مقتطف ضاهر عيطة - "لحظة العشق الأخير".. مقطع من رواية

لاحت لمنار صورة صهيب، وهو يتحدى نزيف الموت، وقد علقت مشنقته وسط ساحة أحاطت بها وجوه أمية غارقة في مستنقع الجهل، أفزعها انكبابه على الأوراق، وبدا لها قلمه كأنه سيف يسعى لغزو تربة الأميين، وجرح كرامتهم التي تحنطت على ملامح وجوههم منذ عهود، وما إن هموا يدافعون عن الإرث الذي أوشك أن ينتهك، وينتزعون السيف من بين أصابع الغازي، حتى انبرت أوراق صهيب وأقلامه تتصدى لوجوههم الوحشية، فتتراجع خطواتهم بطيئة، إلا أن صمود صهيب راح ينهار شيئاً فشيئاً نتيجة غربته ووحدته، وراحت سيوف الأوراق والأقلام تنسل من بين أصابعه رويداً، رويداً، وحمم نار حقد الأميين تحرق حصون ما بقي من فتات أسلحته، وقبل أن تنقض عليه الحيوانات الأمية لتنهش لحمه، تخرج منار من جحر أرنبة، استشفت بحدسها قرب وقوع الكارثة، فتمسك بيده، ويتسللان كطيفين بعيداً عن العيون المفترسة، لئلا تضطر إلى لم أشلائه المبعثرة تحت حد سكاكينهم المتعطشة للدم دائماً. كأنما حاله كحال مضر، كلاهما كان يكتب في منفاه، سطوراً تضيّق عليه مساحات الحياة إلى حد الاختناق.
تراهما منار صديقَي طريق، صديقَي مهنة، صديقَي هاجس.. الشبه الخارجي بينهما ليس موجوداً على الإطلاق، فنحولة جسد صهيب، وبشرته السمراء، وعيناه العسليتان، وأنفه المتحفز، تجعل هوة الشبه بينهما شاسعة، إذا ما قيس الأمر بهيئة مضر الممتلئة، وبياض بشرته، وزرقة عينيه، ومع ذلك حرك فيها حضور صهيب ما كان قد حركه مضر من قبل، حتى وهي تحاول أن تنجيه من الأفاعي التي استوطنت الفندق، أحست وكأنها تنجي مضر..
تحسست وتلمست الأمن بالقرب من صهيب، شعرت وكأنها عثرت بعد رحلة الصحراء الطويلة، على نجم يضيء طريقها ويهديها إلى بوصلة رحلتها..
تهمس منار في أعماقها:أبداً لم يخطر لي، أن تنزلق قدماك في متاهة الشؤم، و الشهوة، والفجور، وتنزلق معها جميع مخططاتي وتحضيراتي وجهودي التي دأبت على بذلها طوال سنين!.. فما الذي جنيناه كلانا بعد كل هذا يا صهيب ؟ سوى القهر والشقاء والبرد!..
تغدو منار على مقربة من صبا الغرام، تسمعها بوضوح، فيتأكد لها أن صديقتها لم تعد عابئة بالرعب والخوف، لكونها أدمنت اللهو ببقع ضوء الشمس.
يصدر صوت عنيف من باب الحجرة يعقبه صوت المحقق:
خدوهن ..
تصرخ منار:
_لا تعيدوني إلى عزلتي، دعوني أبقى هنا، فجدران زنزانتي تنز رماداً، ودماً، وموتاً.
يضيع صراخها في جلبة الأصوات.
بينما صبا الغرام مازالت تعاني من أهوال الرعب والخوف والبرد، عكس ما خيل لمنار.
فها هي تصرخ متوسلة :
_ احكموا بشنقي!.. بتذويب جسدي!.. بموتي!.. سألتكم بالله!.. سألتكم بعطف حميد!، بجبروته!.. لا تعيدوني ثانية إلى وحدتي!.. لا تعيدوني إلى الجرذان وكسرات الخبز والبرد!.. توقف يا خيط الشمس الدقيق!.. لا ترحل!.. دع زمن التحقيق يستمر طويلاً!.. دع فكري يراجع الأحداث التي جعلت من عشقي لصهيب يستحق كل هذا الظلم والهلاك!..
2010/ دمشق

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى