خليل حمد - فالج لا تعالج: زمن الكورونا والعرس الجنائزي .

اعراس قليلة حفرت لها مكانا عميقا في الذاكرة من زمن الطفولة المبكرة الجميل، زمن ما قبل الاحتلال عام 67. منها عرس المرحوم جارنا الأستاذ يوسف عبد القدار، والتي أقيمت احدى حفلاته تحت شجرة السدرة وسط البلد، وعرس ابن العم تيسير سالم، وأقيمت حفلته امام الجامع الكبير. وقد شهد هذان العرسان تحديدا احتفالات اسطورية، ما يزال صداها يتردد في اذناي، رغم مرور كل ذلك الزمن. وكانت تمثل نموذجا للأعراس الباذخة والعاصفة الجميلة.


واذكر ان اعراس ما قبل الاحتلال بشكل عام، كانت أقرب الى المهرجانات الضخمة الصاخبة، وكأنها صفحات من حكايات ألف ليلة وليلة، وكانت طقوسها تمتد أيام وايام، تقام فيها الافراح، والليالي الملاح، ولا يتبقى أي شكل من اشكال الفرح، الا ويقام بمشاركة شعبية واسعة من الصغير والكبير. حتى إذا حمي الوطيس واقترب اليوم الموعود، يوم الدخلة المشهود، أقيمت الولائم واستقدم العجاوي، وربما اثنين او ثلاثة، او اربعة، وأقيمت حفلات الزفة التي يتبارز فيها الشعراء، العجاوية، وكان من موضوعاتها السيف والقلم، والبيضه والسمرا وغيرها من المواضيع التي تثير حماس الجمهور وتطرب الحضور فينقسم الناس صف مع هذا العجاوي، وصف مع ذلك العجاوي فيعلو الهرج والمرج، ويشتد تصفيق الايادي وتهتز الخواصر على إيقاع الطبل الرهيب، والذي تهتز له القلوب وتغني له الحناجر. وغالبا ما كانت تبدأ أي زفة بافتتاحية تقول " صار اول القول نمدح بذكر النبي...".

وفي تزامن مع الزفة كانت تعقد حلقات الدبكة على أنغام الشبابة، وكان أشهر عازفيها في ذلك الزمن الجميل المرحوم محمد الشريف الذي تربع على عرشها دون منافس، والذي اتقن العزف الى حدود مذهلة، رغم عدم معرفته بالنوتة الموسيقية، وكان إذا عزف والى جواره قووييل يقول الشعر الجميل، أطرب الحجر والشجر وارقص البشر. وكان من العتابا المرافقة لنغمة الشبابة اغنية " لظل أغني واظل أغني تا أخلى الأرض ترقص من فني"، وكانت الأرض فعلا ترقص وتهتز طربا لذلك الفن الأصيل.

اما إذا ما عَزف المرحوم محمد الشريف نغمة "الطيارة" تحديدا وهي احدى السمفونيات الراقصة، فتجد الشباب يتراقصون وقد طاروا طربا ونشوة وحماسة. وكان أبرز العارفين بفن للدبكة يتحلقون، وكان على راسهم حسن المسعود، وطعيمة الحسن، ووجيه الجبر، ومحمد سعيد الصلاح، ومحمد عبد الجليل، وقاسم الشراري، وغيرهم الكثير من شباب القرية، الذين كانوا في معظمهم يتقنون تلك الرقصة الشعبية بمهارة تسلب الالباب.

وكانت حفلات الدبكة والزفة تقام على الاقل في ليلة الحناء وفي اليوم التالي يوم الزفة العظيم، حيث يبلغ الفرح منتهاه. اما الزفة فكانت أبرز احداث ليلة الدخلة، وتبدأ من امام بيت العريس، حيث يتم زفة العريس زفة قصيرة يشارك فيها أقاربه وأصدقاؤه احتفالا بانتهاء طقوس حمام العريس، استعداد لليلة الكبيرة، وغالبا ما كانت هذه الزفة تبدأ بأغنية "طلع الزين من الحمام". ثم يسير موكب الزفة من وسط البلد الى مفرق الصفراء، او امكان أخرى مثل شجرة السدرة او ساحة المدرسة، وهناك يحمى وطيس الزفة ويصل الى الذروة، ثم يسير الموكب مرة أخرى الى حيث يدخل العريس على عروسه بعد ان يشبعه أصحابه ضربا بمطارق الرمان الا من تمكن من الإفلات وهرب ولم يضرب.

وأحيانا كان يقام بالتزامن مع الاعراس مهرجان سباق خيل في ارض لقنه لصاحبها المرحوم أبو عارف والتي كانت خلة أي ارض واسعة، ولم تكن مزروعة بالأشجار. ومن طقوس ذلك المهرجان ان يتمكن الخيال من التقاط جلد خاروف عن ارض السباق، واذكر تماما ان أبرز الخيالة في ذلك الزمن الجميل كان عيسى الخليل، وقد شاهدته بام عيني وانا قريب من المضمار وهو يميل على فرسه ليلتقط ذلك الشيء عن الأرض من على ظهر فرس بيضاء جميلة ورشيقة مسرعة.

المهم ان طقوس العرس قبل الاحتلال كانت طقوس مذهلة، وهي مصدر فرح لا ينضب، ومهرجان تراث شعبي، وبمشاركة شعبية واسعة.

وما ان سقطت الضفة العربية وبسط الاحتلال سطوته، حتى انتهت تلك الاعراس الجميلة بطقوسها الأسطورية الجميلة الى غير رجعة. وحلت الكآبة محل الفرح، وانتهت معظم طقوس الزفة، والدبكة بهيبتها المذهلة، وتبدل الحال وصارت الاعراس مناسبات يجتر الناس فيها الفرح اجترارا، ذلك إذا لم تتحول الى مناسبات يندبون فيها الحظ والتباكي على ما جرى وكان.

وعزف الكبار عن المشاركة في الاعراس، وصارت معظم الاعراس اشبه بتجمعات للأطفال، فارغة في معظمها من المحتوى الجميل وطقوس الفرح. فمن اين يأتي الفرح، وقد جرح السقوط الكبير كرامة الرجال فلم يعد في قلوبهم مكان للفرح، ولم تعد ارجلهم قادرة على ان تتراقص فرحا لشيء وقد سحقتهم مشاعر الهزيمة. كما توقفت مهرجانات سباق الخيل تماما ولم تقام ابدا بعد الاحتلال. ولولى قانون العيب والرغبة في مجاملة الأقارب والاصحاب لربما عزف الناس عن أي مشاركة في أي زفة عريس. لكن الزمن كان كفيلا بأن يبدل الأحوال وتعود الافراح، وتقام الليالي الملاح، واستعاد الناس طقوس الفرح، من طقطق الى سلام عليكم، لكنها ظلت مسخا، ابنا مشوها، وحدثا مببتورا، مقارنة بما كان يجري من طقوس قبل الاحتلال. وظل الحزن ملازما للأعراس. وأصبحت مناسبة لتذكر مأساة النكبة أكثر منها للفرح.

واذكر انني حين تزوجت في الكويت في عام 1988 كتب اخي مصطفى خليل على بطاقة العرس، وهو مدير مطبعة هناك، عبارة تعكس المزاج الذي ظل مسيطرا على عقول الناس بعد النبكة. فقد روس بطاقة الدعوة الى العرس بعبارة " افراحنا عودتنا" وهذه العبارة تقول الكثير.

ومع الزمن حلت الدحية الشبابية محل الزفة الشعبية التراثية، وأغاني الطرب الأصيل، ومحاورة الشعراء العجاوية ليرقص على أنغام الدحية الشباب حتى دون معرفة معاني كلماتها غير المفهومة.

والحق يقال لقد ساهمت القاعات الواسعة، التي أصبحت مسرح احتفالات الزواج، في إقامة حفلات جميلة على أنغام الدي جي والاغاني الراقصة، لكن الفرق بينها وبين طقوس العرس قبل الاحتلال كان وسيظل كالفرق بين الثرى والثرية.

وظل الامر مقبولا ومعقولا بشكل عام والى حد بعيد، الى ان حل علينا على حين غرة زمن الكورونا اللعين. وصدرت عن الجهات المسؤولة تعليمات بالتباعد الاجتماعي، وإلغاء التجمعات والاحتفالات، واعتبرت الاعراس واحدة من اسوأ مصادر انتشار العدوى. وصارت الاعراس تقام على حين غرة، وفي الخفاء، لتجنب مخالفة القانون والعقاب ودفع الغرامات وربما السجن، قبل الاهتمام بصحة الناس وسلامتهم من العدوى...

وكان ان عقد ابني امجد في مطلع هذا الزمن الاغبر عقد قرانه. أي زمن الكورونا اللعين. وقبل اتساع انتشار الوباء الذي دفع الى اعتماد إجراءات قاسية لمنع انتشار العدوى. والابناء فلذات الاكباد. ويود الاب والام والاهل والأحبة جميعا ان يشاركوا العريس فرحته، فمثل هذا الحدث ينتظره الاهل طوال العمر، ولا يمكن تصور ان يتم عرس من غير طقوس زفاف مدوية، وحفلة طنانة رنانة.

لكن الجائحة عطلت الحياة بكافة مظاهرها، وصارت التجمعات بؤر لنقل العدوى ومخالفة للقانون. فما العمل؟ خاصة ان وجود امجد الموظف في شركة اتصالات في الأردن الحبيب، يشكل مشكلة إضافية، فالجسور مغلقة والحركة شبه مستحيلة وقد يترتب عليها تبعات صعبة ومؤلمة.

وكنت في وقت مبكر قد استشرفت المستقبل وتوقعت من واقع المعطيات الكارثية، ان تسوء الأحوال شيئا فشيئا، فحاولت مع مطلع الصيف الدفع باتجاه انجاز العرس ضمن طقوس معقولة اثناء فترات السماح بإقامه الاحتفالات. لكن ظل حضور العريس يشكل مشكلة لوجستية، بل أصبحت الأمور أكثر تعقيدا من قبل، خاصة بعد الانتشار الواسع للعدوى في الأردن، والتشديد على الحركة اكثر فاكثر. وانقضت اشهر الصيف ونحن مكانك سر.

وحيث انني استشرفت المستقبل من جديد، وتوقعت ان يتأزم الموقف الكوروني بصورة كارثية، مع دخول فصل الشتاء، وبما يحمله ذلك الواقع المرير من احتمالات مخيفة، فربما يصاب أحدنا انا او ام العريس او العريس او العروس او اهل العروس بالعدوى القاتلة، وتحل الكارثة، صرت اسعى بكل ما اوتيت من حيلة وأدوات اقناع لاستعجال الزفاف، مهما تيسر من طقوس ضرورية لإشهار الزواج حسب الشرع والعرف دون الالتفات الى طقوس الزواج التقليدية. لكن ذلك كان يعني في زمن الكورونا الامتناع عن إقامة اية طقوس احتفالية، يمكن ان تؤدي الى نقل العدوى، وبالتالي التسبب بالضرر لنا وللناس ونصبح قصة على كل لسان.

تصور معي ان يتم زفاف حبيب دون طقوس فرح ودون حفل ولو بصورة هزيلة؟ كم هو مؤلم ان تتخلى عن حلم الاحتفال في زفاف فلذة كبدك. لكن المخاوف من الاحتمالات المفتوحة كانت كبيرة وتدفع باتجاه انجاز العرس بل والاستعجال في ذلك دون ان يتسبب هذا الاجراء باي اذى ولو على حساب فرحة الاهل والاحباب.

وما ان فتحت نافذة امل حتى سعيت لاستثمارها، فقمنا على تسجيل اسم العروس في المنصة للسفر. وما ان تحصلت الموافقة، حتى صرنا امام خيارات قاسية ومؤلمة، لكنني اصررت اصرارا متطرفا على ان سلامة الناس ونحن والاهل من الناس، واعتبرت ذلك اهم من طقوس العرس التقليدية، ورفضت إقامة حفل زفاف سيكون مبتورا أصلا لعدم وجود العريس، والذي لو أقيم سيكون مخالف للقانون وفي الخفاء وقد يتسبب بالمرض والموت للأحباب.

ولما جاء الموعد المحدد للسفر، سافرت العروس بعد حفل وداع محدود من قبل اهل العروس، والذين وافقوا مشكورين، لكن على مضد واستحياء، على استكمال طقوس العرس دون إقامة افراح وليالي ملاح، وجريا على ما صار طقوسا بديلة عند الناس، وعلى ان يتم الاشهار عبر الإعلان عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي. وقد حصل وتم إتمام الزفاف فعلا دون ان تطلق الحناجر ولو زغروته واحدة، وربما بكت العيون خلف الستار دموعا حارة، وتحسرت القلوب على موت الفرح وأزمان ما قبل الكورونا.

اما الاستياء فجلة تجمهر عند أميرتي ابنتي شروق وأظن انه لو كان فايروس الكورونا اسدا والتقته شروق لقتلته بأصابع يديها لشدة استيائها منه لإفساده فرحتنا. وكذلك عند زوجتي وشريكة حياتي ام العريس، وعند جناحي الاخر الى الجنة أميرتي ابنتي شذا لكنه كان عندهن اقل صخبا وضجيجا.

فكان زفاف زمن الكورونا وللأسف الشديد خالي من أي فرح، او حتى طقوس فرح. بل والحق يقال كان اشبه بطقوس جنائزية، وليس عرسا وفرحا، وترك ذلك غصة في حلوقنا وقلوبنا لن تزول منها ابدا الى يوم القيامة.

يا له من زمن لعين زمن الكورونا.





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى