بهجت العبيدي - من تراثنا العربي: الفرابي المعلم الثاني

من سمات الحكام الحكماء الواعين على مر التاريخ، وفي كل الأمم، رعاية العلماء والأدباء والمثقفين، وذلك بصرف الجوائز والمكافآت المالية، أو صرف معاش مناسب للأفذاذ، وذلك حتى يوفرون لهم الأجواء المناسبة للدرس والبحث والإبداع، ذلك الذي بكل تأكيد يعود على الدولة وعلى الحكم فيها بفوائد كثيرة، ولعل مِنْ أكثر مَن اهتم برعاية المثقفين والعلماء، حتى من خارج الدولة التي يحكمها، كان لويس الرابع عشر ملك فرنسا منذ 14 مايو 1643م حتى وفاته 1 سبتمبر 1715.، حيث كان يخصص رواتب شهرية للأدباء والعلماء، في فرنسا وفي خارجها، وذلك بعد موافقة دولهم على هذا المرتب أو تلك المنحة التي يخصصها لهم.

وفي تراثنا العربي كان سيف الدولة الحمداني أحد هؤلاء الأمراء الذين اعتنوا بالثقافة والأدب والعلوم، وكان يحرص أن يكون له مجلس من هؤلاء النوابغ من الأدباء والعلماء والمثقفين، وهو ما يعكس حرص الدولة الحمدانية في عصره، على هذه الفئة المنوط بها تشكيل الوعي لشعب من الشعوب، والقادرة على أن تضع الدولة في مكانة عالية بين الأمم بالعلم والثقافة والفنون.

ولقد كان سيف الدولة الحمداني من هؤلاء الحكام الذين يقدرون للعلماء مكانتهم، وكان مشجعا للأدباء، ومحفزّا للباحثين، ومبجلا للفلاسفة، وهو ما يفسر وجود هذه الكثرة من الأدباء والمفكرين - الذين عَمُرَ بهم العصر - من أمثال: أبو الطيب المتنبي وأبو فراس الحمداني، وأبو العباس النامي وابن نباتة السعدي، والفارابي وأبو الفرج الأصفهاني وابن خالويه والخوارزمي وغيرهم.

وكان لسيف الدولة مع الفيلسوف العربي أبي نصر الفارابي موقفا كاشفا في اللقاء الأول الذي جمعهما والذي وصفه ابن خلكان حيث قال :
ورأيت في بعض المجاميع أن أبا نصر (الفارابي ) لما ورد على سيف الدولة وكان مجلسه مجمع الفضلاء في جميع المعارف فأدخل عليه، وهو بزي الأتراك وكان ذلك دأبه دائمًا فوقف .

فقال له سيف الدولة اقعد .
فقال: حيث أنا أم حيث أنت؟
فقال حيث أنت .
فتخطى رقاب الناس حتى انتهى إلى مسند سيف الدولة، وزاحمه فيه، حتى أخرجه عنه.
وكان على رأس سيف الدولة مماليك، ولهم معهم لسان خاص يسارهم به، قل أن يعرفه أحد، فقال لهم بذلك اللسان: أن هذا الشيخ قد أساء الأدب، وإني سائله في أشياء، إن لم يعرف بها فأحرقوا به.
فقال له أبو نصر بذلك اللسان: أيها الأمير، اصبر، فإن الأمور بعواقبها.
فتعجب سيف الدولة ،وقال له: أتحسن بهذا اللسان. فقال: نعم، أحسن بأكثر من سبعين لسانًا .
فعظم عنده، ثم أخذ يتكلم مع العلماء حاضرين في المجلس في كل فن، فلم يزل كلامه يعلو، وكلامهم يسفل، حتى صمت الكل، وبقي يتكلم وحده. ثم أخذوا يكتبون ما يقوله، وصرفهم سيف الدولة، وخلا به.

فقال:
هل لك أن تأكل؟ قال: لا، قال: فهل تشرب؟ قال: لا، قال: فهل تسمع؟ قال: نعم .
فأمر سيف الدولة بإحضار القيان، فحضر كل من هو من أهل هذه الصناعة بأنواع الملاهي، فلم يحرك أحد منهم آلته إلا وعابه أبو نصر، وقال له: أخطأت .

فقال له سيف الدولة: وهل تحسن في هذه الصنعة شيئًا؟ قال: نعم، ثم أخرج من وسطه خريطة، وفتحها، وأخرج منها عيدانًا، فركبها، ثم ضرب بها، فضحك كل من في المجلس، ثم فكها غير تركيبها، وضرب بها، فبكى كل من في المجلس، ثم فكها وركبها تركيبًا آخر، وضرب بها فنام من في المجلس حتى البواب، فتركهم نيامًا وخرج.
ذلك الموقف الذي يعكس المعارف الموسوعية لأبي نصر الفارابي؛ الذي من حيث التراتب يعد الفيلسوف الثاني - بعد الكندي - في الثقافة العربية، أما من حيث الأهمية فيعد الفارابي - المعلم الثاني بعد أرسطو المعلم الأول - هو مؤسس الفلسفة العربية، كما كان الممهد لظهور كل من الشيخ الرئيس ابن سينا وابن رشد لما كان له من أثر في الفيلسوفين العربيين الكبيرين.

إن مؤسس الفلسفة العربية أبا نصر محمد الفارابي الذي ولد عام 260 هـ/874 م في فاراب في إقليم تركستان (كازاخستان حاليًا) وتوفي عام 339 هـ/950م. لم يكن فيلسوفا فقط، بل كان عالما موسوعيا شغلت اهتماماته كل ما كان موجودا في عصره من علوم ومعارف ذلك الزمان، ومما يميز الفيلسوف العربي الكبير هو حرصه على التعلم طوال حياته، مطبقا المقولة الشهيرة "اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد" فبعد أن عكف في مسقط رأسه على دراسة طائفة من مواد العلوم والرياضيات والآداب والفلسفة واللغات وعلى الأخص التركية بجانب معرفته اللغات العربية والفارسية والرومانية. توجه في سن الخمسين إلى العراق وكان ذلك في حوالي سنة 310 هجرية ، حيث أتم الدراسات التي كان قد بدأ فيها في مسقط رأسه وأضاف إليها مواد أخرى كثيرة، فدرس في حرّان الفلسفة والمنطق والطب على الطبيب المنطقي المسيحي يوحنا بن حيلان، ودرس في بغداد الفلسفة والمنطق على أبي بشر متى بن يونس، وهو مسيحي كان حينئذ من أشهر مترجمي الكتب اليونانية ومن أشهر الباحثين في المنطق، ودرس في بغداد كذلك العلوم اللسانية العربية على ابن السراج، وأتيح له فيها أيضًا دراسة الموسيقى وإتمام دراساته في اللغات والطب والعلوم والرياضيات.

لقد عمل الفيلسوف العربي الكبير على التوفيق ما بين الفلسفة والدين، وكان يرى أن كل منهم يوصل لحقيقة واحدة وهي الله سبحانه وتعالى حيث أن الوحي والعقل كلاهما من صنع الله الخالق ومن ثم لابد أن تكون النتيجة النهائية التي يصل إليها العقل المتأمل - الفيلسوف - هي نفس نتيجة الوحي التي هي وسيلة العامة في الوصول إلى الله.
ومن هنا حاول الفارابي أن يوفق بين كل من أفلاطون وأرسطو، في رسالته "الجمع بين رأيي الحكيمين"، تلك المحاولة التي بنيت على خطأ لم يكن لأبي نصر فيه شيء، حيث اعتمد على ترجمة منسوبة لأرسطو لم تكن دقيقة، حيث اعتمد في الحديث عن أرسطو على كتاب "إيثولوجيا" غير مدرك أن هذا الكتاب ليس لأرسطو ولكنه من موسوعات أفلاطونية.
ومع ذلك ظل عدد كبير من المفكرين والباحثين، المعاصرين بخاصة الذين اطّلعوا على حقيقة الأمر على اهتمامهم بكتاب الفارابي، ولم يكن هذا نابعًا لديهم من اقتناع بأنه محق في موضوعه ومقارنته، بل لاعتبارهم - كما يقول الدكتور ألبير نصري نادر، الذي قام بتحقيق معاصر للكتاب - أن «لهذا الكتاب قيمة تاريخية كبرى، اذ أنه يوضح لنا مدى اطلاع الفارابي على الترجمات العربية لبعض كتب الفلسفة اليونانية، لا سيما كتب افلاطون وأرسطو، ولو أنه اطلع ايضًا على بعض «تاسوعات» أفلوطين من دون أن يعلم انها له، كما أن هذا الكتاب يبيّن لنا كيف استخدم الفارابي هذه الترجمات في التوفيق بين رأيي الحكيمين».

إن محاولات التوفيق بين العقل والنقل، كانت دليلا على صراع فكري وديني عنيد كان قائمًا، وسنجد لهذه المعركة امتدادا عند أبي حامد الغزالي، وتحديدًا ضد الفارابي وبعده ابن سينا، في كتابه الأشهر «تهافت الفلاسفة» والذي سيرد عليه لاحقًا ابن رشد في «تهافت التهافت». والمعركة كلها كانت اذًا قائمة حول العقل الذي كان يرتبط بفلسفة أرسطو العقلانية. ومن هنا كان يهمّ الفلاسفة المسلمون أن يبيّنوا أن العقل لا يتنافى مع الدين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى