نادية عيلبوني - آفات الثقافة الفلسطينية

ربما لا يكون أسلوب طرق الأبواب مباشرة للدخول إلى فناء البيت الفلسطيني لمعاينته ، متاحا وسهلا أو مأمون العواقب .كما أن محاولة اقتحام ذلك البيت عنوة للبحث في أسباب ذلك التداعي المتواصل للأسقف والجدران فيه، لا بد وأن تجد في طريقها تلالا من الممنوعات التي لا تقل في سماكتها ومناعتها، وعنجهيتها ،عن تلك الحواجز والجدران التي أقامها الاحتلال بين المدن والبلدات الفلسطينية.
ولعلنا ندرك مسبقا ، أن الدخول من الباب الواسع لتفقد كل زاوية من زوايا البيت الفلسطيني ، تكون من الأمور الشاقة والمكلفة لمريديها. ولعل التسلح بالشجاعة والإقدام وحس المغامرة، يكون مطلوبا للباحث الجاد للقيام بتلك المهمة ، إلا أن هذا وحده باعتقادنا،لا يكفي إلا إذا أضيف إليه ، كل ما يلزم من الأدوات المعرفية القادرة على جرف كل هذا الكم من الركام الذي يحجب رؤية الأساسات المتداعية التي صارت عليها أركان هذا البيت.
هنالك بلا شك، صعوبات جمة ومتنوعة تقف عائقا أمام الفلسطينيين باتجاه دخولهم إلى عالم الحداثة من مختلف النواحي الثقافية والمعرفية . ولعل تلك الصعوبات ،لا تتحدد فقط بوجود الاحتلال الذي كان من المفترض أن يشكل وجوده تحديا وعاملا إضافيا ،يحفز الفلسطينيين للطرق وبقوة على الأبواب المفضية إلى آفاق العالم الحديث، بقدر ما تتعلق أساسا بالبنية الذاتية للمجتمع الفلسطيني ،ومنظومته الفكرية والقيّمية ،التي بقيت ساكنة ،على الرغم من كل الموجبات التي تدعو إلى حراكها وتغييرها باتجاه آفاق أخرى تحاكي ما طرأ من تبدلات عميقة على العالم ،وعلى مفاهيمه وقيمه.
الاختناقات والأزمات، كما خيبات الأمل والانكسارات المتتابعة ، التي عاشها ويعيشها الفلسطينيون،صارت من السمات اللازمة واللصيقة التي تميز حياتهم . كما أن انسداد الآفاق الذي وصل إليه الوضع الفلسطيني، لم يكن مصادفة ،كما لا يمكن رده، بأي حال من الأحوال إلى سوء الطالع ، أو إلى القضاء والقدر الربانيين. ولعل التكرار المتواصل لتلك الأزمات والآلام لا بد وأن يدفعنا بقوة للتوقف والحفر عميقا لمعرفة أسباب ذلك التعثر الدائم، بعيدا عن الحالة العاطفية، وبعيدا عن حال الكبرياء الجريحة التي منعت وتمنع أية دراسة نقدية جادة للخروج من هذا الجب العميق .
لا يمكننا الادعاء بالانتقال إلى حالة ثقافية ومعرفية متقدمة وقادرة على التماهي مع معطيات الحياة ، دون استخدام مبضع النقد ، ودون الاصطدام المسبق بمختلف عناصر المنظومة الثقافية السلفية للفلسطينيين. وربما يكون من المهم الإقرار أولا، أننا أمام مهمة صعبة ومعقدة، بمقدار ما هي مستفزة للعواطف و لمشاعر الكبرياء التي تتحكم بالفلسطيني على حساب أولى أبجديات حياته. وهذه المهمة ستتسبب بالكثير من الإحساس بالألم الناتج عن مسك الجروح والضغط عليها لإخراج كل هذا الكم المتراكم من الصديد المتروك والمهمل، داخل اللحم الفلسطيني الحي .
وربما لهذا ، لا نجد سبيلا للالتفاف على الحقائق الواقعية أو مداراتها ، أو حتى اللجوء إلى تفسيرها ليكون وقعها أكثر احتمالا على ذوي الكبرياء. وأولى هذه الحقائق التي لا بد من تبيانها، هي أن الثقافة الفلسطينية كانت ولا تزال تقتات من نفايات التاريخ الثقافي لدول الاستبداد في المنطقة العربية .وأنها لم تحاول التأسيس لمرجعية خاصة بها ، تأخذ بالحسبان التطورات العميقة التي طرأت على العالم في القرنين الأخيرين .
لقد كان من شأن الصراع مع عدو مدجج بكل أسباب الحداثة المعرفية، أن يخلق حافزا للفلسطينيين للخروج من حاضنة ثقافة المحيط العربي المنتمية إلى مجتمعات ما قبل الدولة الحديثة، إلا هذا لم يحدث ،وبقي العقل الفلسطيني أسيرا ومستتبعا بالكامل، للثقافة العربية والإسلامية المنغلقة التي تحتقر العقل والحرية ،مثلما تحتقر الفرد وتقدس الاستبداد وتسبغ عليه وعلى رموزه كل هالات القداسة.
وربما لا نجد حاجة للاستفاضة في الحديث عن القيم التي أفرزتها ثقافة الاستبداد في المنطقة العربية ، إلا أنه من المهم التذكير، أن تلك القيم انتقلت بدورها إلى العقل الفلسطيني وصارت جزءا لا يتجزأ من منظومته الأخلاقية أيضا، فالتكفير والتخوين والحط من قيمة الجهد المعرفي والنقدي للأفراد ، والنظر إلى كل ما هو جديد على محمل الريبة والشك والتآمر الاستعماري والصهيوني ،صارت من اللازمات اللصيقة بالفكر الفلسطيني.
وعلى الرغم من كل الإنتاج الكمي الذي راكمه الفلسطينيون في مختلف مجالات الإبداع الثقافي ، إلا أن هذا الكم لم يشكل أية إضافة نوعية تتقدم على ما هو سائد من أفكار وتوجهات ايديولوجية وقيم عتيقة. بحيث يبدو المثقف الفلسطيني بما يمتلكه من محمولات، كجزء من العامة ، بفارق بسيط يتحدد في مقدرته على الكلام بالفصحى ،ومقدرته على الكتابة بها.
ومع احترامنا الشديد لبعض الاستثناءات القليلة التي برزت في حقول الإبداع المختلفة كالشعر والرواية ، إلا أن هذه الاستثناءات لم تتحول إلى ظاهرة قادرة على الارتقاء بالثقافة الفلسطينية بعمومها ،أو التأثير على محيطها الاجتماعي .وهي لم تصل في أي وقت من الأوقات إلى مستوى خلق حالة مبشرة تمكننا من الادعاء بوجود "انتلجنسيا" فلسطينية تتقدم نحو مهمتها في إعادة تخليق المجتمع وتكوينه على أسس جديدة ومعاصرة.
وعدا ذلك، فقد استمرت الثقافة الفلسطينية ،برغم بلوغها سن الفطام عمريا، في الرضاعة من ثدي المحيط العربي الفقير والخاوي، إلا من الايديولوجيا التي لا تغني ولا تسمن من جوع ، بل تؤخر الوصول إلى حالة الاعتماد على الذات كقيمة أخلاقية حداثية أولى.
لقد أغلقت المفاهيم الإيديولوجية المسطحة-(عروبية-إسلامية-ماركسية)- التي صادرت أبجديات الحياة الأولى ،أمام الفلسطيني كافة أبواب الاجتهاد، وجعلت مفاهيمه ورؤاه، أقرب ما تكون إلى مفاهيم ورؤى طوطمية وعقائدية ميتة ،لا تعترف بما تقدمه الحياة كل يوم من جديد يفرض نفسه على واقع الشعوب الحية، ويستحثها على خوض غمار المراجعة الدائمة لكل ما تحمله من مفاهيم وتوجهات .
ولعل المعضلة الأخرى التي تواجه الثقافة الفلسطينية ، والتي لا تقل تأثيرا عن معضلة استتباعها عربيا ، تكون في هذا الالتحاق الأعمى والمزري و شبه الكلي، للمثقف الفلسطيني بالسياسة. وربما كان من الخطأ تبرير هذا الاستتباع بوضعه كله على مشجب القضية الوطنية. ذلك أن القضية الوطنية بالذات ،لا يمكنها الوقوف على قدم واحدة يمثلها السياسي . والثقافة في المجتمعات المدنية المعاصرة جسد كامل التكوين يؤدي وظيفته كمرشد ومرجعية أولى لرجال السياسة لكونها تدخل في كل المفاصل الحيوية للدول والمجتمعات.
لقد فقدت الثقافة الفلسطينية باستغنائها عن استقلاليتها، أحد أهم خصوصياتها العضوية المكونة، بما هي بناء مرجعي قائم بذاته ، ذلك عندما ارتضت لنفسها أن تكون منبرا وبوقا إضافيا للسياسيين ،ومنذ أن استبدلت دورها بأدوار ليست لها ، الأمر الذي جعل منها مطية لأغراض بعيدة كل البعد عن دورها ووظيفتها الأسمى والأهم.
لقد نجح السياسيون في لحظة ماكرة من لحظات التاريخ الفلسطيني ، من جر الثقافة الفلسطينية من شعرها، وإجبارها على دخول سرير بيت الطاعة السياسي المفروش والمزين بالشعارات الكبيرة .
لقد اغتصبت الثقافة الفلسطينية بقحة وعلانية، وبصمت ومشاركة أهلها وذويها، الذين باركوا وبرروا ذلك الاغتصاب، وداروا بشاعته، بغطاء القضية الوطنية .
عين على الحداثة وقدم مغروزة في الماضي
هذا هو واقع حال المنظومة الفكرية والثقافية للفلسطينيين .ففي الوقت الذي يتداول فيه المحسوبون على النخب الفلسطينية بعض المصطلحات العصرية ، نراهم يتعاملون مع الظواهر الاجتماعية والثقافية والفكرية بعقلية شاعر القبيلة أو شيخها. ولكي تتضح الصورة أكثر، لا بد لنا من التذكير بأن مفاهيم مثل الوطنية،أو القومية والأمة ، أوالهوية ، أوالحق في التعبير ، أو حق تقرير المصير، كما مفهوم الدولة ،إضافة إلى مفهوم الحرية بكافة أنواعها ، هي مفاهيم حداثية جاءت بها أول ما جاءت الثورة الفرنسية عام 1789 ،ولتصبح بعد ذلك نهجا معمولا به في كافة الدول الحديثة ، وأن لهذه المفاهيم مدلولاتها في مجتمعات تلك الدول،والتي تختلف اختلافا جوهريا عن مدلولاتها المستخدمة فلسطينيا . إلا أن تلك المفاهيم والمصطلحات ،صارت تستخدم في الفكر الفلسطيني من خلال خلطها بكافة أشكال القديم، بحيث تبدو والحال هذه مشوشة ومربكة إلى حد كبير، الأمر الذي يبعدها تماما عن التعبير عن واقع الحال المعني.وهذا الخلط برأينا يظهر بمستويات متعددة وجلية ، ففي الوقت الذي يتحدث فيه الفلسطيني عن هدف الدولة كتجسيد لهويته، نراه أقرب ما يكون إلى فكر الجماعات والميليشيات التي تحتقر الدولة بمفهومها الحداثي والجامع، والمعبر عن الانتماء الوطني الحقيقي. فتراه يستخف بفكرة المؤسسة التي يديرها أفراد ذو كفاءة وخبرة بحاجات المجتمع، لصالح فكرة الزعامة والزعيم والرمز، الذي يقود مجموعة من الميليشيات التي تخفق بالرايات وترفع صورة المقاتل والبطل والشهيد والقائد الرمز إلخ...
ولا غرابة مثلا أن تحظى ميليشيا مثل ميليشيا حزب الله بكل هذا التأييد وتلك الحماسة ، على حساب مفهوم الوطن الذي تمثله الدولة بكافة هيئاتها ومؤسساتها التمثيلية .وربما لو أجري الآن استطلاعا للرأي في الأوساط الفلسطينية، لقياس شعبية كل من أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله ،الذي جر لبنان إلى حرب أذاقته الويلات، و أدت إلى تدمير معظم بنيانه لقاء حصاد سياسي صفري، وبين الراحل رفيق الحريري الذي انتهج مسار رجال الدول ،وأسهم بصورة رئيسية في إعادة بناء لبنان الذي دمرته حروب الميليشيات الطائفية ، لوجدنا أن الكفة ستميل بلا شك لصالح السيد نصر الله.
وفي اعتقادنا أن السبب الرئيس في هذا النزوع الأخلاقي والقيمي الذي يشكل أحد أهم دعائم الثقافة الفلسطينية، لظاهرة الأبطال والرموز والمقاتلين، لا تعود كما يتوهم البعض إلى صراعنا مع إسرائيل ، أو إلى الضرورة التي فرضت على الفلسطينيين مقاومة المحتل بوسائل عنفية ، بقدر ما تعود إلى ثقافة ماضوية قبلية الطابع ، تجلّ حملة الرايات، وحملة السيوف ،والأبطال المحاربين ، وتطرب أيما طرب لإيقاعات طبول الحرب، وترى فيها عزة وشرفا يستحق أصحابها الإجلال والتقدير الذي يرتفع إلى مرتبة القداسة.
وربما نجافي الحقيقة إذا ما ادعينا ، أن تلك الثقافة السلفية متغلغلة فقط في المخيال الشعبي ، بل لنا أن نراها أيضا، وبصورتها التي لا تقل وضوحا، لدى من يعتبرون أنفسهم نخبا فكرية ورموزا ثقافية . وهي بهذا المعنى ليست ثقافة هجينة على التركيبة الاجتماعية للفلسطينيين ، لا بل أنها تحاكي وتنسجم وإلى حد كبير مع تلك التركيبة القائمة على أساس من الانتماء للعشيرة أو الحمولة والعائلة والجهة ، و بكل بنائها الفوقي القائم على قيم النخوة والعزة البدوية والفزعة، والثأر، والانتقام ،وإلى آخر من هنالك من قيم سلفية قديمة ،أكثر من انتمائها للوطن ، أو حركات التحرر الوطني ،بما هي مفهوم مديني وحداثي بامتياز.
ولعل الاستدلال الواقعي ،على ما نذهب إليه لا يكون صعبا لمن أراد التقاط مؤشرات الواقع بكل دلالاته العميقة .وللتوضيح سنأخذ على سبيل المثال لا الحصر ،ذلك الشطط والتخبط في موضوع الهوية بالذات، ففي الوقت الذي يستميت فيه الفلسطيني من أجل تأكيد هويته الوطنية ،وانتزاع حقه في الاعتراف بأحقيته في إقامة دولته على أرضه المحددة جغرافيا كشعب كامل التكوين من الناحية الثقافية والسياسية ، نراه يتخلى بكل بساطة عن كينونته الكلية تلك ، لصالح فكرة هلامية وعاطفية غير محددة وغير ممؤسسة ، تؤدي إلى مسخه بالكامل ،وتحوله بكل بساطة من كل ،إلى جزء من "أمة عربية" أو"أمة إسلامية".فهو من جهة يتحدث عن نفسه أمام العالم ،وأمام المحتل بصفته الاعتبارية كشعب متكامل في خصائصه وبنيانه ،ومن جهة أخرى يقف على النقيض تماما من تلك الصورة، عندما يتوجه بخطابه القبلي إلى العرب والمسلمين ، منتقصا من كل تلك الكينونة التي ادعاها.
ولعل تلك الازدواجية التي تظهر من خلال هذا الخلط بين المفاهيم الحديثة والمفاهيم القديمة ،لا تكون المظهر الوحيد على هذا التخبط بين عالمين مختلفين ومتناقضين ، بل لنا أن نستدل عليه أيضا، وبصوره التي لا تقبل اللبس ،من خلال استخدامه المفرط لمفهوم الحرية التي لا تعني لديه أكثر من التخلص من الاحتلال، في حين أن معنى الحرية بمفهومها المعاصر يتجاوز بالتأكيد هذا المعنى ليشمل كافة أنواع الحريات الفردية والاجتماعية للإنسان . ولنا أن نلاحظ في هذا الصدد ،أن الجوع إلى التحرر والانعتاق من المحتل في الذهنية الفلسطينية ، لا يجد ما يماثله من مفاهيم تحترم الحرية في القضايا الأخرى ،مثل احترام حرية الأفراد، بما هي اللبنة الأساسية التي تقوم كافة الحريات في أي مجتمع متمدن ،أو قضية تحرير المرأة ،بما هي مؤشر ومقياس لمدى صدقية المتطلعين إلى الحرية بمعناها الأوسع والشامل . ولنا أن نلاحظ أيضا، ،كيف تم التملص من تلك الاستحقاقات بحجة أولوية طرد الاحتلال على ما عداه ، وكأن تحرير المرأة أو الفرد في المجتمع الفلسطيني ، سيشكل عائقا أمام التحرير المزعوم ، أو كأن تأجيل الاهتمام بهذه القضايا هو الضمانة التي ستجعله ينتقل بخطوات واسعة نحو التحرر من الاحتلال.
وربما لا يتوقف الأمر عند هذا الحد ، بل يتعداه إلى صور ومشاهد أخرى تقلل بدورها من صدقية تطلع الفلسطينيين نحو الحرية، وربما لا نذيع سرا إذا ما قلنا أن الفلسطينيين هم من أكثر الشعوب ولعا بالجلادين من طغاة المنطقة. وليس أدل على ذلك من تلك الشعبية التي حظي بها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ومن بعده الرئيس العراقي والرئيس الإيراني أحمدي نجاد والسوداني عمر البشير الذي وجد من الأقلام الفلسطينية التي انبرت للدفاع عن جرائمه بحق شعبه، أمام المحكمة الجنائية الدولية، أكثر مما وجد في الأقلام السودانية نفسها.
وربما نحتاج إلى الكثير من الكتابات النقدية والجريئة ، لتعرية الدور الذي لعبه بعض المثقفين الفلسطينيين، من الذين تناسوا حاجة المجتمع الفلسطيني الملحة والضرورية إلى التعامل الجدي مع كافة أشكال الحريات ، واستعاضوا عن دورهم هذا بتسويغ ومساندة أنظمة بغيضة وحركة أصولية لم تخف مشروعها الذي يحتقر الحرية، تماما مثلما يحتقر الثقافة بما هي معطى حداثي ومعرفي يتأسس على رافعتي حرية الأفراد وحرية المجتمعات. ولنا أن نشير في هذا الصدد إلى أن الحركات الأصولية مارست كافة أشكال التعبئة المنظمة والعلنية ، بهدف عزل المجتمع الفلسطيني عن العالم وإحداث قطيعة معرفية وثقافية معه. لقد انتشر المد الأصولي في فلسطين تحت سمع وبصر تلك "النخب" التي دافعت عن تلك الأصوليات متخذة من مقارعتها للاحتلال ذريعة لا تقبل الرد، ولا تحتمل الجدل . لقد صمت أوصياء الثقافة هؤلاء، صمت القبور، عن تلك التعبئة التي أضافت نوعا جديدا على التفتت الجهوي والعائلي للمجتمع الفلسطيني بإضافة عامل تشظي جديد يحمل تقسيم هذا المجتمع على أساس ديني وعلى أساس جنسي.
ولعل من المهم التذكير بممارسات تلك الحركات الأصولية التي احتقرت ولا تزال، كافة أشكال الإبداع البشري والتنوع الثقافي ،وذلك من خلال العودة إلى الكيفية التي عبأت بها المجتمع ضد التنوع الديني الذي كانت تباهي به فلسطين على غيرها من دول المحيط العربي .ولنا في هذه المناسبة أن نذكّر بالطرق الإجرامية التي تم من خلالها الاعتداء على مكون رئيس من مكونات الشعب الفلسطيني ، وكيف عانى المسيحيون من اعتداءات مست حياتهم وحريتهم وكرامتهم وأماكن عبادتهم من جراء تلك التعبئة القروسطية ، وأيضا، تحت سمع وبصر المثقف الفلسطيني الذي كان غالبا ما يلجأ إما إلى الصمت ، أو إلى التبرير والتواطؤ والتستر على هذا الدور .
ليس هذا فحسب ، بل لنا أن نذكر في السياق نفسه، كيف تم الاعتداء على حقوق النساء في المناطق الفلسطينية ، وكيف تمت إعادة عقارب الزمن بهن إلى الوراء ، وكيف صارت سياسة التمييز الاجتماعي ضدهن تتخذ أشكالا علنية وقحة ، أدت في النهاية إلى تراجع المكاسب الكثيرة التي استطاعت المرأة الفلسطينية الحصول عليها في الماضي. فصار قتل النساء في قضايا" الشرف" ظاهرة يومية وعادية ولا تؤرق أحدا ، كما صار ارتداء الحجاب، الذي فرض على عموم النساء، علامة ثقافة وهوية ،وعلامة للتمييز بين النساء الصالحات وغير الصالحات .ثقافة لا تعترف بالمرأة ككائن حر.بل تعيدها وبقوة الفكر المطلق والشمولي إلى عهد الحريم ،وإلى حالة العزل عن المجتمع وهمومه وقضاياه.
ولعل الأخطر من كل هذا وذاك لا يقتصر فقط على تلك المظاهر التي تؤكد العودة بالثقافة والمجتمع الفلسطيني كله إلى القرون الوسطى وعبوديتها للمطلق ،بل تعداه لحساب ثقافة أخرى تحتقر الحياة وتجل الموت وتحتفي به ،وتعتبره قيمة أسمى تعلو على كافة قيم الحياة .لقد تحول الموت في الثقافة الفلسطينية السائدة ،من كونه احتمالا واردا وبغيضا، في مسيرة الكفاح الفلسطيني ، إلى قيمة عليا ،وهدف سام مطلوب، ومرغوب بذاته ولذاته. وليس أدل على ذلك من بعض مشاهد الانتفاضة الثانية التي قدمت الأم الفلسطينية بطريقة أدت إلى تشويه صورتها أمام نفسها وأمام العالم. ولعل تكرار مشهد الأمهات وهن يطلقن زغاريد الفرح فوق جثث الأبناء الشهداء ، تكون من الصور المروعة التي تعكس وإلى حد كبير الانحدار الذي وصلت إليه الثقافة الفلسطينية . إلى أن تمكنت تلك الحركات أخيرا من التهام المجتمع كله ، متوجة نجاحها هذا باعتلائها سدة السلطة في انتخابات تشريعية أدت إلى قسمة الوطن الصغير ، وإلى المزيد من التفتيت والتشظي.

وتجدر الملاحظة أيضا، أنه وعلى الرغم من ارتفاع المستوى التعليمي ،وخصوصا، التعليم العالي بين أبناء الشعب الفلسطيني عن غيره من البلدان ، إلا أن هذا التقدم لم يستطع التجسد في ثقافة حداثية توازيه أو ترفد ه. واستمر هذا الفصل التعسفي بين ما يتعلمه الفرد من علوم حديثة وبين كافة قضايا المجتمع الفلسطيني التي استمرت على قديمها .وهذا يمكن تلمسه حتى في دارس العلوم السياسية الذي غالبا ما يعتمد في تحليله لواقعه على ما هو سائد من قناعات وايديولوجيات ، دون محاولة استخدام رصيده العلمي لتقديم الجديد.
ولعله من المهم التأكيد ،على حقيقة أن الثقافة الفلسطينية لم تحاول الخروج مطلقا، وفي أية لحظة من لحظات تاريخها ، من عباءة ماضيها ، وبقيت وفية للقيم البدوية التي تقدس العنف -دون امتلاكها لأي من أدواته- وظلت تسبغ عليه قيم سامية ، في الوقت الذي استخفت، وتستخف فيه بقيم وثقافة التسامح والسلام التي ألحقت جميعها وبطريقة قسرية ، بالنظرة إلى الاحتلال.
ولا بد لنا في هذه العجالة أن نشير إلى أن فصول العنف الفظيعة والعبثية ، التي عاشها الفلسطيني ،بكل ما حملته من مشاهد دامية ومروعة على مدى الانتفاضة الثانية، لم تعط الثمار المرجوة منها في مواجهة عدو مدجج بكل أسباب القوة العسكرية ،وأنه كان من الطبيعي أن تتحول مشاهد الموت المجاني واليومي مع الاحتلال إلى مشاهد مألوفة ، يتأثر بها الفلسطينيون بحكم معايشتها. وكان لا بد أن يرتد هذا العنف إلى صدر الجسد الفلسطيني الأضعف ،الذي لا يمتلك أصلا ،ما يحصنه ضد العنف، بسبب تركيبته القائمة على قيم وثقافة الحمولة والعائلة والجهة ، ليفجره من داخله .كما أن الاستخفاف بثقافة التسامح والسلام اللتان لا يمكن لأي مجتمع أن يستقيم دونهما ، قد أدى إلى غياب لغة الحوار كلغة حضارية والاستعاضة عنها بلغة الدم ، كأسلوب لحل الخلافات بين الفلسطينيين أنفسهم ، فاستبيح الدم الفلسطيني ، تحت فيض من الشعارات التي تمسحت بثقافة المقدس وبالوطنية المشوهة، واستعيض عن قاموس العالم الحضاري اللغوي بقاموس آخر تذكرنا مفرداته بمفردات لغة حرب البسوس ،أو لغة حرب داحس والغبراء.
لقد أفرزت الثقافة الفلسطينية السائدة ،الكثير من القيم والعادات، وأنماط التفكير، الضارة والكفيلة بتهديم الأسس الصحيحة التي تبنى على أساسها عادة المجتمعات القابلة للحياة. فاللجوء الدائم إلى أسلوب التباكي والندب ، كما استمراء البقاء في وضع الضحية التي لا حول لها ولا قوة ، إضافة إلى الاستنجاد الدائم بالغير وانتظار "نخوة" وعطف ومعونة الأشقاء ومعونات الدول المانحة،لا بد وأن تخلق ثقافة مجتمعية كسيحة ومعتلة ، من حيث اعتمادها الكلي على الآخرين ، كما أن وضع كل الآفات، التي هي آفات فلسطينية بامتياز وتعليقها جميعا على مشجب الاحتلال ، لا يمكن أن يقود في النهاية إلى معرفة الذات ومعرفة القدرات الحقيقية لها ، أوتنميتها باتجاهات قادرة على تقديم المبادرات والقيام بالمهام المطلوبة من أجل الارتقاء.
التوجه إلى نقد الذات برأينا هو بداية الطريق الذي يقود إلى بدايات مشروع ثقافي فلسطيني نهضوي مغاير يؤسس إلى الاعتماد على الذات والاعتماد على العقل كمرجعية أولى وأخيرة ، قادرة على فعل المستحيل. كما أن التحرر من قيود الثقافة العربية السائدة في الخطابين الثقافي والسياسي الفلسطينيين ، صار من الضرورات الملحة وخصوصا أن تلك الثقافة لم تجلب لشعوبها بالذات سوى المآسي والويلات والحروب الأهلية والجوع والفقر والاستبداد.
ومن أجل هذا كله ،لا بد من إعادة الاعتبار للعقل الفلسطيني القابع وراء هذا الكم الهائل من الخرافات والأحجيات والأساطير التي يطلقها العقل الغيبي. ولا بد من النظر بكل موضوعية وواقعية لقدراتنا الفعلية دون مبالغة ، أو شطط ،ودون الاستهانة أيضا بمقدرتنا الذاتية على التغيير دون الاتكاء على عصا مرجعيات أخرى عف عنها الزمن وصارت من مخلفات الماضي السحيق.
ومن أجل تحقيق كل هذا ، لا بد من استدعاء الباحث الفلسطيني الجاد وتشجيعه على تقديم دراسات نقدية في هذا المجال وفي كافة المجالات الاجتماعية الحيوية الأخرى. دراسات لا تقيم أي اعتبار للنتائج التي تتوصل إليها ، إذا ما كان الهدف النهوض على أقدام قوية وثابتة من جديد .وهذا لا يمكن أن يتحقق ما لم يتخلص الباحث من عقدة الخوف من التخوين أو التكفير وعقدة العدو الصهيوني، ذلك " البعبع" الذي تحول إلى هاجس يمنعنا من رؤيتنا أنفسنا، ورؤية الحال الذي وصلنا إليه . والقول أن مثل تلك الدراسات ستثير حفيظة بعض المحافظين والدوغمائيين الجاهزين للادعاء بنشر غسيلنا الوسخ على الملأ ، لا يمكن أن تقبل كحجة أو كمبرر للتهرب من تلك المهام الوطنية الضرورية والعاجلة.
وأخيرا لنا أن نؤكد على أهمية إعادة الاعتبار للثقافة كجسد مستقل. وضرورة تحريرها من قبضة السياسة والسياسيين.وعودتها لأخذ دورها التنويري والطبيعي في مجتمع جديد يبني أدواته المعرفية من النقطة التي انتهت عندها معارف العالم وعلومه .

نادية عيلبوني
كاتبة وصحافية فلسطينية مقيمة في فيينا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى