في ثورة العمال على مدير المزرعة الذي كان يستغل جهدهم وعرق جبينهم، ليرتع هو وأسرته في بحبوحة من العيش الرغيد..

ماذا يريد عبد الواحد أن يسمعه للمدير؟

ـ سيقول له أولا: أننا نحتاج إلى أجرة عملنا. التي لم تقبضها منذ ثلاثة أشهر، والتي بلغنا أنها جاءتنا، لكن المدير فضل أن يسدد بها الديون المترتبة على المزرعة، والتي لا علم لنا بها.

ـ وسيقول له ثانيا: هذه خمس سنوات، وأنت تشل عملنا بمنعنا من التجمع، وتكوين نقابتنا، والتصرف في شؤوننا أو شؤون مزرعتنا.

ـ وسيقول له ثالثا: أيها المدير إنك سرقتنا، مع جهازك الحسابي، فعملنا هو هو، لكن مردوده يتضاءل في أوراقك، مهما بذلنا من جهد ومهما تنازلنا عن الساعات الإضافية.
لذا من الأحسن، أن تصفى معك حساباتنا، قبل الإفتراق، لن نضربك لن نقتلك، لن نهين زوجتك، أو ابنتك، أو كلبك، ولن نحطم سيارتك، لكننا فقط، لا نريد أن نتركك تهرب، قبل تصفية الحساب، نريد جلب خبير من المدينة، ومحاسبتك.

ورغم أن العمال يعرفون النتيجة مسبقا، لكنهم يفضلون أن يتحدى عبد الواحد المدير، وأن يشركه في المصاب بل ويحمله إياه.

وكاتبنا وطار يقف هنا في قصته هذه التي لا أظنها إلا واقعية مساندا قضية هؤلاء العمال الكادحين، ضد الإستغلال الذي حاربوه بالأمس بحد السلاح ولا يرضون أن تبقى جذوره في جزائر اليوم.

" فإذا ما استعمل جميع ما لكتابنا وفنانينا من قوى خلاقة ـ كما يقول الكاتب محمد ديب ـ في سبيل إخواننا المظلومين، فإن الثقافة والنتاج الفني، يصبحان سلاحا تسترجع به الحرية والكرامة".

الطاحونة .. وتحطيم الشكل القديم

وإذا عدنا إلى القصة التي افتتح بها مجموعته هذه، ونعني بها قصة "الطاحونة" فإننا نجد بطل القصة الجندي البسيط يلتقي بطفلين يطلبان منه الخبز باستكانة "فالبشر حين يجوعون يذلون، ولو كانوا أحفاد الكاهنة!" فيقدم لهما ما معه من الدراهم. بعد أن يتعرف على بعض من قصة هذين الطفلين البريئين، ويؤكد لهما بأنه "سيكثر الخبز.. لن يتصدق عليكم به أحد، لكن ستنالونه باستحقاق أنظر إلى هذه الأراضي الواسعة إنها ملكنا جميعا وهي غنية تعطينا إلى الأبد ما يكفينا خبزا وخضراوات وغلالا كان الإستعمار يشغلنا عن أرضنا.." وقد تبدو هذه القصة بسيطة من حيث محتواها، لكن كاتبنا وطار أضفى عليها شيئا من تجربته الإنسانية، مما جعلها تنبض بالحيوية والنشاط، وكأنه نفخ في شخوصها روح الحياة!

"هذه المكاتب الخالية من كل أثر للحياة، تعبر عن نفسياتنا.. مسكينة هذه المكاتب، لا تستطيع أن تنظم نفسها بنفسها.. الثورة أول مهمة تنجزها.. هي تحطيم الشكل القديم للمكاتب.."

ذلك هو مفهوم الثورة عند الطاهر وطار، إذ هي "ليست عاصفة هوجاء تقتلع الأشجار، وتخرب السدود وتحطم القرميد إنما غيث سحساح يجرف الطحالب والأغصان الهشيمة، ويفني العروق الحية، لتزهر الحياة وتخصب وتثمر".

(والثورة التي تتخذ المثقفين الثوريين سمادا لها ستظل تسير عرجاء). ولعل هذا هو الذي حدا بكاتبنا وطار لأن يهدي حقوق تأليف كتابيه: الطعنات والهارب إلى كل من جبهة التحرير الفيتنامية وحركة التحرير الفلسطينية (فتح) لاقتناع منه "بأن هذه الحركات التحريرية تواجه حروبا جهنمية مادية، ولذا ينبغي مساندتها ماديا أيضا، وليس فقط بعبارات التأييد الكلامي".

الطعنات.. والأسلوب الخطابي

وعندما نرجع إلى القصة التي أخذت المجموعة عنوانها، وهي : الطعنات.. فإننا لا نجدها ـ في الحقيقة ـ ترتفع إلى مستوى القصص السابقة، ذلك أن قصاصنا الطاهر يتخلى ـ من خلالها ـ في كثير من الأحيان، عن أسلوبه الساحر الممتع وطريقة تناوله للقصة الأخاذة، إلى أن يغرق في الأسلوب الخطابي الطنان، مثل "أيها الجندي، أيها المسبل، يا أيها الفدائي، أيها الضابط وضابط الصف، أنت لإطار الأمس واليوم.. وأنت إطار اليوم والغد.. أنت الشرارة والشعاع، بل الشمس اليوم وشمس اليوم والغد.. بل والشمس السرمدية، أنت الحياة.. والدم الذي يجري في شرايين الحياة "..
إن هذا الأسلوب الخطابي الكلاسيكي، الذي يتكرر أيضا في مقاطع أخرى إنه ولاشك ممل ولاسيما في القصة التي من المفروض أن تكون ذات أسلوب شيق أخاذ يجذب القارئ إلى التهام القصة بنهم وشراهة!..

غير أن هذا الأسلوب الخطابي، يشفع له به أسلوب المنولوج الداخلي الذي يمسح شيئا من غبار الكلاسيكية الذي كاد أن يطمس حيوية القصة ذات المضمون الشيق، بأحداثها تصور حياة أحد المجاهدين القدامى، وجد نفسه بعد الحرب التحريرية في فراغ مخيف، إذ أضحى "كقطعة حبل تجرها المياه الراكدة الخرساء.. أو كسلحفاة عمياء. تتبعثر على حافة مستنقع نتن قذر.." فسقط إذ ذاك في أوحال المجتمع وآثامه، ولم يجد له مفرا غير احتساء كؤوس الخمر باستمرار، يسرح بأحلامه في أمسه المفقود، ونعيمه الضائع. ومن هنا تتعدد الطعنات لهذه الضحية.. يا للجراح يلسعها الملح !.. وفي الأخير، يتأكد أن "الجيفة لا تعنيها الطعنات، وليس غير الرجال يتحسسون الطعنات ".

المونولوج وتصوير انـفـعـالات الأبـطــال

وقصة "الطعنات" تذكرنا بقصة أخرى تضمها نفس المجموعة، وهي قصة "البخار" إذ يكاد يكون الهدف بينهما واحدا، كما أن الملجأ إليه بطلي القصتين واحد أيضا وبطل هذه القصة الأخيرة "البخار" عندما يشعر باللامبالاة والفراغ والتقزز من المجتمع الذي يعيش وسطه يلجأ إلى الخمر، يحتسي كؤوسا معتقة، علها تريحه من همومه ومتاعبه ولو للحظات.

وفي قصة "النجار" هذه يكون استعمال الطاهر وطار.

لأسلوب المونولوج الداخلي، قد بلغ الأوج والروعة..

ولعل التجاء كاتبنا وطار إلى هذا النوع من الأسلوب القصصي الرائع، أسلوب المونولوج الداخلي الذي يكاد يكون القاسم المشترك بين معظم قصصه، لعل هذا الإلتجاء كان يهدف تصوير وإظهار مختلف الإنفعالات والمشاعر الداخلية العنيفة التي تنتاب أبطال وشخصيات قصصه، وقد نجح الطاهر في ذلك إلى حد جعلنا ندرك بوضوح ذاتيات وخصوصيات أبطال قصصه، وكذا متاعبهم واهتماماتهم اليومية النضالية.

رسالة .. ليست ذاتية وجدانية

ويتجلى أيضا أسلوب المونولوج الداخلي أكثر وضوحا، في قصصه "رسالة" التي قد تبدو للوهلة الأولى أنها من ذلك النوع من القصص التي اعتاد كتابنا ولوج أبوابه العريضة !..

والواقع أن هذه القصة هي الأخرى ملتزمة بالخط الثوري النضالي الذي رسمه الكاتب لنفسه، من خلال مجموع قصصه، فبطل هذه القصة، شخص يدعى المنجي، يعيش في الحياة السرية مطاردا من طرف القوات المحلية، على أعماله التخريبية، ضد الفرنسيين فهو "لا يشتغل بالسياسة، كما قال ذات يوم لصاحبته ياسمينة (بطلة القصة) لأن هذا منطق بورجوازي، إنما فقط يناضل. ولكي يبلغ المرء درجة النضال، ينبغي أن يعرف أولا لماذا يناضل أن يقتنع بعقله وعاطفته..

والقصة عبارة عن رسالة طويلة كتبتها ياسمينة بطلة القصة، تروي فيها الأحداث التي جرت بعد رحيل جارها المنجي بطل القصة، كما تحكي ذكرياتها معه، وما قاست من مرارة في سبيله، لأنها اقتنعت ـ كما تقول في رسالتها ـ "بأن الدرب التي اقتيد كلانا للسير فيها، ينبغي أن انطلق فيها كما يحلو لك، لا كما يحلو لي.."
وفي النهاية "تلت ياسمينة ما كتبت، شعرت بالخجل، وتذكرت أوامر اليقظة الصارمة، فسارعت لإحراق الرسالة، وهي تتمتم:

ـ بعد الظفر، أعيد كتابتها، وأروي فيها تفاصيل أكثر"..

ولئن كانت "رسالة" هذه، طويلة بعض الشيء، إذ ملأت خمسة وعشرين صفحة من الكتاب، إلا أنها مع ذلك تعتبر ـ بحق ـ إحدى روائع مجموعته القصصية هذه..

المرأة كرمز

وتتبلور الكلمة المناضلة لدى الطاهر وطار أكثر، في قصته الأخيرة "رمانة" التي ليس عنوانها، إلا رمزيا، "ويلعب الرمز دورا أساسيا ـ في معظم قصصه ـ في تحديد كثير من شخوصها، وتناقضاتهم، وما يحيط بكل منهم من ظروف ذاتية أو طبقية" كما أن المرأة في انتاجات وطار تلعب دورها الثانوي كامرأة ويرمز إليها غالب الأحيان، ـ كما يذكر هو نفسه ـ أما إلى العدالة، أو الأمة، أو القضية أو حتى الثورة.. كما في قصتي: "رسالة" و"رمانة". فالمرأة ـ كما جاءت مثلا في قصة "الخناجر" تساوي الأنانية والأنانية تساوي الملكية الخاصة، والملكية الخاصة تساوي قيدا حديديا في عنق المناضل!".

وفي قصة "رمانة" هذه تصوير دقيق لحياة ومشاكل عينات من المجتمع، تمثل انتماءات اجتماعية مختلفة، فهناك: بوعلام ومجدوب وصالح وخالي ورمانة، يمثلون أمام تاجر التحف، زوج رمانة، الأخير، الذي يرمز إلى الطبقة الجديدة التي تتنعم وسط الخيرات، بينما "الفقراء ميتون من يوم ولادتهم"!

وعلى الرغم من أن هذه الحصة طويلة جدا إذ أربعا وستين صفحة، إلا أنها تعد من أنجع أعماله القصصية في المرحلة الراهنة ـ كما يذكر الأخ الطاهر وطار نفسه إذ هناك أشياء كثيرة يمكن أن تقال بصددها، ومجرد وقفة قصيرة كهذه لا تفي بحقها. وأنا أعجب هنا من صمت الكبار عندنا تجاهها، على الرغم من أنها نشرت منذ أربعة أشهر في مجلة "آمال" الأدبية.

ولعل المجال هنا لا يسمح بتناول قصص "الطعنات" تناولا فنيا أكثر عمقا، فعلى الأقل نرجو أن تكون لهذه الدراسة السريعة ما يعدها. وخلاصة القول، أن تجربة الطاهر وطار في "الطعنات" سيكون لها ولاشك المكانة اللائقة بها في دنيا القصة القصيرة، لا في الجزائر فحسب وإنما أيضا في العالم العربي.
أعلى